خلف التلال الصخرية البيضاء، تتخفى تمرسطين خجلا و كأنها لا تريد أن تفقد تاريخها العريق و طبيعتها العذراء و تصاب بعدوى التغيّرات التي تعصف بعادات و تقاليد الأرياف الجميلة، هي قرية فلاحية صغيرة بولاية قالمة، لكنها كبيرة بماضيها الحافل بالأحداث و بسهولها المترامية على مد البصر.
هنا عاش كبار الكولون و سيطروا على مقدرات الجزائريين و حولوهم إلى خماسة و عبيد بمزارع القمح و الغنم و الأبقار، بواحدة من أخصب الأراضي الزراعية بسهل الجنوب الكبير و مازالت آثار القصف و الدمار ماثلة للعيان على الجدران و الأبواب الحديدية العملاقة، لقد كانت تمرسطين حصنا منيعا للمعمرين و استماتوا في الدفاع عنها خلال حرب التحرير، قبل أن يستسلموا و يغادروا بلا رجعة.   
مرت سنوات طويلة على تيمرسطين و هي تقاوم الاحتلال مستمدة قوتها من جذورها الأمازيغية و العربية و ربما من حضارات قديمة تركت آثارها هنا في قلب السهل الخصيب، موطن القمح البليوني الشهير.  
النصر عاشت يوما كاملا مع أهالي المنطقة، الذين تحدثوا عن تاريخها و انشغالاتهم و معاناتهم مع الطبيعة القاسية و الفيضانات و العطش و أزمة النقل و التغطية الصحية و ثقل الديون البنكية و ارتفاع تكاليف إنتاج القمح و تراجع خصوبة الأراضي، حيث لم يعد مردود الهكتار الواحد قادرا على تعويض تكاليف الإنفاق على الموسم الفلاحي.  
تمرسطين.. تاريخ عريق


سنة 1924، قام المعمر الكبير «جاكي» عضو البرلمان الفرنسي، ببناء مزرعة كبيرة بتمرسطين قرب عين رقادة جنوب الولاية و هي واحدة من أربع مزارع كبرى في الشمال القسنطيني، تستحوذ على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية الخصبة و فيها آلاف العمال من الخماسة الجزائريين الذين كانوا أقرب إلى العبيد منهم إلى عمال يمتلكون الكرامة و الإنسانية.  
بهذه المزرعة الكبيرة التي تمتاز بهندسة عمرانية عريقة، كان المعمر «شافانطو» نائبا للمزارع الكبير «جاكي» و هو من يدير العمل بحقول القمح و مزارع الأغنام و الأبقار و ينجز التقارير و يجلب العمالة الرخيسة من سكان المنطقة الذين يعانون من الفقر و الجوع.
حول هذه المزرعة تشكلت تجمعات للعمال القادمين من مختلف مناطق سهل الجنوب الكبير بقالمة و تسمى إحدى هذه التجمعات «دوار الخدامة» و تجمع آخر هو تمرسطين الذي ظهر سنة 1958 في إطار مشروع قسنطينة الذي أطلقه الجنرال «دوغول» لعزل سكان الجبال و الأقاليم الريفية الفقيرة عن الثورة، من خلال برامج اقتصادية و اجتماعية و ثقافية.
يقول سكان تمرسطين متحدثين للنصر، بأن المعمر الكبير «جاكي» عضو البرلمان الفرنسي، أقام مسكنا جميلا هنا بهذه المزرعة و كان يقيم فيه عندما يزور المنطقة للاطلاع على سير العمل بمزارع القمح و الأغنام و الأبقار، ثم يغلقه و لا يمكن لأي معمر آخر الدخول إلى هذا المسكن الفاخر حتى و لو كان «شافانطو» مدير المزرعة.   
