تسترخي قرية القليعة في قلب الوادي  فوق صخرة عتيقة، على نفحات روحانية تشع إيمانا لتنثـر سحرها الرباني في الفضاء، متسللة بين الأزقة الضيقة و الوديان، قبل أن تعانق الجبال الشامخة، لتنير بإشعاعها الديني و السياحي طريق الزائر و تجعله أسيرا بين جمال غاباتها و مناظرها الخلابة، فمن أعلى قمم الجبال الحامية للقرية، لا يكاد البصر أن يستوعب ما أبدعته ريشة الخالق، من جمال ينسدل إلى الأعماق و شموخ يحتضن غابات الصنوبر بنسيمها العليل و قمم على مد البصر، إلى أن يرتوي القلب إيمانا بصوت الأذان المنبعث من مناراتها الدينية العتيقة و مسجد خبيب بن عدي، أين تقام الصلاة و تنساب بعدها تهاليل و تسابيح الطلبة، آخذة معها حيزا من الاهتمام و الشوق للوصول إليها و التوغل في تفاصيلها لشحن بطاريات الروح و التسبيح بنعم الله الذي خلق و صور، في مشاهد منفردة لن تراها إلا و أنت تزور هذه القرية الواقعة ببلدية تسامرت و مناطقها العريقة بتاريخها و تراثها المادي و المعنوي شمال ولاية برج بوعريريج.
روبورتاج: عثمان بوعبدالله

من علو شاهق و فوق صخور محدودبة، تترآى إليك القليعة و لعل أول ما يشد انتباهك، تلك المناظر الخلابة و المعمار الهندسي للجامع الذي يتوسطها، لتنفتح عيناك مطاوعة ذلك البهاء الأخاذ، لرؤية المزيد واستيعاب التفاصيل الدقيقة للمنازل المتسلسلة المشيدة بالحجارة و القرميد و الأزقة الضيقة التي مازالت تحتفظ منذ عقود بنمط المعمار القديم و عبق المكان و ذكريات يرويها أعيانها و شيوخها عن كل ركن و زاوية و عن أسرار العيش في هذه القلعة الحصينة، التي اختلفت الروايات حول تاريخ تأسيسها، فمنهم من يقول في الرواية الغالبة أنها تعود إلى القرن الخامس هجري، بمجيء ولي صالح اسمه أبي حمص القادم من بلاد الشام، بحثا عن مستقر للتعبد، فأختار مغارة ليقيم بها في هذا المكان المحصن بالجبال من كل جهة و الواقع على ضفاف الوادي المتدفق بالمياه و وسط الغابات الكثيفة، قبل أن يبني أول منزل له فوق الصخرة المرتفعة التي تتوسط القرية، ليجذب بعدها اهتمام و سكان القرى المجاورة، لما عرفوه عنه من وقار و شيم الأخلاق، ما جعلهم ينزحون إليها.
فيما يرجع آخرون تاريخ التأسيس إلى القرن التاسع هجري، حينما تشكلت من سكان القرى المجاورة لصفاح، تيزي وغري، سيدي ذياب و تامست، النازلين من سفوح الجبال، ليشيدوا منازلهم بالقرية و يؤسسوا لنظام اجتماعي و اقتصادي و ديني و ثقافي، مازالت شواهده قائمة و تحولت إلى مزار للسواح و مهد للأئمة و المشايخ المتشبعين بروح الدين الوسطي الجامع، فلا مغالاة و لا إفراط بحسبهم، في تعليم أصول و قواعد الدين و الفقه الإسلامي، بجامعها و زاويتها التي رفعت شعار الوسطية، مجابهة دعوات التكفير و التعصب عبر العقود و في عز العشرية السوداء التي زادتهم تمسكا بصون تعاليم الدين و تحفيظ القرآن و إبعاد شباب المنطقة و الطلبة الوافدين إليها من ولايات بعيدة عن كل دخيل .
الحرمة و احترام قدسية المكان مفتاحا الأمان لدخول القرية
الوصول إلى هذه القرية من مدينة البرج، تطلب منا التوجه شمالا عبر الطريق الوطني رقم 76 مرورا ببلدية تاسمرت، قبل أن نسلك الطريق الملتوي باتجاه مرتفعات بلدية برج زمورة، فبمدخلها كنا حريصين على اتباع الإشارات التوجيهية لكي لا نخطئ الوجهة و نتجاوز بوابة الطريق المؤدي إليها، لكن مرافقينا من أبناء المنطقة عبد الباسط و عبد النور، نصحانا بالمرور أولا نحو قمة الجبل المحاذي لمسجد بوشيبة، لأخذ صورة عامة عن القرية و الاستمتاع بمناظرها.
لم ندرك قيمة هذه النصيحة إلا و نحن نعتلي قمة الجبل، أين تراءت لنا القليعة بأدق تفاصيلها من علو شاهق و زادت من فضولنا لاكتشاف ما بداخلها، عدنا من حيث أتينا إلى أن وصلنا إلى المنعرج المؤدي إليها و بدأت رحلة الاكتشاف و الغوص عبر مسلكها المنحدر و الملتوي. واصلنا السير و كانت القرية تفصح عن تفاصيل أكثر إغراء لتخليدها و توثيقها بعدسة زميلنا في كل منعرج و زاوية، إلى أن وصلنا إلى بوابتها الرئيسية، أين قابلتنا لافتة دونت عليها جملة من الشروط الواجب التقيّد بها، للحفاظ على قدسية المكان و تجنب إحراج أهلها المحافظين.
حرص للحفاظ على النمط المعماري القديم بأدق تفاصيله

