rيبيتون في المساجد و يتغذون على البطيخ و الكسرة
محمد و مختار و عبد الحق و آخرون، هم شباب في مقتبل العمر  قدموا من عمق الصحراء هربا من شبح البطالة و الفقر، فقطعوا مسافات طويلة حالمين بمستقبل أفضل في مدن الشمال، التي استقبلت  من قبل  أصدقاء لهم وأقارب و معارف و شباب سمعوا بقصص نجاحهم فساروا على دربهم لتقودهم الأقدار إلى قسنطينة، و غيرها من المدن الكبرى، أين يمتهنون أنشطة تشتهر بها مناطقهم كبيع الشاي و الأعشاب و الخياطة، فضلا عن بيع منتجات حرفية بسيطة، كصناعة أدوات النحر التقليدية، يعيش هؤلاء الشباب اليوم، في ظل ظروف صعبة لا تختلف كثيرا عن ظروف اللاجئين، فأغلبهم محرومون من دفئ العائلة ويعانون من أوضاع جد صعبة، إذ يلجأون للمبيت في المساجد أو لكراء شقق آيلة للانهيار تكلفهم أحيانا كل ما يكسبونه من مال خلال أيام من الكد و العمل.
النصر عاشت جانبا من يوميات شباب تركوا ولاياتهم الجنوبية، ليقطعوا مسافات طويلة تتجاوز 1500 كيلومتر، نحو المدن الشمالية و الداخلية بحثا عن مصدر رزق ينتشلهم  و عائلاتهم من الفقر  ، إذ وقفنا على وضعهم الاجتماعي الصعب الذي تبدو انعكاساته على أجسادهم النحيلة و وجوههم التي أنهكها التعب و البؤس، مع ذلك فغالبيتهم يشتركون في خصال عديدة أبرزها الخجل و نبل الأخلاق، و يحظون بمحبة الجميع، غير أن ذلك لم يعوض دفء عائلاتهم  التي يغيبون عنها لسنة كاملة أحيانا، ولا يزورونها سوى مرة كل أشهر، كما هو حال بعض من دفعتهم الظروف القاسية للسفر نحو عاصمة الشرق الجزائري بحثا عن فرصة كبيرة قد تغير مجرى حياتهم.
محمد يزور عائلته مرة واحدة  في السنة
محمد بغداد، شاب في 24 من العمر، ينحدر من ولاية أدرار، و يشتغل كبائع في محل للشاي و التمور المحشوة بمختلف أنواع المكسرات بحي الجزارين العتيق، معروف بطبيته و نبل أخلاقه، و محبوب عند سكان الحي و تجاره، حسب ما أكده أحد الباعة، الذي  قال لنا، بأن الشاب يتمتع بطبعه الهادئ و يحظى بمحبة كل من يعرفونه، كما أنه خجول و قليل الكلام و يكتفي عند الحديث إليه برسم ابتسامة عريضة على وجهه، و هو ما لاحظناه خلال احتكاكنا به.
و قد رفض محمد في البداية التحدث إلينا أو حتى السماح لنا بأخذ صورة له، غير أنه و بعد إصرارنا أخبرنا بالكثير عن حياته وعن ظروف عيشه و عائلته، لكن بصوت خافت و باختصار شديد، إذ قال، بأنه ينحدر من عائلة ظروفها الاجتماعية جد صعبة، فوالده يعاني لتوفير لقمة العيش، كما تفتقر الأسرة لأبسط متطلبات الحياة، لذا فقد قرر بعد رسوبه في شهادة البكالوريا، أن يتوجه نحو المناطق الشمالية و الداخلية التي تعد قبلة لأبناء الجنوب في السنوات الأخيرة بحثا عن عمل، بعد أن شجعه على ذلك عدد من أصدقائه الذين التحقوا منذ سنوات بقسنطينة، و الذين وجدوا في بيع الشاي  تجارة مربحة.
