• جمعية «المدينة» تحاول بعث الروح في المعالم العتيقة
تلتقي الحضارات في «بلاص دارم» بعنابة، التي صنعها التاريخ و ظلمها الإنسان، بالإهمال و النسيان، و يجهل قاطنوها إرثها الحضاري الممتد منذ القرن العاشر ميلادي، فقد شيدت في عهد الدولة الزيرية الصنهاجية، و جعل منها موقعها حصنا لمقاومة الغزاة، لتتحوّل في العهد الإسلامي إلى إشعاع ثقافي و ديني.
روبورتاج حسين دريدح
كما تركت الدولة العثمانية بصمتها بالمدينة، لكن المحتل الفرنسي سعى جاهدا لتغيير هندستها و معالمها العربية و الإسلامية، و طمس هويتها، بتحويل واجهتها إلى النمط العمراني الأوروبي، حيث أمر الكاردينال «لافيجري» ببناء الكنائس ليُخيل لزائر «بونة»، بأنها مدينة مسيحية. و يسلط روبورتاج النصر، الضوء على أهم معالمها الأثرية.
غياب مشروع جدي للترميم  
لا تزال المدينة القديمة «بلاص دارم» التي شيدت سنة973 م، تقاوم النسيان و الإهمال، فقد تحول جزء كبير منها إلى ركام، بعد انهيار بناياتها العتيقة، و بدأت معالمها تختفي شيئا فشيئا، بسبب غياب مشروع جدي لترميم ما تبقى منها، و بقاء مشاريع السلطات حبيسة الأدراج.
واقع دفع نشطاء و بعض سكان الحي، إلى نفض الغبار عنها، بعد أن كانت وكرا للإجرام في السنوات الماضية، ومرتعا لترويج المخدرات والممنوعات، ومع عمليات الترحيل الكبرى التي مست المدينة القديمة وتواصل انهيار البنايات، تشتت العصابات بين الأقطاب العمرانية الجديدة، ما سهل على مصالح الأمن التوغل فيها، وإنهاء سطوة العصابات، وهو ما فتح المجال أمام المتطوعين، للقيام بمبادرات لتنظيف بعض الأزقة والشوارع و طلاء العمارات، فأتت ثمارها سريعا، باستقطاب السياح الأجانب للمواقع التي شهدت عملية إعادة الاعتبار، منها شارع « فليب» المقابل للميناء.
مدينة ترقد على قصور و تاريخ عريق

تنام « بلاص دارم» على كنوز تاريخية تروي قصص حضارات و شعوب مرت عليها، تاركة معالم أثرية هامة، لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، ومن بين المواقع، أسوار المدينة، برج المعدومين، القلعة الحفصية، جامع صالح باي، جامع أبو مروان، الذي يروي تاريخا كبيرا، فقد كان مركز إشعاع ثقافي وديني بالمنطقة، و تم تحويله بعد الاستقلال إلى معهد إسلامي، درس فيه أبناء الشهداء.
 الجانب الثوري حاضر أيضا بالمدينة القديمة، فقد كان منزل رحمونة لرقش، مقرا لقيادة المنظمة السرية الخاصة عام 1950، كما كانت تضم لوحة، نقلت إلى ساحة الثورة، تخلد معركة 19 أوت 1956 .
بنايات تحمل أسماء العائلات التي كانت تملكها
من أهم ما يميز المدينة القديمة، هو محافظة البنايات الكبيرة فيها، على أسماء العائلات المالكة لها ، رغم استغلال بعضها من قبل عائلات أخرى، على غرار دار الصيودة، دار لعوابدية، دار قش، دار بنقي، دار متيجي، دار شركسكي، دار السرايا، دار لرقش، دار الخوجة، دار علي تاتار و هناك بنايات استرجعها مالكوها وقاموا بترميمها، و أخرى أغلقت، و بعضها انهارت، و البعض الآخر لا تزال تقيم بها عائلات أخرى.
جمعية «المدينة»  تمسك بزمام مبادرة إعادة الاعتبار
أسس طلبة وأساتذة بقسم الهندسة المعمارية، وطلبة من مختلف التخصصات بجامعة باجي مختار بعنابة، جمعية اختاروا لها تسمية «المدينة للمحافظة على التراث العنابي»، و  قرر الناشطون بعد أشهر من العمل التطوعي، تنظيف قصور المدينة القديمة و المواقع الأثرية، تنظيم أنفسهم في إطار قانوني عن طريق طلب اعتماد جمعية.
