يقف عمار و هو يتصبّب عرقا، على بُعد سنتيمترات قليلة من وهج المعادن المنصهرة، مواجها بجسده الهزيل و وجهه الذي تكسوه مسحة من لفحات اللهب، حرارة بركانية لا تقل عن 1400 درجة مئوية و تنبعث بلا توقف من الفرن العالي، في رحلة كفاح شاقة لتطويع الحديد يخوضها يوميا هذا الرجل الأربعيني إلى جانب مئات العمال، بمركب سيدار الحجار للحديد و الصلب بعنابة، أين قضت النصر يوما مع كهول و شباب تحدّوا قساوة المهنة لكسب “لقمة العيش”.
روبورتاج: ياسمين بوالجدري
في طريقنا إلى ورشات مركب سيدار الحجار، كانت أعمدة الدخان تتصاعد من الفرن العالي، بينما كانت الصومعات التي تُخزن بداخلها الغازات الصناعية، موزعة على عدة نقاط و موصولة بأنابيب ضخمة و صغيرة متصلة هي الأخرى بالأفران، في حين كسر صوت القطار الذي ينقل حديد الزهر المنتج، هدوء المكان.
قبل الدخول إلى الفرن العالي، القلب النابض للمصنع، شاهدنا من بعيد الفرن القديم المدشن سنوات الثمانينيات و المتوقف منذ سنة 2006، كما لمحنا لافتات تحذر من وجود غاز أكسيد الكربون الخطير، لنسلك ممرات حديدية صغيرة أوصلتنا لبناية ضخمة دُوّنت أعلاها عبارة “الفرن العالي”، و قد كان أول ما لفت انتباهنا هنا، كتل نارية تشبه في شكلها الحمم و هي تتدفق من تجويف أسفل الأرض، مشكلة دخانا كثيفا يتصاعد للأعلى، بينما كشفت أشعة الشمس المتسربة عبر السقف، عن رذاذ المعادن المنتشر في الهواء.
1700 درجة مئوية من فوهة الفرن العالي!

بقينا نراقب من بعيد مجموعة من العمال، يواجهون، و هم يرتدون أقنعة خاصة، ألسنة اللهب تلك، تحت درجات حرارة عالية أخبرنا مرافقونا أنها تصل إلى 1700 درجة مئوية ويمكن أن تعرضهم إلى حروق من الدرجة الثالثة، و هو ما استطعنا أن نتأكد منه بسهولة، فبمجرد الاقتراب بخطوات قليلة أحسسنا بلفح النيران المتوهجة بلونها الأحمر القوي الذي يكاد يفقد البصر، و أخبرنا مرافقنا السيد عباسي صابر، و هو تقني بالمصنع، أن هذه الظروف تزيد قساوة صيفا و خلال شهر رمضان أين يتواصل العمل بالوتيرة ذاتها لضمان استمرار سير الفرن العالي، حيث يوزع العمال على 3 فرق تشتغل كل منها لـ 8 ساعات يوميا، ما يضطرهم في الكثير من المرات إلى التوقف عن الصيام.
بالفرن العالي الذي كانت تظهر منه فتحة كأنها فوهة بركان، وجدنا 3 عمال و هم ينهون مهمتهم حوالي الواحدة زوالا، ضمن الفرقة التي بدأت العمل في الخامسة صباحا، فبعد 8 ساعات من المواجهة المتواصلة للنيران، كان التعب قد نال منهم إلى درجة أنهم لم يستطيعوا التحدث إلينا، حيث خرجوا من المكان حاملين عدّتهم من القضبان الحديدية، و هم يجرّون الأرجل بخطوات متثاقلة و وجوه تتصبب عرقا، بينما تلطخت ثيابهم و أقنعتهم برماد النيران و التراب، و كأنهم خرجوا لتوهم من حرب ضروس.
هكذا يُنتَج الحديد

اقتربنا من الفرقة الثانية التي تتألف من 3 عمال أيضا، حيث أخبرونا أنهم سبّاكو معادن مهمتهم الحرص على التأكد من تطهير المادة الأولية لإنتاج سائل حديد الزهر، قبل أن يتم توجيهه في شكله السائل و المنصهر عبر الحاملات، و تتم هذه المهمة عبر إدخال و إخراج قضبان حديدية تؤخذ منها العينات، مع تغيير قطع معدنية ضخمة في الفرن، يصل وزنها إلى قنطار.