بدت لنا و كأنها مهجورة، تفتح ذراعيها للزوار القابلين بشروطها، لم نجد و نحن نتوغل بداخلها سوى بعض العمال المنهمكين في بناء و توسعة الزاوية، توجهنا بعدها نحو المسلك الرئيسي المؤدي إلى الجامع و الزاوية، المحاط ببنايات قديمة و أخرى تم ترميمها مع الاحتفاظ بطابعها الهندسي القديم و أدق التفاصيل التي يحرص شيوخها و أعيانها على أن تبقى محافظة على انسجام المعمار و حسن الجوار بين أهلها الذين غادر أغلبهم إلى المدن، لكنهم مازالوا حريصين على زيارتها في العطل و المناسبات الدينية و بينما كنا نتقدم نحو الجامع و الزاوية الواقعين بأعلى الهضبة في قلب القرية المحصنة بالجبال من كل جانب، اختفى زميلنا المصور عن الأنظار، ما دفعنا للبحث عنه بين الأزقة الضيقة مع مرافقينا و المناداة باسمه، سمعنا صوت رجع الصدى من الجبال، إلا هو و ما هي إلا لحظات حتى التحق بنا، مبادرا بالحديث « لنتفق، العمل يحتاج إلى التركيز و الدقة، أنظر في هذه الصورة، التقطتها من فتحة مفتاح الباب، يبدو من خلال ما هو مكتوب في اللافتة بفنائها أنها زاوية مهجورة»، ليجيب مرافقنا نور الدين «صحيح، لكن أهل القرية فضلوا أن تكون الزاوية بجوار الجامع و هي تستقبل عشرات الطلبة»، ليعرج بنا إلى أحد الأبواب و يطلعنا على طريقة التواصل من الخلاخل الموضوعة بها، «هذا الخلخال الصغير يدق فيه الأطفال الصغار إذانا بالدخول إلى الحارة و هذا الذي يتوسط الخلاخل الثلاثة خاص بالنساء، أما الخلخال الكبير فهو مخصص للرجال»، فبهذه القرية العتيقة لا مكان للصدفة و العشوائية، كل شيء منظم و له دلالة، فعندما يدق الرجل في الباب، يدخل ليجد بابا آخر صغيرا يحتم عليه الانحناء، ليعطي الفرصة للنساء في فناء الحارة بالدخول إلى غرفهن، لأن الحارة تجمع عددا من الأسر من عائلة واحدة و احترام النسوة و حرمة العائلة أمر مقدس بين أهلها.
   قرية لم تعرف ضجيج المركبات منذ تأسيسها
واصلنا السير عبر المسلك باتجاه الزاوية و قبل الوصول إليها، وجدنا بعض العمال المكلفين بتوسعة الزاوية القرآنية و هم منهمكون في نقل مواد البناء و الإسمنت على ظهور الأحمرة، استقبلونا بالترحاب، تجاذبنا معهم أطراف الحديث حول ظروف العمل، فأشاروا إلى أن وسيلتهم الوحيدة للنقل وسط المسالك و الأزقة الضيقة التي لم تعرف منذ تشييدها زحاما و لا ضجيجا للمركبات، هي الدواب و البغال التي لم تخذلهم في تشييد البنايات و ترميمها للحفاظ على نمطها المعماري القديم، الذي يجمع بين النمط الأمازيغي و نظام الحارات، حيث تتجاور المنازل بشكل متناسق و يجمع بين قاطنيها فناء و باب موحد.
عرجنا بعدها على منبع المياه الذي كان يستغل في السقي و انتقلنا صعودا نحو الجامع و الزاوية بأعلى القرية، أين كان لقاء مع أحد القيمين عليها و مجموعة من الطلبة القادمين من مختلف ولايات الوطن ( قبل فترة الحجر الصحي للوقاية من وباء كورونا).
جامع خبيب و الزاوية القرآنية قبلة الطلبة و الزوار و كبار المشايخ
في حديثنا مع الطلبة الذين استقبلونا بفرح، أشاروا إلى أن زاوية القليعة أصبحت منارة لطلب العلم و التمعن في تعاليم الدين السمحة التي تبتعد عن التعصب، مضيفين بأنهم التحقوا بها لما لها من صيت واسع وكذا بعد الاطلاع على الاعلانات التي تعلق في محطات النقل و تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي و الصفحة الخاصة بالزاوية لفترات فتح التسجيلات، كما نبهنا أحد القيمين بها، إلى أنها بقيت تصارع البقاء بفضل المحسنين و صدقاتهم و قد تخرج منها عشرات الطلبة و المشايخ و الأئمة، الذين منهم من واصل دراسته بجامع الأزهر و الزيتونة، فلجامعها خبيب بن عدي تاريخ يعود إلى السنة التاسعة من الهجرة، حينما أسس و بني بسواعد الأجداد و بقي الأبناء يحافظون عليه و يحرصون على ترميمه و توسعته مع الزاوية، لتبقى منارة للعلم ينهل منها الطلبة تعاليم الدين الحنيف و مزارا لضيوفها و السواح الوافدين إليها من مختلف المناطق و الدول، حبا في الاكتشاف و الاستمتاع بجمالها و للإطلاع على تاريخها، أو خلال تنظيم الندوات و المناسبات الدينية و الوطنية، أين مر منها مشايخ كبار وعلماء أجلاء و وزراء و سفراء، ناهيك عن بقاء الصلة و روح الجماعة بين أبناء المنطقة الذين لا يفوتون فرصة الزيارة و العودة لموطن المنبت و الأجداد، في مختلف المناسبات، أين تصبح المنطقة حسب من وجدناهم بها عامرة بأهلها، خصوصا خلال عطل نهاية الأسبوع و في شهر رمضان لإقامة صلاة التراويح و الأعياد و العطل و خلال موسم جني الزيتون .
قبل مغادرتنا، عرض علينا الطلبة مشاركتهم في جلسات الذكر و الترتيل والتسبيح، ليعرج بنا قيم الزاوية بمكتبتها التي مازالت تحتفظ في خزائنها بمخطوطات تعود إلى قرون و عقود غابرة، مازالت شاهدة على الزخم الفكري و الديني لأبنائها و للوافدين إليها من مشايخ و علماء من مختلف الأقطار.
بناء متراص و نمط معماري يراعي النسق الاجتماعي و حسن الجوار