الاصطياف حلم بعيد المنال
وقد التحق محمد بقسنطينة، منذ أكثر من سنتين، بعد أن مهد له صديقه الطريق و عرفه على عدد من أبناء الجنوب الذين يشتغلون هنا، ليلاقيه القدر بمصطفى و هو صاحب محل لبيع الشاي على مستوى حي الجزارين العتيق، فاقترح عليه هذا الأخير، العمل لحسابه كبائع مقابل أجرة قال، بأنها تكفيه لسد حاجياته الأساسية، يخصص جزءًا منها لتسديد تكاليف الكراء  المقدرة بـ 12000 دينار في الشهر، لكونه استأجر منزلا قديما على مستوى حي القصبة، بينما يذهب الجزء المتبقي لمصروفه اليومي، موضحا بأنه يتكفل بنفسه بتحضير وجبتي الغداء و العشاء و غسل الملابس و تنظيف البيت.
محدثنا أخبرنا، بأن من يقف على تفاصيل حياته اليومية، يظن بأن الوضع عادي و أن بإمكان أي شخص تحمله، لكن ما يعيشه في الحقيقة  هو معاناة ضنكة كما عبر، يتخبط فيها بمفرده بعيدا عن الأسرة، التي تعتبر سندا قويا لكل شاب في مثل هذا العمر الحساس حيث أضاف و عيناه مغرورقتان بالدموع، بأنه و إلى جانب ظروف عيشه الصعبة،  يكتفي بزيارة عائلته مرة واحدة في السنة و ذلك خلال عيد الأضحى المبارك،  فيما يقضي عيد الفطر و باقي المناسبات بمفرده في قسنطينة، كما أن العيش في بيئة غير البيئة التي نشأ فيها، وحيدا و في ظل ظروف صعبة يعد تجربة مريرة جدا، موضحا، بأن وضع أبناء الجنوب الفقراء في بداية نشاطهم بقسنطينة و عدد من الولايات المجاورة، أشبه لحد ما بوضع اللاجئين الأفارقة، لدرجة أن العديد من سكان المدينة يخلطون بينهموبين هؤلاء خاصة و أنهم يتشابهون في لون البشرة، مشيرا إلى أنه  فرض وجوده في مدة سنتين و استطاع أن يعتمد على نفسه و يخرج من مستنقع البطالة، الذي لا يزال يتخبط فيه أترابه بولايات الجنوب البعيدة.  
مختار.. شاب يستغل بقايا مواد البناء لتوفير قوت يومه
مختار شاب في 18 سنة من العمر، أجبرته الظروف الاجتماعية هو الآخر، على ترك عائلته القاطنة بتمنطيط بأدرار، و القدوم إلى قسنطينة مصطحبا أخاه الأصغر محمد البالغ من العمر 13 عاما، حيث سافر و بجعبته مبلغ صغير من المال يكفي لتسديد مصاريف النقل و الأكل، غير أن ذلك لم يعقه ولم يثبط عزيمته بالرغم من صغر سنه كما عبر، حيث قطعا معا مسافة 1547 كلم باتجاه عاصمة الشرق، مستغرقين نحو 19 ساعة للوصول إليها، ليختارا الاستقرار ببلدية بني حميدان  و يمتهنا صناعة أدوات النحر بوسائل بسيطة لا تتعدى المطرقة و المنشار و قطعة خشبية و آلة تلحيم، يستعملان فيها بقايا مواد البناء و كذا جذوع الأشجار، مستغلين قارعة الطريق للانتاج و البيع، و هو عمل قال محدثنا، بأنه لا يلقى رواجا في الجنوب.   