و يرتبط الفرن بغرفة تحكم تضبط كل ما يسير بالتيار الكهربائي، حيث توجد بها منصة طويلة تعلوها عدة شاشات، كان أحد التقنيين يراقبها باهتمام و يدون من حين إلى آخر نقاطا على أوراق وضعها قربه، و تظهِر الصور مثلما أوضح لنا المهندس غايب يعقوب و هو شاب جامعي يرأس الوحدة، الفحم الحجري و المواد الملبدة التي تصل الفرن في شكل صلب عن طريق نواقل، قبل أن توضع هذه المكونات على طبقات بالتناوب يتم تعريضها في ما بعد إلى درجة حرارة تصل إلى 2100 درجة مئوية، لتكون عملية الانصهار بالتداخل بين العناصر الباردة و الساخنة، و تنتج في الأخير سائل حديد الزهر و خبث الحديد. و وفق الشروحات التي قدمها لنا يعقوب، فإن حديد الزهر يوجه للمفلودة الأوكسجينية، أما خبث الحديد فيستعمل في صناعة المواد الاسمنتية.
غاز الكربون.. خطر آخر
و زيادة على التعرض المباشر لدرجة حرارة تصل إلى 1480 درجة مئوية، فإن خطورة العمل في الفرن العالي، تكمن في تسرب غاز أكسيد الكربون الناجم عن احتراق الفحم الحجري، و هو غاز أودى بحياة عامل منذ أشهر، حيث يُلزَم جميع العاملين بالمكان، بوضع كواشف على صدورهم تصدر صوتا تحذيريا إذا وصلت نسبة الكربون إلى معدلات خطيرة.
العمال الذين تحدثنا إليهم خلال جولتنا، قالوا إن هناك مخاطر أخرى تتهددهم، مثل الأمراض التنفسية و حتى السرطانات بسبب طبيعة عملهم الذين يواجهون فيه المعادن مباشرة، زيادة على الجهد الجسدي الكبير الذي يبذلونه و لا يتناسب مثلما يؤكدون، مع الرواتب التي يتقاضونها، مع عدم الاستفادة من العطل و أيام الأعياد في بعض المرات، فقد اضطروا مؤخرا إلى العمل لـ 28 يوما بالفرن و دون توقف لضمان استمرارية الإنتاج.
قارورة ماء و حبات بيض زادهم اليومي!
التقينا بأسامة شرقي الذي أتى حاملا كيسا صغيرا به بعض الأكل و قارورة ماء، فالماء هو العدّة الأولى التي «يتسلّح» بها العمال هنا بالنظر لدرجات الحرارة العالية، و قد أخبرنا المهندس الشاب الذي عين مسؤولا للاستغلال بالفرن، أنه يعمل بالمكان منذ قرابة 4 سنوات، و هو متحمس، مثلما يتابع، للنشاط في مجال تخصصه المتمثل في التعدين، رغم قساوة الظروف و الأجر المتوسط الذي يتقاضاه، لكن الجميع همّهم الوحيد استمرار المصنع الذي يواجه متاعب مالية كبيرة، مضيفا أن العديد من خريجي الجامعات الذين التحقوا بمركب الحجار في السنوات الأخيرة، اكتسبوا الخبرة من القدماء الذين سبقوهم، و استطاعوا أن يرفعوا التحدي من خلال التسيير و القيام بعديد عمليات التجديد، دون اللجوء إلى الأجانب الذين أصبحت مهمتهم تقتصر على أشغال الصيانة التي تتم من حين إلى آخر.
و رغم ظروف العمل الصعبة التي تتطلب جهدا بدنيا كبيرا، إلا أن زاد العديد من العمال بهذا المركب، يتمثل في بضع حبات من البيض و قطع من الخبر و الجبن قد لا يتناولونها أصلا من شدة التعب، فالعديد منهم أرباب عائلات “لا تكفي أجورهم لتناول السمك”، كما علّق مراد، و هو كهل قال لنا إنه أب لثلاثة أطفال، يعمل بمركب الحجار منذ سنة 2006، بينما لا يتعدى راتبه الشهري 50 ألف دينار، قبل أن يضيف بخصوص تأثير طبيعة العمل على صحته “أصبحت أستعمل غطاء الشتاء صيفا، لم أعد أشعر بالحرارة فقد اخترقت عظامي و استقرّت فيها”، ليقاطعه عبد الغني، و هو عامل آخر بدا أكثر إنهاكا و يأسا، بالقول “قبل الخروج إلى التقاعد سأطلب منهم أن يجهزوا قبري»، ليعقّب أحد زملائه في أسى «بالفعل، فالعديد من العمال توّفوا منذ اليوم الأول لإحالتهم على التقاعد”.
حمم «بركانية» في كل مكان
تركنا عمال الفرن العالي يخوضون “حرب” تطويع الحديد، لنتجه بعدها إلى المفولدة الأوكسيجينة رقم 1، و هي عبارة عن بناية ضخمة مرتبطة بمئات الأنابيب و النواقل و تتألف من عدة طوابق، حيث يصبّ فيها حديد الزهر الآتي من الفرن ليحول إلى فولاذ بعد إضافة الأوكسجين إليه و بعد أن تنزع منه عناصر الكربون و المنغنيز و السيلسيوم و الفوسفور و الكبريت.