أوضح المكلف بالإعلام في الجمعية، عامر جديد، و هو باحث في تاريخ المدينة القديمة، بأن الاكتشافات والزيارات التي قاموا بها للقصور، على غرار القلعة الحفصية، وبرج المعدومين و أسوار المدينة، جعلت أفراد المجموعة المهتمين بالآثار، يقررون تأسيس الجمعية والخروج للعلن، لاستقطاب الشركاء و الفاعلين المهتمين بالآثار و تاريخ المدينة.
و بعد إيداع الملف تم الحصول على الاعتماد بصفة رسمية شهر أكتوبر الماضي، وتم الإعلان الرسمي على ميلاد الجمعية،  حسبه، في حفل نظم بمناسبة المولد النبوي الشريف بالمسرح الجهوي عز الذين مجوبي.و أضاف المتحدث بأن رئيس الجمعية عبد الكريم لرقش، و هو أستاذ جامعي بقسم الهندسة، أبرز المؤسسين و مُنشط الخرجات الميدانية، و تبرع بمنزل عائلته « دار لرقش» بالمدينة القديمة، لتكون مقرا للجمعية، و سيتم الشروع في إعادة تهيئتها عن طريق المساعدات، من أجل إنجاز متحف بالطابق الأرضي، و مكتبة لتكون مرجعا تاريخيا حول المدينة، و كذا إنجاز مطعم للمأكولات الشعبية، توجه مداخليه لتمويل أنشطة الجمعية.

وأشار عامر، إلى أن الهدف الأساسي للجمعية ، هو التعريف بالتراث المادي و اللامادي وكذا الطبيعي للمدينة القديمة، والعمل على تشجيع ترميم الجانب المادي، بطرق عصرية، حيث كشفت عمليات ترميم بعض المواقع، منها مسجد أبو مروان عدم نجاعتها، نظرا لاستخدام مواد بناء غير صالحة للترميم، منها الإسمنت العادي، غير المقاوم للعوامل الطبيعية في البنايات القديمة.
ومن أهداف الجمعية أيضا، حسب المحدث، النهوض بقطاع السياحة من خلال عمليات الترميم، و تحويل المدينة القديمة إلى مركز لاستقطاب السياح و التعريف بتاريخها، بالإضافة إلى توعية و تحسيس سكان المدينة بأهمية هذا الإرث العريق.
الاستعمار الفرنسي حاول طمس هوية المدينة
قال عامر جديد، بأن المدينة القديمة شيدت قبل ألف سنة، و يسود اعتقاد خاطئ بين زوارها و حتى العنابيين أنفسهم، بأن الاستعمار الفرنسي هو من شيدها، في حين تم تشييدها عبر مراحل مختلفة، فهي تحمل الطابع الهندسي المغاربي الأندلسي بسبب الهجرة من الأندلس إليها خلال الحروب الصليبية، كما أن الطابع العمراني العربي بارز فيها، إلى جانب العمران الأناضولي العثماني.  و أشار عامر إلى محاولة المٌحتل الفرنسي طمس المعالم الإسلامية بها بتشييد العمارات المحيطة بساحة الثورة حاليا، لحجب الرؤية عن الهندسة العمرانية القديمة، كما أمر « الكاردينال لفيجري» بتشييد كنيسة بموقع «بيار ماري كوري» حاليا، إلى جانب كنيسة « القديس أوغستين» بهضبة البوني، ليُخيل لزائري عنابة بأنها مدينة مسيحية، و ليست إسلامية.
200 دراسة هندسية و تقنية أجراها طلبة وأساتذة  
كشف رئيس الجمعية الدكتور عبد الكريم لرقش، و هو أستاذ بقسم الهندسة بجامعة عنابة، عن إنجاز 200 دراسة عمرانية و تقنية من قبل الطلبة و الأساتذة حول البنايات القديمة، مست 50 موقعا، و خلصت الدراسات إلى أن أغلب البنايات هشة، وضعيتها كارثية و مهددة بالانهيار، و يمكن ترميم جزء محدود منها فقط، وسمحت الدراسات بتقديم حلول تقنية هندسية من أجل الترميم، وفق المعايير الدولية المعتمدة في هذا المجال.
و سلم قسم الهندسة، كما أكد المتحدث،  نسخة من نتائج الدراسات، إلى وزارة الثقافة، وهي الجهة المسؤولة عن المدينة، لتكون النتائج التي توصلوا إليها، عبارة عن بنك معلومات، يوضع تحت تصرف ولاية عنابة، لمساعدتها على إعادة ترميم المدينة العتيقة، وفق المخطط المنجز  .
