سواعد تتحدى الطبيعة لبعث الحياة في الأراضي البور
في ساعة مبكرة من صباح يوم مشمس شديد البرودة، تأخذ الجرارات الفلاحية طريقا لها نحو مرتفعات عين سلطان، الواقعة غرب قالمة على الحدود مع ولاية سكيكدة، تحمل معدات البذر و التسميد و كميات من القمح و السماد العضوي، لإنجاز مهمة صعبة بواحدة من أشد الأقاليم برودة في المنطقة و أكثرها عرضة للتقلبات المناخية و شتاء طويل يبدأ من أواخر الخريف إلى نهاية الربيع.
هنا، حيث تعمر الثلوج على ارتفاع 1045 مترا عن سطح البحر، تبدو زراعة القمح نوعا من المغامرة و التحدي الذي يخوضه المزارعون بقالمة، لاستغلال مزيد الأراضي البور و توسيع مساحات القمح، في غمار التطور الكبير الذي يعرفه هذا النوع من المحاصيل الزراعية الإستراتيجية بالمنطقة.
كانت الرحلة إلى مرتفعات عين سلطان بالنسبة لنا شيقة و مثيرة، لأننا سنعيش يوما ممتعا مع منتجي القمح الذين يواصلون رفع التحدي و العمل ليلا و نهارا حتى تتحول قالمة إلى قطب وطني لأجود أنواع القمح و تستعيد مكانتها التي فقدتها عندما تراجع نشاطها الزراعي، و تعرضت الأرض للإهمال و صارت بورا و اختفى القمح «البليوني» الشهير من سهل الجنوب الكبير و مرتفعات عين سلطان و «براج فطيمة» و «السرى».
كانت الجرارات ثنائية و رباعية الدفع أمامنا على طريق معبد، تسابق الزمن للوصول إلى موقع العمل في ساعة مبكرة من الصباح، نحن في النصف الأول من شهر ديسمبر و لم يعد هناك مزيد من الوقت لزرع القمح، فالشتاء على الأبواب، و هو ينذر المزارعين باستمرار منذ أيام طويلة بتقلبات و أمطار مستمرة، أوقفت العمل بحقول القمح بالمرتفعات الباردة، أين يزرع القمح بين شهري نوفمبر و ديسمبر و ينضج بنهاية جويلية من كل عام.  
هذا اليوم بالنسبة لعبد الحليم المزارع الشاب، يوم رائع، لأنه يشعر بالسعادة بعد أن وصله المدد من أقصى المدينة، جاء عمه أحمد و معه ابنه أمين الفتى المتمرس في ترويض الآلات الزراعية منذ الصغر، 3 جرارات و 3 قادة متمرسين، أمامهم مساحة 10 هكتارات يجب تسميدها و زرعها قبل أن يحل الظلام و يطبق الليل على المرتفعات البعيدة التي تطل على البحر و روسيكادا الجميلة التي تظهر مبانيها بنهاية الأفق البعيد.  
المعدات المتطورة و عامل الزمن..الرهان الصعب

يتطلب العمل الزراعي الكثير من الجهد و اليد العاملة، الآلة وحدها لا تفي بالغرض في كل الأوقات و لذا كان لزاما علينا الانضمام إلى الفريق، لنعيش واقع العمل الزراعي الحقيقي المضني و نستمتع بيوم جميل مع زارعي القمح و الأمل بالأراضي البور المنسية، التي هجرها أهلها قبل سنوات طويلة، و كادت الحياة بها أن تتوقف عندما اشتدت الأزمة الأمنية منتصف التسعينيات و حولت المنطقة إلى فضاءات تسكنها الأشباح و كائنات الليل.  
بداية المهمة الشاقة، كانت بنثر السماد و زرع البذور بجرار واحد يقوده عبد الحليم، معتمدا على السرعة و حسابات يعرفها حتى تكون كثافة التسميد و البذر أقرب إلى مقياس المهندسين الزراعيين، 200 كلغ من السماد و 180 كلغ من بذور القمح في الهكتار الواحد، كانت المهمة صعبة بالنسبة لعبد الحليم، قائد جرار «سيرتا» الشهير، فخر الصناعة الميكانيكية بالجزائر، أرض منحدرة و سرعة غير منتظمة و أرض موحلة ببعض المواقع النائمة على منابع مائية جوفية، تستيقظ كلما سقطت الأمطار و تشبعت الأرض بخيرات السماء.
 كان قائد الفريق الحاج أحمد الذي تجاوز السبعين و مازال خلف المقود، يروض الجرار الأخضر و يتحدى الطبيعة و سنوات العمر الطويلة، كان يراقب العمل بدقة و يحث على الإسراع في نثر الأسمدة و البذور على أكبر مساحة ممكنة، حتى تتمكن جرارات التغطية من بدأ العمل و خوض سباق ضد الزمن، فأيام شهر ديسمبر قصيرة و سرعان ما تختفي الشمس و يحل الظلام.
كان الفريق بحاجة إلى جرار رابع يتولى إحدى المهمتين، نثر السماد، أو نثر البذور لربح الوقت، لكنهم اكتفوا اليوم بثلاثة جرارات و آلة بسيطة للنثر الميكانيكي و ربما كان الفريق أيضا بحاجة إلى آلة بذر متطورة تؤدي 3 مهام في نفس الوقت، نثر السماد و نثر البذور و التغطية، لكن كل هذا غير متوفر اليوم و على الفريق إتمام المهمة بما توفر من رجال و عتاد.  
منتجو القمح بقالمة..تحديات و آفاق واعدة

يواجه منتجو القمح بقالمة اليوم، تحديات كبيرة لتطوير وسائل الإنتاج و شراء معدات جديدة لتسهيل العمل الزراعي، كل هذا يتطلب الكثير من الأموال، ربما يحتاج منتج القمح إلى أكثر من مليار سنتيم لشراء جرار رباعي الدفع، بكل المعدات الزراعية، الكثير من المزارعين غير قادرين على توفير هذا المبلغ، البعض منهم غامر عن طريق قروض بنكية مرهقة و هم اليوم يواجهون متاعب كبيرة قد تنته بهم إلى مستنقع الديون و الإفلاس.    
في غضون ساعة، تمكن عبد الحليم من تغطية مساحة هامة من الحقل بالأسمدة و البذور و انطلقت عملية التغطية و بدأت المحركات القوية ترسل صداها عبر المرتفعات و بين الأودية السحيقة و القمم الجبلية الزرقاء التي تطل على مرتفعات عين سلطان موطن التاريخ و القمح و رعاة البقر.
كان المشهد جميلا عندما دخلت كل الجرارات إلى الحقل و أظهر السائقون قدرة كبيرة على تطويع التضاريس الوعرة و عقد العزم على إنهاء العمل قبل شمس المغيب.
ارتفاع التكاليف و تراجع المردود..المعادلة الصعبة
كان الوقت يمضي بسرعة و درجات الحرارة تنكسر و تتراجع على القمة العالية، حيث كانت الجرارات تخوض معركة مضنية لتغطية القمح المتناثر، في مشهد جميل يختصر إرادة المزارع الجزائري الذي يرفض الاستسلام لعوامل الطبيعة و الزمن و التغيرات المتسارعة التي تكاد تقلب الاقتصاد الوطني رأسا على عقب و تحوله إلى اقتصاد ريع يستمد حياته من وراء البحر.
يقول عبد الحليم «لأول مرة تصل الجرارات رباعية الدفع إلى هذه القمة، هذه أرض بور لم تمسسها يد الإنسان منذ سنوات طويلة، بسبب عزلة المنطقة و برودة الطقس و ارتفاع تكاليف زراعة القمح، الهكتار الواحد يستهلك 80 ألف دينار عندما تكون الأرض مؤجرة، على منتج القمح أن يتجاوز 30 قنطارا في الهكتار الواحد ليعوض تكاليف الإنتاج و يحقق بعض الأرباح التي تساعده على تحسين ظروفه المعيشية، نتمنى مزيدا من الدعم لقطاع القمح بالجزائر».   
بعد أن مالت الشمس إلى المغيب، وصلت وجبة الغذاء للفريق، الغذاء المتأخر من عادات المزارعين دائما، فهم يحرصون على العمل ساعات طويلة، قبل الركون إلى راحة قصيرة يأكلون فيها و يسترجعون أنفاسهم و يضعون تقييما للعمل المنجز.
كانت المساحة المزروعة كبيرة و الوقت يمر بسرعة و بدا الفريق عاجزا على إتمام المهمة قبل حلول الظلام.  
 يقول قائد الفريق الحاج أحمد «ربما تبقى مساحة هكتار تقريبا، لن نتمكن من الوصول إليها و لذا فإننا سنتركها بدون بذر إلى اليوم الموالي، ربما يسوء الوضع المناخي و تضيع البذور عندما تترك بدون تغطية، لقد نجحنا في تغطية المساحة الأهم و ما تبقى لا يقلقنا، ربما سننته منه في غضون ساعتين غدا إن شاء الله».  
اتفق الفريق إذا على ترك هكتار من الحقل و توجيه كل الجهد و الاهتمام إلى المساحة الأخرى، حيث تناثرت حبات السماد و القمح على نطاق واسع، مراقبة مشددة على كثافة البذر و تقنية التغطية حتى يكون النمو كثيفا.   
الأرض تتنفس و طرقات تفتح في كل الاتجاهات

حول القمة، حيث كانت المحركات تدوي و تكسر الصمت الذي عمر طويلا بمرتفعات عين سلطان، كانت الجرافات العملاقة تشق طريقا جبليا صعبا إلى مشته عين الحمراء على حدود ولاية سكيكدة و أعمدة الكهرباء تنتصب الواحد بعد الآخر، لتبديد ليل طويل بواحدة من أفقر التجمعات الريفية في ولاية قالمة و أكثرها عزلة و معاناة، كأن الإقليم النائي يسترجع اليوم مقومات الحياة من جديد، حقول قمح ستنمو بعد أيام قليلة و طريق يفك العزلة و كهرباء ستشتعل ربما قبل أن يطبق الشتاء الطويل على المرتفعات الجبلية، مرتفعات عين سلطان موطن الشجاعة و القصص الجميل، حيث عاشت امرأة في قصر و أوتيت من كل شيء، حتى صار القوم يأتمرون بأمرها و يحتكمون إليها كلما ساءت حالهم و اشتد عليهم ليل الاستعمار الطويل.  
عين سلطان..تاريخ عريق
كان يوما جميلا و مثيرا مع منتجي القمح الذين يتطلعون إلى مستقبل جديد، قد ينه حقبة طويلة من استيراد الغذاء من عند أمم أخرى لم تصب بعدوى الكسل و لم تترك أرضها بورا و أحراشا كما حالنا اليوم، حيث مازالت مساحات واسعة من الأراضي التي يملكها السكان القدامى عرضة للإهمال تحت تأثير موجات النزوح الكبير التي أفرغت الأقاليم النائية من سكانها و ألقت بهم في مستنقع الحواضر الكبرى يواجهون الفقر و أزمة السكن و العمل.  
حل الظلام و غادر الفريق موقع العمل، كانت القمم الجبلية تتوارى خلفنا بسرعة و أضواء روسيكادا تنبعث من بعيد، من قلب المنطقة الصناعية البترولية التي تحملت عبء الاقتصاد الوطني لسنوات طويلة و لم تعد اليوم قادرة على الصمود، في انتظار حقل للقمح يثمر هنا و هناك و أمل قد يسري في كيان الأمة من جديد و يدفعها للعمل و الكف عن الكلام الكثير.    
فريد.غ

الرجوع إلى الأعلى