وتكمن الخطورة هنا، في أن العمال يتعاملون مع حديد الزهر السائل الذي لا يمكن التحكم فيه بسهولة، حيث كانت آثار شوائبه ظاهرة في المكان، فقد أكسبت الجدران و الأرض لونا رماديا لامعا و شكّلت طبقات تشبه الرمل، و قد أحسسنا أننا نستنشق رذاذ هذه الشوائب التي قيل لنا إنها تُجمع فيما بعد ليصنع منها الزجاج و المواد المستعملة في إنجاز الطرقات.
في هذا المكان، كانت درجات الحرارة مرتفعة أيضا، و كانت فوهات النيران تحيط بنا أينما ولينا وجوهنا، بينما كان عشرات العمال منهمكين في أخذ عينات الحديد المنصهر و تشغيل الآلات التي تتفجر منها شعلات اللهب، ومن بين هؤلاء العمال، التقينا بعمار وهو كهل كست التجاعيد وجهه، و كان كغيره من زملائه يرتدي بذلة و قبعة وقفازتين تلطختا باللون الرمادي.
«نطالب بالتقاعد المسبق»

و تتمثل مهمة عمار الذي أخبرنا زملاؤه أنه نجا من الموت في حادث عمل وقع قبل فترة قصيرة، في أخذ عينات الفولاذ المنصهر عن طريق قضيب طويل يدخله إلى غرفة تتقدّ منها النيران، و لا يفصله عنها سوى جدار معدني به فتحة في شكل مربع و ينبعث منها نور قوي أضاء عتمة المكان.
«أعمل هنا منذ 29 سنة لكني لا أتقاضى سوى 6 ملايين سنتيم.. أحيانا آتي إلى المصنع و أنا أخشى ألا أعود مجددا إلى زوجتي و أطفالي الثلاثة”، هكذا خاطبنا عمار و هو يتحدث بمرارة عن ظروف عمله في مصنع الحجار الذي دخله وعمره 17 سنة، و أضاف العامل الذي تركت لفحات اللهب الحارقة، آثارها على وجهه المتعَب، أن مطلبه الأول إلى جانب زملائه، هو الاستفادة من التقاعد المسبق بعد تصنيف عملهم ضمن قائمة المهن الشاقة، فمن غير المعقول، مثلما يتابع، أن يستمر شخص في مهنة يتعرض فيها للنار مباشرة، طيلة 30 سنة كاملة.
حروق و أمراض مزمنة تزيد متاعب العمال
"أكثر شيء يمكن أن يتعلمه الإنسان هنا هو الصبر"، هذا ما خطر ببالنا و نحن نواصل استكشاف أرجاء المركب، فقد كنا نتصبب عرقا و بدأنا نشعر بعد ساعات قليلة من التجول في المكان، بصداع قوي، بينما كانت ثيابنا و حتى نظاراتنا و أنوفنا، قد امتلأت برذاذ المعادن المتناثر، أما العمال فقد بدا لنا أنهم متأقلمون مع هذه الظروف الصعبة وقد تشكلت ثقوب على بدلاتهم بسبب ألسنة لهب حارقة تزيد درجة حرارتها عن حرارة البركان التي ثبت علميا أنها تتراوح بين 700 و 1200 درجة، غير أن العديد منهم وخاصة الذين تتعدى أعمارهم 40 سنة، أصبحوا يواصلون هذه المهمة الشاقة على مضض، كحال عامل قال لنا إنه تعرض لحروق كما أصيب بانزلاق غضروفي و بأمراض مزمنة منها التهاب المفاصل و الحساسية و الضغط الدموي.
تنقلنا بعد ذلك إلى ورشة ضخمة صُفت فيها صفائح الحديد التي خرجت قبل ساعات قليلة من المركب و الحرارة الشديدة لا تزال تنبعث منها، بينما كان العمال على الجانب الآخر، منهمكين في قطع لفائف الحديد، و هي مهمة خطيرة أيضا إذ يمكن أن تتسبب تلك القطع الحادة في بتر الأصابع و الأيدي، مثلما أخبرنا مرافقونا.
غادرنا المركب لنترك خلفنا مئات العمال في مواجهة مباشرة مع ألسنة اللهب، و همهم الأول توفير “لقمة العيش” لأسرهم و استمرار هذا المصنع الذي يصارع اليوم من أجل البقاء بعد سنوات من عدم الاستقرار و الشراكة الأجنبية غير المثمرة.  
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى