هاريث.. سواعد تهزم  الطبيعة القاسية خلف جبال الأوراس 

على الحدود الجغرافية بين ولايات باتنة، خنشلة وبسكرة، تتواجد منطقة بإقليم بلدية تكوت التابعة لولاية باتنة تسمى بـ «هاريث» والتي تعني بالأمازيغية «المخرج» وهي فعلا كذلك، كونها تقع بين ثلاث ولايات وتعد من أبعد النقاط التي يمكن الوصول إليها جنوب الأوراس، ومما لاشك فيه، هو أن الذي يبلغ هذه المنطقة، سيندهش أمام قساوة الطبيعة  وكيف تم تحديها من سواعد صنعت الفارق بالإرادة والتحدي. 
ربورتاج: يـاسين عبوبو  
وهو ما عايشناه خلال خرجة ميدانية، حيث وبمجرد أن سلكنا الطريق من تكوت إلى هاريث، كنا نظن أنه من المستحيل أن نجد الحياة، قد تدب خلف مرتفعات جبلية جرداء، قبل أن يبهرنا تحدي عائلات فضلت عدم التفريط في أرض الأجداد.
  يوميات محاصرة بين الجبال والصحراء
تنقلنا من مدينة باتنة باتجاه منطقة هاريث ببلدية تكوت جنوب الولاية على مسافة تزيد عن المائة كيلومتر وفي ذهننا في بداية الأمر، أن المهمة ستقتصر على الاستماع لانشغالات والوقوف عليها ميدانيا، نزولا عند طلب فلاحين عادة ما يطالبون بتوفير المياه والكهرباء والطريق، لكن بمجرد انطلاقنا في   المهمة من تكوت إلى هاريث وذلك على مسافة 14 كلم، اختلفت نظرتنا تماما وتغيرت   360 درجة، فالطبيعة بدت منذ البداية موحشة وقاسية جدا، فقد مررنا بمرتفعات جرداء رفقة أبناء المنطقة كل من عمي رشيد سعيدي وابن عمه كمال، اللذان كانا بمثابة الدليلين في رحلتنا إلى هاريث، وأول تساؤل يخطر ببال من يزور المنطقة، هو كيف  لأناس أن يعيشوا خلف تلك المرتفعات الجبلية الجرداء،  والتي تطل على الصحراء، فهي لا تبعد بمسافة طويلة عن زريبة الوادي بإقليم ولاية بسكرة.
و نحن في الطريق من تكوت إلى هاريث، وجدنا أنفسنا مضطرين لسلك حوالي 5 كيلومترات على طريق جبلية غير معبدة محفوفة بمخاطر الانزلاقات والطبيعة شبه الصحراوية، حيث يكاد ينعدم الغطاء النباتي بها،  و لفت انتباهنا تواجد أبراج عسكرية للحراسة في قمم مرتفعات كنا نسير بينها ،   بحكم أن المنطقة استراتيجية و تعد معبرا بين جبال الأوراس و الصحراء، و كانت في سنوات العشرية السوداء ممرا تستغله الجماعات الإرهابية و قبلها شكلت معقلا هاما من معاقل الثورة التحريرية.
  المنطقة اليوم محصنة أمنيا مثلما أشار إليه عمي رشيد،   ونحن في طريقنا إلى هاريث لم يكن هناك  ما يوحي بوجود  ساكنة، حتى أننا وجدنا أنفسنا تدريجيا معزولين عن شبكة الاتصالات الهاتفية التي انقطعت .
و على مسافة الخمسة كيلومترات التي قطعناها عبر المسلك الترابي، خطفت أنظارنا سكنات حجرية ذات طابع هندسي أمازيغي يميز منطقة الأوراس، و هو المؤشر الوحيد على تواجد سكان بهذه المنطقة في زمن مضى، و ما يدل على أن الإنسان الأمازيغي تاريخيا قد تحدى الظروف الطبيعة القاسية للعيش في المرتفعات بسكنات حجرية و طينية تشكل امتدادا للطبيعة، بشكلها و لونها المستمدان منها كونها منجزة بمواد بناء محلية بطريقة تقليدية.
غير أن المؤسف، هو أن هذه السكنات التي باتت أطلالا مهجورة يتهددها الاندثار في ظل غياب برامج وسياسات لحماية القرى والسكنات القديمة بالأوراس   والتي لها خاصية الاحتفاظ بالبرودة صيفا و الدفء شتاء بفضل المواد الطبيعية،  وفق ما أثبته مهندسون وخبراء مختصون في الهندسة المعمارية الأمازيغية القديمة.