البطيخ الأصفر و «الكسرة» وجبة أساسية في الصيف
النصر، قضت القليل من الوقت مع هذا الشاب، الذي كان حافي القدمين، يرتدي ملابس رثة و شاحب الوجه يتصبب عرقا، نتيجة تعرضه المستمر لحرارة الشمس، حاولنا أن نشاطره جزء من معاناته اليومية، لننقل صورة واضحة عنها، خصوصا بعدما لاحظنا كيف كان  يجد في استخدام أداة التلحيم، وهو جالس تحت مظلة شمسية ثبتها على قارعة الطريق مفترشا غطاء  شتويا، و على يساره سلة بلاستيكية تحتوي على أدوات يستعملها في حرفته و كذا قارورة غاز موصولة بأنبوب التلحيم، أما على يمينه فقد وضع وجبة غدائه المتمثلة في قطعة «كسرة» و بطيخة صفراء و قارورة ماء، أما في الجهة المقابلة له فقد كان يعرض فوق « علبة كرطون مفروشة «، سكاكين و سواطير صنعها بنفسه مقابل أسعار تتراوح بين 1500 و 2500 دينار، و قد بدا لنا، بأن منتجاته تلقى بعض الاهتمام من الزبائن كما وهو ما أكده بدوره، مشيرا مع ذلك، إلى أن دخله اليومي لا يكفي سوى لشراء  وجبتي الغداء و العشاء، فيما لم يتمكن من توفير نفقات تأجير بيت يقيه و أخاه قساوة الطبيعة و كل المخاطر المحدقة بهما في الخارج، إذ يلجآن للمبيت في المسجد لذلك فهو يسعى جاهدا هذه الأيام مثلما قال، إلى تطوير حرفته أو حتى البحث عن عمل آخر، يخرجه من نفق الفقر.
ترك الدراسة ليرافق آخاه في البحث عن لقمة العيش
محمد طفل في  13  من العمر، يصارع ليكسب عيشه، فقد فتح عينيه على الدنيا  كما يقول و لم يتذوق منها سوى المرارة، و لم يسعد يوما بلباس جديد، و لم يحقق حلمه في ركوب دراجة نارية و لا في زيارة شاطئ البحر الذي يعتبر بالنسبة إليه طموحا صعب المنال، إذ لم يعرف في صغره سوى قساوة الحياة كما عبر، جراء الظروف الاجتماعية القاسية لعائلته و انعدام أدنى متطلبات العيش في المنطقة التي قدم منها، لذلك وجد نفسه  مجبرا على ترك مقاعد الدراسة في المرحلة الابتدائية، ليرافق أخاه في رحلة البحث عن لقمة العيش، وهي تجربة تركت آثارها على وجهه الذي لا تعكس ملامحه سنه الحقيقية،  كما أن مظهره لك يكن يختلف عن مظهر أخيه مختار.
حدثناه فقال لنا، بأن المنطقة التي ينحدر منها معزولة جدا و تفتقر لأدني شروط العيش الكريم، كما لا تتوفر على فرص للشغل، و عائلته لم يعد بإمكانها توفير الأكل و الملبس له و لشقيقه، لذلك فقد وجد نفسه مجبرا على تركها للبحث رفقة أخيه عن فرص عمل في الشمال، إذ يساعده في جمع المواد الأولية لصناعة معدات النحر، و التي هي عبارة عن مخلفات مواد البناء، وقد أخبرنا، و هو مطأطأ الرأس بأنه عانى في بادئ الأمر كثيرا لدرجة أنه شعر بالندم، خاصة في فصل الشتاء نظرا لبرودة الطقس حيث كان بحاجة للباس يقيه الصقيع لكنه لم يتمكن من الحصول عليه.
من حدثناهم من شباب الصحراء الآخرين أكدوا لنا، بأن وضع أبناء الجنوب في قسنطينة يختلف من واحد إلى آخر، فهناك من يمتلكون محلات و تمكنوا من توسيع نشاطاتهم التجارية المتمثلة في بيع الألبسة و جهاز العروس و استطاعوا توفير مناصب شغل لأبناء مناطقهم على مستوى العديد من ورشات الخياطة بالخروب و علي منجلي، و معظمهم قادمون  من غرداية التي أسس أبنائها مجتمعا اقتصاديا قويا و متراصا في العديد من المدن  بالمقابل فإن الكثيرين لا يزالون يعانون من الفقر المدقع و ينتظرون تحقيق الحلم يوما.
أ.ب

الرجوع إلى الأعلى