و يتداول السكان قصة تقول بأن الشهيد «أحمد لبيض» أحد أبطال معركة مرمورة التاريخية ببلدية بوحمدان، كان من بين عمال المزرعة و كان صيادا و قناصا ماهرا و حدث مرة أن مر ذئب قرب المزرعة و عندما رآه أحمد لبيض، قال بأنه لو يجد بندقية فإنه سيسقطه من مسافة بعيدة، فسلمه «شافانطو» بندقية صيد ليختبر صدق كلامه و بالفعل تمكن أحمد لبيض من الذئب على مسافة بعيدة و حدد مكان الإصابة على جسم الذئب و لما وصلوا إلى الجثة الهامدة كان المكان دقيقا و كانت هذه الواقعة كافية لإثارة الغيرة بين المعمرين، فقرروا طرده من العمل و ظل احمد لبيض يعاني الفقر و التشرد حتى التحق بالثورة و انتقم من شافانطو ذات يوم من أيام الحرب المقدسة، لكن هذا الانتقام كان له ثمن باهظ على سكان دوار الخدامة و تمرسطين الذين تعرضوا لمجزرة رهيبة لم تترك منهم طفلا أو امرأة أو شيخا كبيرا و تعرضت المزرعة التي فر منها الكولون إلى القصف، بعد أن تحولت إلى مركز للثوار و مازالت آثار القصف بادية على الباب الحديدي العملاق إلى اليوم.
مزرعة عريقة مهددة بالزوال


عادت الأرض إلى أهلها، لكن المزرعة التاريخية العملاقة أصبحت اليوم تشكو حالها لكل عابر سبيل، جدران صخرية مهددة بالتصدع و سقف يتداعى و فيضانات تكاد تطمر المساكن و مخازن القمح و حظائر المواشي و العتاد و مزارعون يستغيثون، لكن ما من مجيب يلبي النداء و ينقذ السكان و صرح معماري و تاريخي ظل يقاوم الطبيعة و الزمن منذ 100 عام تقريبا، لكنه اليوم لم يعد قادرا على الصمود لسنوات أخرى بعد أن غمرته الفيضانات و انتزعت العواصف سقفه و أصابت جدرانه بالتصدع.  
يقول «بوكحيل حملاوي» أحد سكان المزرعة البالغ من العمر 80 سنة متحدثا للنصر « أنا اليوم أسكن في منزل جاكي الجميل و مستفيد من أرض زراعية على مساحة 25 هكتارا، لكنني أعاني من الفيضانات، انظروا أين وصلت الأوحال داخل المزرعة، تكاد تغلق نوافذ و أبواب مسكني و مساكن الجيران، قبل أيام فقط داهمنا فيضان آخر، لم يأتوا لمساعدتنا، المزرعة الكبيرة تكاد تنهار و لا نملك المال الكافي لترميمها، حتى قنوات المياه القذرة القادمة من الأحياء المجاورة تصب هنا وسط المزرعة، حياتنا تحولت إلى جحيم، نريد المساعدة و حمايتنا من خطر الفيضان، المزرعة تقع في قلب مجرى طبيعي و لم تكن تتعرض للفيضان في السنوات الماضية، لكن الوضع زاد سوءا بسبب فوضى التوسع العمراني و النفايات و بقايا البناء و انهيار نظام الحماية الذي ظل صامدا على مدى 100 عام».   
و ليست الفيضانات وحدها من يهدد مستقبل مزرعة الشهيد احمد لبيض و سكانها الذين أصبحوا يفكرون في الرحيل، حتى قنوات الصرف القادمة من التجمع السكاني الكبير أصبحت تصب في قلب المزرعة و تتسرب بقوة داخل المنازل، كما رأينا و نحن نشاهد الوضع الصعب الذي صار عليه سكان التجمع الزراعي الصغير.  
و يقول كردوسي بوقرة أحد سكان المزرعة و هو يقف أمام موقع تتدفق منه القناة وسط المزرعة « لم نعد قادرين على تحمل الروائح الكريهة، الجرذان تتكاثر هنا بقوة و المياه القذرة تدخل إلى غرف النوم، طلبنا من البلدية إصلاح القناة و إبعادها عن المزرعة و فتح منافذ للفيضان، لم يفعلوا شيئا حتى الآن، نحن نعيش وضعا صحيا خطيرا، الأمراض أصابت المواشي و الدجاج، نحن نفقد الكثير منها كل يوم بسبب بقايا الفيضان و مياه الصرف و الجرذان و الحشرات، نطلب المساعدة، نحن في خطر».  
عطش و قنوات مياه عمرها 100 عام  


تعد تمرسطين واحدة من أقدم القرى بسهل الجنوب الكبير في قالمة، تسكنها اليوم نحو 150 عائلة تعيش على زراعة القمح و تربية المواشي و الأبقار، يقولون بأن سلالة الأغنام هنا تشبه سلالة تاملوكة و أولاد جلال الشهيرتين.
و تعيش تمرسطين أزمة عطش حادة منذ سنوات طويلة، ليس بسبب نقص المياه و إنما بسبب تردي وضعية القناة المعدنية التي أنجزت قبل 100 عام تقريبا لإيصال المياه إلى المزرعة الكبيرة.  
تآكلت القناة و أصبحت المياه تتسرب على طول المسار الممتد على عدة كيلومترات وسط الحقول الزراعية و انسدت عدة مقاطع، متسببة في أزمة عطش حادة بالقرية الصغيرة.  
و يقول سكان تمرسطين، بأن الأمراض التي يعانون منها، ربما تكون بسبب القناة التي يملؤها الصدأ، «مرض الكلى هنا منتشر بكثرة» يقول أحد السكان و هو يقف أمام كومة من قطع القناة الصدئة و يحمل واحدة منها تكاد تنسد بسبب الكلس و التفاعلات الكيماوية على مدى عقود من الزمن.  
يقول كردوسي نور الدين، «نشرب من هذه القناة، هل يعقل هذا، نحن بشر، لماذا تركونا هكذا عرضة للعطش و الأمراض، أخيرا سجلوا مشروعا لمد قناة جديدة، لكن ربما يكون بعضنا قد أصيب أو مات بسبب هذه القناة الصدئة، من يدري ربما حدث هذا بالفعل».  
و أخيرا أطلقت بلدية عين رقادة مشروعا لبناء قناة جديدة من البلاستيك المقاوم للضغط لإنهاء أزمة العطش و وضع حد للمخاطر الصحية التي تهدد السكان وقد تسبب المشروع في معاناة أخرى حيث حطمت آليات الحفر مقاطع كثيرة من القناة القديمة ويخوض السكان معركة شاقة لإصلاح الكسور بوسائل بدائية مطالبين بتدخل البلدية لمساعدتهم ومحملين شركة الإنجاز مسؤولية العطش الذي يعيشونه منذ عدة أيام وعندما زارت النصر تمرسطين، كانت أزمة العطش توشك أن تدخل أسبوعها الثاني.  
وقد حضرنا إحدى عمليات إصلاح القناة قرب الوادي المجاور و رأينا كيف يعاني السكان و لكنهم لا يستسلمون حتى يصل الماء إلى المنازل و حظائر الأغنام العطشى.  
النقل و التغطية الصحية و الهاتف الجوال.. معاناة مستمرة
مازالت تمرسطين تعاني من أزمة نقل حادة بينها و بين عين رقادة وبالرغم من مرور الطريق الولائي 123 وسط تمرسطين و هو أطول الطرقات الولائية بقالمة، فإن هذا الموقع لم ينه أزمة النقل المتفاقمة، تماما كأزمة التغطية الصحية.  
 وقد طالب السكان بدعم المركز الصحي بمزيد من الكوادر الطبية وشبه الطبية و تمديد ساعات العمل لتقديم الرعاية الصحية للمجتمع الزراعي، الذي يعاني من الفقر و الأمراض و صقيع الشتاء الطويل.
و عندما تكون في تمرسطين فإنك ستدخل مجال العزلة الهاتفية و بالكاد تجد موقعا خارج دائرة الظل التي تغطي القرية الصغيرة، التي تعتمد على هوائيات مدينة عين عبيد التي تطل من بعيد بين التلال و الحقول الزراعية الواسعة.  
وقد استفادت تمرسطين من مشروع للغاز الطبيعي و آخر لترميم مدرسة ابتدائية و مد قناة جديدة للمياه و بناءات ريفية، لكن وضعها الاجتماعي مازال مترديا بسبب تراكم ديون المزارعين لدى بنك الفلاحة و ارتفاع تكاليف إنتاج القمح و تربية المواشي و تراجع خصوبة الأرض بسبب التغيرات المناخية و بوادر التصحر القادم من الجنوب.                 ف.غ

الرجوع إلى الأعلى