رغم الانهيارات الكبيرة التي تعرفها المدينة القديمة، لا تزال عائلات تحافظ على الحرف و الصناعات التقليدية و الخياطة، حتى بعض الأكلات التقليدية لا تجدها إلا في « بلاص دارم»، كما تعد « بطحة» سيدي شريط، الفضاء البارز للقاء و التجمع، و كذا اللعب.
النصر زارت بعض البيوت، و استقبلتنا عائلات تقيم بها، فرغم أن البنايات مهددة بالانهيار، إلا أنها رفضت مغادرتها و تسعى لترميمها و تهيئتها، قالت لنا خالتي بية « فتحت عيني ببلاص دارم، لا أستطيع الانتقال إلى أي مكان آخر، أشعر بالأسف الشديد لما آلت إليه المدينة من انهيارات، و رحيل أغلب الجيران و العائلات، لكنني لن أرحل، و لا أزال أجمع أولادي في مختلف المناسبات الدينية للاحتفال معا في بيتي، و أطبخ لهم الأكلات التقليدية، و نستحضر الذكريات الجميلة، نحن مستعدون لتقديم جميع التسهيلات، لتتكفل الدولة بترميم العمارات».
الشروع في تشميع شقق المستفيدين من السكن
شرعت مؤخرا مصالح بلدية عنابة، في تشميع شقق المستفيدين من السكنات الاجتماعية بالمدينة القديمة، في إطار البرنامج الوطني للقضاء على السكن الهش، بعد تسليمهم المفاتيح بسكنات المدينة الجديدة ذراع الريش، بهدف إخلاء البنايات الهشة ومنع استغلالها مجددا للسكن، و بالتالي قطع الطريق أمام الأشخاص الذين يحاولون التحايل من أجل الحصول على سكن اجتماعي.
عملية الترميم تقتصر
على محيط ساحة الثورة
اللافت أن العمارات المحيطة بساحة الثورة تشهد حاليا عملية ترميم، دون غيرها من البنايات الكائنة بقلب المدينة القديمة، حيث تطرح عملية إعادة التصنيف إشكالية، من أجل تحديد نجاعة ترميم البنايات التي أخضعت للخبرة التقنية، والتي مست، حسب مكتب البنايات القديمة ببلدية عنابة، 602 بناية، 44 بالمئة منها تستدعي الترميم، و 37 بالمئة تستدعي التهديم.
كما أن 76 بالمئة من مجموع البنايات القديمة بالمدينة العتيقة، حسب بلدية عنابة، تابعة للخواص، الأمر الذي يطرح صعوبات على مستوى التكفل بعملية تمويل أشغال ترميمها من قبل مصالح ديوان الترقية و التسيير العقاري، و يتوجب على مديرية الثقافة، حسب مصادرنا، تسوية الوضعية الإدارية لجميع السكنات، في ظل غياب مالكيها الأصليين، بهدف تسهيل عملية الترميم.كان مرتادو المدينة القديمة في السنوات الماضية، يشتكون من اعتداءات العصابات، خاصة سرقة الأموال والهواتف النقالة تحت التهديد بالسلاح الأبيض. و مع عمليات الترحيل الكبرى، تمكنت مصالح الشرطة من التحكم في الجانب الأمني، و لم تسجل في الـسنوات الخمس الأخيرة أعمالا إجرامية خطيرة، وأصبح بإمكان أي شخص زيارة « بلاص دارم» ، دون خوف من تعرضه للاعتداء.
مشاريع لتحويل المدينة إلى مركز للسياحة
و التسوق
من جهة أخرى تسعى السلطات المحلية لولاية عنابة، إلى تحويل المدينة إلى وجهة سياحية وكذا وجهة للتسوق، وذلك عن طريق إخلاء بعض المقرات و المباني التابعة للدولة، من أجل إنجاز مشاريع خدماتية، على غرار تحويل مركز الطفولة المسعفة «سيدي بلعيد» ، المحاذي لجامعة التكوين المتواصل من المدينة القديمة، لاستغلال الوعاء العقاري، في إنجاز فضاء تجاري ضخم « مول عنابة» بعد أن تقدمت مؤسسة التسيير السياحي والفندقي، بمشروع لإنجاز الفضاء التجاري بموقع جامعة التكوين المتواصل، بالشراكة مع مصالح الولاية، غير أن المساحة غير كافية، و يتطلب استغلال الوعاء العقاري لمركز الطفولة المسعفة، بعد إنجاز مركز جديد للتكفل بهذه الفئة. 

المدينة كما يرويها الباحث عمار جديد
بنيت بسبب الفيضانات وهدمتها باخرة
قدم الباحث عامر جديد للنصر، لمحة تاريخية حول «لا بلاص دارم» التي يزيد عمرها عن الألف عام، فقد بنيت في القرن العاشر ميلادي،
و بالتحديد في عهد الدولة الزيرية الصنهاجية، أين تقرر نقل المدينة من موقعها القديم أمام الخرائب، إلى  موقعها الحالي فوق «عقبة العناب»، بمحاذاة جبل سيدي عابد في حوالي سنة 973 م، حسب الباحث، وهذا بعد الفيضانات التي شهدتها المنطقة التي كانت تتواجد فيها مدينة عنابة حينها، أسفل كنيسة القديس أوغستين حاليا.
اختير الموقع، كما قال الأستاذ جديد، الذي يبعد عن المدينة القديمة بحوالي 3 كلم حينها، لعدة أسباب، أبرزها الموقع الاستراتيجي المرتفع، وكذا حصانة المكان، مما يجعلها في منأى عن أي اعتداء خارجي. بخصوص الحياة الثقافية بالمدينة خلال العصر الصنهاجي، يرى المتحدث، أنه لا بد أن نتوقف عند العالم أبو الليث البوني المتوفي سنة 1058م، و ينحدر من عائلة عريقة تُعرف بدار «النيار»، و يعود له الفضل في إقامة عدة رابطات بالمدينة ومحيطها، كما يعود له الفضل في تشييد جامع أبو مروان سنة 1033 م الذي حمل اسم إمامه أبو مروان الشريف الأندلسي، فقيه المالكية في إفريقيا، المتوفي ببونة سنة 1111م.
مركز حضاري هام في عهد الحماديين والموحدين
بعد الضعف الذي ساد الدولة الزيرية الصنهاجية، تعرضت المدينة لبعض غزوات الصليبيين، حسب الباحث،  لكن في سنة 1058م ، تمكن بنو حماد بعد قيام الدولة الحمادية من بسط نفوذهم عليها، و قام ملك بجاية الناصر بإحاطتها بأسوار في ذات السنة، لتستعيد عافيتها، لكنها أضحت مركزا للغزو، حيث يصفها المؤرخ البكري «من مرسى بونة تخرج الشواني غازية إلى بلاد الروم، و جزيرة ساردينيا، وكرسقة، وما والاها..».
و أضاف المتحدث أنه خلال العهد الحمادي، ظهرت بالمدينة شخصية فقيه المالكية بإفريقيا أبو مروان الشريف الأندلسي الذي يحمل المسجد العتيق بالمدينة اسمه، و بعد ذلك ضعفت الدولة الحمادية ما تسبب في احتلال النورمان للمدينة، و واكب هذه الفترة قيام الدولة الموحدية، على يد أتباع محمد بن تومرت سنة 1121م، و في سنة 1158م تمكن القائد الموحدي عبد المؤمن من تحريرها من النورمان ليصبح ميناؤها من القواعد العسكرية الهامة للأسطول الموحدي، و كذا التجارية، لتنتعش الحياة الاقتصادية بها، حسب الباحث.
الحفصيون جعلوا من بونة إحدى أهم الحواضر

لم تعمر الدولة الموحدية طويلا، حتى أخذت في الانحدار و السقوط، لتقوم على أنقاضها دولة جديدة في تونس، و ما جوارها، أطلق عليها اسم الدولة الحفصية أسسها الأمير أبو زكرياء الحفصي سنة 1229، و بعدها بسنة واحدة، تمكن من افتكاك بونة من أيادي أولاد شداد، الذين كانوا حكاما عليها ليأمر ببناء قلعة محاذية للمدينة، تعرف اليوم بـ «القلعة الحفصية» اكتمل بناؤها بعد ذلك بـ 17 سنة، على يد البناء عمر بن محمد، لتصبح المدينة بها إحدى أهم حواضر الحفصيين.
و حافظت على مكانتها، كما أكد الباحث، بفعل موقعها الإستراتيجي، حيث كانت همزة وصل تربط العلاقات التجارية للحفصيين مع الزيانيين في تلمسان، و بني مرين في المغرب الأقصى، أما عن الحياة الفكرية بالمدينة خلال فترة الحكم الحفصي، فقد عرفت رقيا كبيرا، حيث ظهرت ثلة من العلماء على غرار عالم النحو أبو زكرياء البوني، وأحمد بن محمد بن علي العنابي، والحسن البوني، وغيرهم.
عصرها الذهبي خلال العهد العثماني
و تابع الباحث أن الدولة الحفصية شهدت في أواخر القرن 14ميلادي، حالة من الضعف، ما تسبب في سقوطها، خاصة بعد ظهور إسبانيا كقوة في المنطقة، بعد تمكنها من إسقاط دولة بني الأحمر، آخر إمارات المسلمين في الأندلس بغرناطة سنة 1492 م، و واكبه أيضا سقوط الدولتين الزيانية، والمارينية، لتتعرض بونة بدورها للغزو الإسباني سنة 1535م، و بسط الغزاة سيطرتهم على المدينة طيلة خمس سنوات، إلى أن أمر «شارل كان» بإخلائها سنة 1540م، بعد أن تأكد من سيطرة العثمانيين على الجزائر، ومنع الإسبان من احتلالها، لتبدأ مرحلة التواجد العثماني في عنابة، وهي المرحلة التي عرفت «بلاص دارم» فيها العديد من التطورات، سواء من الجانب الديمغرافي أو العمراني، حسب المتحدث.
بونة ثاني أهم مدن بايلك الشرق الجزائري
قسمت الجزائر خلال سنة 1556 بعد أن حكمها العثمانيون ، إلى أربع مناطق هي بايلك الشرق عاصمته قسنطينة، بايلك الغرب عاصمته وهران، وبايلك التيطري عاصمته المدية، إضافة إلى دار السلطان الجزائر العاصمة أو المحروسة، كما كانت تكني حينها، كما أوضح الأستاذ جديد، وعلى إثر هذا التقسيم أصبحت عنابة تابعة لبايلك الشرق، وأضحت المدينة ثاني أهم حواضره ، فجميع المبادلات التجارية لبايلك الشرق مع الدول الأوروبية، كانت تتم عبر ميناء عنابة، ما جعل لها دورا محوريا، كما كان الميناء منطلقا للغزو البحري.
عنابة العثمانية احتضنت شخصيات بارزة
من جهة أخرى برزت بـ «لابلاص دارم» خلال العهد العثماني، العديد من الشخصيات في مجالات مختلفة، بالنسبة  للحياة الفكرية، والثقافية شهدت، حسب الباحث، ازدهارا كبيرا أين ظهر العديد من العلماء، على غرار عالم الحديث علي بن محمد الساسي البوني، وعالم التصوف أحمد بن قاسم البوني صاحب كتاب «الدرة المصونة في علماء، و صلحاء بونة»، إضافة إلى المؤرخ الكبير أبو الحسن علي بن فضلون البوني.
ومن أبرز شيوخ التصوف، والعلم بعنابة خلال العهد العثماني نذكر أيضا الشيخ طراد، إبراهيم بن تومي، وإمام الحنفية مصطفى الجنيني العنابي، إضافة إلى قاضي بونة محمد الأرقش، ونجله براهم، وحكم المدينة خلال العهد العثماني ،عدد من القادة نذكر منهم أحمد شلبي، الحاج أحسن، والحاج عمار بن زعطوطه، حسب الباحث.
سقوط المدينة في قبضة الفرنسيين
و في سنة 1830 احتلت فرنسا الجزائر، و سقطت مدنها الواحدة تلو الأخرى، رغم مقاومة الشعب الجزائري له . و في سنة 1831 ، كما أكد المتحدث، شنت القوات الفرنسية، حملة على مدينة عنابة لقيت خلالها مقاومة واسعة من الحامية العثمانية بالمدينة، والأهالي بقيادة قايد عنابة حينها الحاج عمر بن زعطوطه الذي قاوم حتى سقط شهيدا في ذات السنة بمنطقة واد الذهب ليخلفه القائد علي بن عيسى الذي أرسل من قبل أحمد باي، لكنه فشل حيث تمكن القبطانين الفرنسيين دار موندي، ويوسف من احتلال القصبة يوم 3/04/1832.
تغيير البنية التحتية
بعد تمكن فرنسا من إخماد العديد من الثورات الشعبية التي عرفتها المدينة، وما جاورها من مداشر، و كذا في جبال الإيدوغ، على غرار الثورات التي قادها كل الشيخ الحسنوي، زغدود، وأحمد بن شعيب، وابن العربي أخذت في تغيير البنية التحتية للمدينة، و تشييد العديد من الشوارع الجديدة، بعد أن أزالت السور الذي كان يحيط بالمدينة، كما عملت على تسوية الأزقة الضيقة لـ «لابلاص دارم» بعدما كانت ملتوية، حتى تتمكن من تطويق الأهالي خلال تمردهم، ومن بين الأحياء التي شيدتها فرنسا جزء كبير من الحي الذي يعرف اليوم بـ «لاري فيليب»، إضافة إلى العمارات المحيطة بساحة الثورة، وكذا العديد من المباني الأخرى، مثل مقر البلدية، المسرح، وكذا ساحة الثورة، وأغلبها شيد خلال عهدة عمدتي عنابة جيروم برطانيا، والمالطي الأصل بانطالوني.
طمس المعالم الإسلامية
و أوضح الباحث أن الاحتلال الفرنسي سعى لطمس المعالم الإسلامية للمدينة من خلال العمارات التي شيدت أمام ساحة الثورة اليوم، أو تلك المحاذية لجامع الباي في «بطحة سيدي شريط» أو عمارة «الفروندمار»، أمام جامع أبو مروان وهذا لإظهار المدينة بأنها مدينة مسيحية، خاصة بعد تشييد كنيستي «القديس أوغستين» و الكنيسة الموجودة أمام «المركز التجاري سوتيران».
عنابة تلعب دورا محوريا في الحركة الوطنية
ما إن أخذت الحركة الوطنية بالظهور في الجزائر، برزت في مطلع القرن 20 بـ «لابلاص درام» العديد من التيارات على اختلاف توجهاتها، و زارتها عدد من الشخصيات الوطنية، مثل الشيخ عبد الحميد بن باديس، كما كانت المدينة مركزا هاما لنشاط المنظمة الخاصة التي تأسست سنة 1947 كجناح عسكري لحزب الشعب.

وفي ذات السياق، كما بين المتحدث، شهدت سنة 1950 حدثين هامين في تاريخ التنظيم السري، هما زيارة القادة التارخيين بن بولعيد، بوضياف، وبن مهيدي لـ «لابلاص درام» أين عقدوا اجتماعا سريا مع بعض مناضلي المنظمة بعنابة ، يتقدمهم بن عودة، باجي مختار، وبن زعيم، وهذا بمنزل رحمونة لرقش لمتابعة تحضيرات عنابة للثورة، والحدث الثاني إلقاء القبض على بن زعيم، وبن عودة ، بعد اكتشاف أمر المنظمة الخاصة، عقب حادثة تبسة الشهيرة في مارس 1950، وتمكنهم من الفرار من السجن بعد ذلك، وشروعهم في التحضير للثورة.
مركز الأبطال والفدائيين
بعد اندلاع الثورة الجزائرية في الفاتح من نوفمر 1954، هب أبناء عنابة للإلتحاق  بصفوف جيش، وجبهة التحرير الوطني، وكان عمارة بن عودة، وباجي مختار،عضوين بارزين في مجموعة 22 التاريخية، التي فجرت الثورة، ، ومن بين المعارك الشهيرة التي عرفتها «لابلاص دارم» معركة أوت 1956 التي قادها الشهيد عيدي عبد المجيد، إضافة إلى معركة عام 1960، كما أنجبت اسمين ساهما بشكل كبير في التعريف بالقضية الجزائرية في المحافل الدولية، هما السعيد براهيمي، قائد فريق جبهة التحرير الوطني، وعلي دودو الحارس الأسطوري لذات الفريق، حسب المتحدث.
باخرة نجمة الاسكندرية بداية انهيار لا بلاص دارم
عقب افتكاك الجزائر استقلالها في 5جويلية 1962 عمت الفرحة مدينة عنابة، شأنها شأن مختلف المدن الجزائرية، أين زينت الأزقة، والشرفات بالأعلام الوطنية، لتلي هذه الفرحة، كما ذكر الباحث، فرحة أخرى بتتويج فريق اتحاد بونة بلقب البطولة الوطنية سنة 1964، لكن عقب هذا الحدث الجميل، و بالضبط في  23 جويلية من ذات سنة ،  انفجرت باخرة نجم الإسكندرية المحملة بالسلاح بميناء عنابة، ما تسبب في سقوط عشرات الضحايا لتبدأ قصة الانهيار الحقيقي لـ «لابلاص دارم»، حيث انهارت وتصدعت عشرات المباني، وبقي بعضها، يحفظ كل جزء منها ذاكرة، وقصصا من تاريخ المدينة الطويل.                               ح.د

الرجوع إلى الأعلى