  التنقل إلى هاريث، سيتيح للزائر إدراك عمق التاريخ الثوري لمنطقة الأوراس، حيث يتطلب الوصول إليها  المرور عبر منطقة جار الله التاريخية بأعالي الأوراس، فالمنطقة محطة من محطات التاريخ الثوري  ، بعد أن شهدت مقاومة شرسة من طرف قبائل الأوراس سنة 1879 بقيادة محند أوجار الله وكذا المعركة الطاحنة خلال الثورة التحريرية في التاسع والعشرين ماي من سنة 1959، والتي تكبدت فيها القوات الفرنسية خسائر كبيرة تمثلت في مقتل 250 جنديا فرنسيا حسب شهادات تاريخية، رغم استعمال فرنسا لوسائل التدمير و القتل من طائرات و مواجهة المجاهدين بالنابالم.
عائلات تتحدى المستحيل بالعودة
في الطريق إلى هاريث وسط الطبيعة القاسية التي لم تكن توحي بوجود الحياة، ظننا أن الزمن توقف بنا،  قبل أن تطل علينا سكنات متناثرة، بعضها لا يزال يحتفظ بالصبغة القديمة والبعض مشيد بالطوب والآجر، وشاهدنا    مئات الرؤوس من الماشية في شكل قطعان، كما لمحنا من العلو ثلاثة أحواض مائية فلاحية تحيط ببئر، حينها  تأكد لنا وجود حياة في قلب هذه الطبيعة القاسية.

عمي رشيد سعيدي أحد الذين عادوا إلى هاريث وبعثوا فيها الحياة، باستصلاح الأرض وممارسة النشاط الفلاحي، قال لنا بأنه وغيره ممن عادوا إلى هاريث، لم يكن سهلا عليهم ترويض الأرض، حيث ألح على استعمال لفظ «الترويض»  للاستدلال على صعوبة تطويع الطبيعة الجرداء، مشيرا إلى أن الأرض بهاريث كان من الصعب إن لم يكن من الخيال حسبه، ممارسة الفلاحة بها، لكونها ذات خصوصية جبلية وصخرية وليس بالأمر الهين تحويلها إلى أرض فلاحية تدر مختلف الخيرات مما لذ وطاب من الفواكه، وأضاف بأن الأرض قبل أربع سنوات، كانت كلها جرداء ويتواجد بها منبع واحد فقط مياهه لا تكفي لإقامة النشاط الفلاحي.
هاريث التي كسرت صورة جغرافية من الطبيعة القاسية الجرداء إلى منطقة   تدب فيها الحياة بفضل مجهودات أهلها الذين عادوا إليها، هي قبل ذلك صورة حقيقية عن الإرادة والعزم لخدمة الأرض وصورة أيضا عن تمسك وتشبث السكان بأرض أجدادهم، حيث يروي عمي رشيد في هذا السياق، بأن المنطقة  كانت قبل الثورة التحريرية موطن الأجداد.
  يستذكر عمي رشيد طفولته بهاريث  بالقول، بأن المنطقة و تحت وطأة الفقر و قمع المستعمر الفرنسي، تم تهجيرها من سكانها نحو تكوت و لقصر و قرى أخرى،  و يضيف بأن المكان ما زال يسكن وجدانه هو والكثيرين خاصة من أفراد عائلته وأبناء عمومته الذين عزموا على العودة ولقد دفعهم حب الأرض إلى العودة إليها متحدين كل الصعوبات والعراقيل.
بساتين الفاكهة.. حياة في قلب طبيعة قاحلة
 من المؤكد أن قيام النشاط الفلاحي في أي منطقة ما، يتطلب توفر عنصر الماء، ليأتي بعده دور السواعد وهو ما جعل أهل هاريث الذين غادروها يوما ما، يفكرون مليا في كيفية العودة وكانت البداية بتأسيس جمعية فلاحية منذ أربع سنوات، أتاحت لهم المساعدة من الدولة لحفر نقب مائي بعمق 170 مترا، ليشمروا عقبها عن سواعدهم باستصلاح أراض قاسية لا يخطر ببال أحد للوهلة الأولى أنه تم استصلاحها، لتتحول إلى بساتين متناثرة هنا وهناك لأشجار مثمرة متنوعة من تفاح و إجاص ومشمش وخضار بأشكال وألوان أضفت على المكان جمالا ورونقا.
و ناهيك عن نجاح أهل هاريث في استصلاح الأرض، فإنه بدا لنا جليا نشاط موالين بكثرة في تربية المواشي بمئات الرؤوس من الأغنام و الماعز التي صادفنا رعيها بالمنطقة.
و أوضح لنا عمي رشيد، بأن الموالين في السابق كان عددهم قليل وكانوا يواجهون عراقيل لمواصلة نشاطهم بسبب انعدام المياه، مشيرا إلى وجود منبع واحد ليس ببعيد عن النقب المائي الجديد، لم تكن تكفي مياهه للاستغلال في النشاطات الفلاحية ،وكان الموالون يقومون برحلة الشتاء والصيف بحثا عن الكلأ والماء بين مرتفعات الأوراس والتلال شبه الصحراوية جنوبا، مؤكدا على أن حفر النقب الجديد، ساهم بشكل واضح في استقرار موالين، مشيرا إلى استفادة 64 مشتركا ضمن الجمعية من مياه النقب.
و من بين أبرز النشاطات الفلاحية التي يزاولها أهل هاريث على غرار كل من عمي رشيد وعمي كمال، هي تربية النحل بالطرق التقليدية، بنسج خلايا من الحلفاء والجبس توضع وسط الأعشاب الجبلية الطبيعية التي يتغذى منها النحل، وهي طريقة أكد عمي كمال على أنها تدر كميات كبيرة من العسل، أحسن من الطريقة الحديثة باعتماد الصناديق الخشبية ومن مزاياها أن منتوج العسل يكون طبيعيا خالصا و ذو نوعية و جودة عالية، بالنظر لعوامل تغذي النحل من الأعشاب الطبيعية الجبلية دون الاعتماد على تغذيتها بمستخلصات أخرى وكذا قيام النحل بصناعة مادة الشمع بشكل طبيعي وليس تحضير المصطنعة له.
أهل هاريث الذين رفعوا التحدي ببعث الحياة في أرض جرداء، مازالت تراودهم رغبة جامحة في إحياء الأرض بشكل أوسع وبعث الحياة بالمنطقة، هدفهم من ذلك مواصلة الأجيال في الحفاظ على أرض الأجداد، لكنهم يطالبون مد يد العون من السلطات العمومية لتجسيد الحلم وتحويله إلى حقيقة على أرض الواقع.
ويطالب الفلاحون الذين التحقوا بالمنطقة، بتوفير الكهرباء بعد أن أثقلت كاهلهم المصاريف المالية والتنقلات اليومية، لتوصيل مادة المازوت من تكوت إلى هاريث لتشغيل مولد الطاقة بالبئر، حيث يتطلب منهم دفع ما قيمته ثلاثة آلاف دينار، حيث أشار مرافقونا، إلى أن شبكة الكهرباء لم تعد تبعد بمسافة طويلة ويأملون ربطهم بها.

و إلى جانب الكهرباء، يطرح أهل هاريث عائق الطريق و يطالبون بتهيئة مسلك على مسافة خمس كيلومترات يتيح لهم الوصول إلى ديارهم وبساتينهم، معبرين عن معاناتهم في فصل الشتاء حيث كثيرا ما يعلقون بعد أن تعزلهم الثلوج والأمطار.
«أيوال»  شجرة  نادرة مهدّدة بالزوال
وبهاريث، اكتشفنا تواجد حجارة وأغراض يرجح أنها تعود لعصور غابرة، ما يؤكد على تواجد الحياة بها منذ عصور غابرة، قد ترجع للإنسان البدائي حسب السكان، بالنظر للحجارة التي عثروا عليها و تشبه تلك التي يستخدمها الإنسان البدائي في إضرام النار، بالإضافة إلى حجارة منقوشة قد ترجع للعهد النوميدي أو الروماني.
و سيشد زائر المنطقة حتما مثلما حدث لنا، شجرة العرعار البخوري أو كما تعرف بالأمازيغية «بأيوال» أو «هازنزنا» وهي شجرة مباركة بالنسبة لسكان المنطقة مثلما رواه لنا حسين سعيدي وهو شاب خريج جامعة باتنة ويمارس الفلاحة بأرض والده، حيث أشار لمزاولة طقوس منذ القديم تحت ظل الشجرة.
وأيوال تتواجد في مناطق محددة فقط بجبال الأوراس دون غيرها من المناطق، أهمها ثنية العابد وبوزينة، ويواجه هذا النوع من الأشجار خطر الزوال، حيث أن بروز هذه الشجرة و نموها مرتبط بدورة حياة مع طائر يتغذى من الشجرة و بواسطة برازه تنبت مجددا أشجار أخرى، وقد أدى في فترات سابقة حسب مصالح الغابات تناقص الطائر الذي تعتمد عليه في عدم بروز شجرة أيوال في الوسط الغابي.
  ويروي أهل المنطقة بأن الشجرة كانت في حقب مضت مقدسة تقام أسفلها طقوس وعادات تبركا بها وقد أنسانا نسيم الاستضلال تحت أغصان شجرة أيوال، مشقة السفر إلى هاريث التي تركناها وأهلها كلهم عزيمة على إحياء المنطقة، ضاربين لنا موعدا للعودة مجددا لإحياء رأس السنة الأمازيغية ينار بالمنطقة.
ي/ ع

الرجوع إلى الأعلى