لم تكن الزيارة الأولى كافية لجمع أدق التفاصيل عن هذه القلعة المضيافة، فكانت لنا زيارة ثانية و لعل ما لفت انتباهنا، هو إتمام أشغال التوسعة بزاويتها التي زادتها بهاء و هي تعتلي البنايات، فضلا عما استقيناه من معلومات من أعيانها من عائلتي بن طاهر و بن حمانة، حول النظام الاجتماعي و الاقتصادي المحكم، فلم يكن لأهلها حاجة في توفير رزقهم و بناء بيوتهم، من غير البساتين المجاورة التي تحيط بها على ضفاف الوادي، الذي كانت تتدفق منه المياه على مدار السنة و ما تمنحه الطبيعة من مواد أولية لبناء المنازل من الصخور و الأخشاب و الطين، في شكل متسلسل يأخذ من نمط المعمار الأمازيغي المرصوص و نظام الحارات، إذ لا توجد فراغات بين المنازل و هو ما يدل بحسبهم على روح التعاون في البناء و حسن الجوار، فالحارة مكونة من عدة منازل في الداخل و فناء و باب مشترك و درجين على الجوانب لوضع الأغراض و مكان مخصص للمياه في الفناء.
أما التشكيل الهندسي للبناية، فيتم الحرص فيه على وضع غرفة الضيوف في مدخل المنزل، فيما تتوزع باقي الغرف في الداخل و غرفة صغيرة تتوفر على الإضاءة و التهوية في سطح البناية، تستغل في تخزين المؤونة تحسبا لفصل الشتاء، بالإضافة إلى الشرفات المطلة على الأزقة المحاطة بحواجز خشبية منحوتة و التي عادة ما كانت تستغل في تجفيف التين و الزيتون و الرمان و تجفيف الفلفل و الطماطم .
«ثاجماعت» للحفاظ على النظام الاجتماعي و الاقتصادي المتوارث

و بخصوص الأزقة الضيقة، أشار أعيان المنطقة، إلى أنها تعود إلى طبيعة المعمار القديم الذي كان يراعى فيه ترك المساحة الكافية لمرور البغال المحملة بمحاصيل القمح (الشبكة)، حيث كان لزاما على القاطنين بها ترك مسافة حوالي ثلاثة أمتار للطريق و مسافة صغيرة بين المنزلين لكي لا تتسرب مياه الأمطار و الثلوج إليها، و تنساب عبر الشبكات و السواقي المهيأة إلى أن تتدفق نحو الوادي.

أما الأزقة، فتنجز بالحجارة التي يردم جزء منها في التربة و توضع بشكل متدرج لتفادي الانحدار الشديد و تسهيل الصعود عبرها، فبهذه القلعة الصغيرة، لم يترك أي مجال للصدفة و العشوائية، بل كانت تخضع لتنظيم دقيق تشرف عليه مجموعة من الأعيان و شيوخها في مجلس يعرف بتسمية (ثاجماعت) و هي كلمة أمازيغية تعني الجماعة، بقي يسير أمور سكانها لعقود و يشرف على النظام الاجتماعي و الاقتصادي الذي يراعي الإمكانيات المتوفرة و العادات و التقاليد و أي خروج عن هذه القاعدة و التنظيم يؤدي بصاحبه إلى دفع غرامة مالية توضع في صندوق خاص يستغل في التسيير.
يضيف محدثونا، بأن الكثير من العادات مازالت حاضرة و متوارثة أبا عن جد، فيما اندثرت البعض منها و لعل من أبرزها نظام السقي المعتمد قديما و الذي وضع حينها لتقسيم المياه بالعدل، بالنظر للكثافة السكانية في تلك الحقب، حيث كان عدد العائلات يزيد عن  500 عائلة تعتمد في أغلبها على الزراعة المعاشية و الفلاحة لتوفير قوتها، من الحدائق والبساتين المترامية على جنبات القرية من الناحية الغربية و الشرقية، ما كان يحتم تقسيم المياه بالعدل، إلى حصص للسقي من المغارة الواقعة بجوار الوادي، التي تتوفر على نظام تقليدي لتقسيم الحصص وفق نظام ( الدالة)، في برنامج دوري يمس جميع الحقول و البساتين.
فلاحة تحقق الاكتفاء ومعاصر صديقة للبيئة

طرق تقسيم المياه بالتناوب لم تكن تقتصر على السقي والري فقط، بل تتعداه إلى توزيع حصص المنبع المتواجد أسفل القرية، بتخصيص الفترة الصباحية من صلاة الفجر حتى الساعة التاسعة لقطعان الماعز، التي كانت المصدر الوحيد لسكان القرية لتوفير مادة الحليب، بالنظر إلى طبيعة المنطقة الجبلية وصعوبة تضاريسها، ما جعل سكانها يفضلون تربية الماعز على المواشي والأبقار، فيما كانت تخصص الفترة الثانية للنساء إلى غاية صلاة العصر، ما يمكنهن من توفير المياه للشرب والاستعمالات المنزلية، ويخصص لهن زقاق محرم على الرجال حفاظا على الحرمة، أما الفترة المسائية فيفسح فيها المجال للرجال.
يتحدث أعيان المنطقة، على أنهم وإلى وقت غير بعيد، كانت أغلب العائلات توفر قوتها من نشاطاتها اليومية، وتحقق الاكتفاء في توفير الغذاء واللباس مما تنتجه من خضروات وفواكه وحليب، إذ كانت كل عائلة تتوفر على رؤوس من الماعز، في ظل عدم مواءمة المنطقة الجبلية لتربية الأبقار والمواشي، ويكلف راع برعايتها أو بالتناوب بين ملاكها.

و زيادة على هذا تشتهر المنطقة بزراعة الزيتون، لتوفير المؤونة من مادة الزيت، وما يكفي لاستهلاك العائلات على مدار العام، حيث يجفف جزء منه، فيما يحول الجزء الأكبر للمعصرة التقليدية لتحويله إلى زيت، فحتى المعصرة من صنع محلي باستخدام أدوات توفرها الطبيعة، على غرار الصفائح الحجرية الدائرية المستعملة في عملية رحي حبات الزيتون، والتي يتم تثبيتها في دعائم خشبية يتم جلبها من الغابة، حيث يتم صقل الصخور الكبيرة على شكل حوض (قصعة) وصخرة ثانية على شكل عجلة، تثبت في وتد الإسناد و الوتد الثاني يربط في الحمار، لتحريك العجلة بشكل دائري، ليتم بعدها وضع الزيتون بعد اتمام عملية الرحي، في قفف دائرية مصنوعة من مادة الحلفاء، توضع فوق لوح كبير دائري، ليتم تثبيت هذه القفف بالألة الضاغطة، وتضغط بالمغزل المصنوع من مادة الخشب على شكل برغي كبير يتم تدويره في اللوحة الضاغطة والدعامة القاعدية، لعصر الزيتون واستخراج مادة الزيت التي تصب في إناء، فيما يتم الاحتفاظ بنوى الزيتون لاستعماله في التدفئة والنشاطات الزراعية.
ع/ بوعبدالله

الرجوع إلى الأعلى