تتعدى مكانة الحمص،  أو «الحمص دوبل زيت» في قسنطينة، وصفه كطبق شهير، فهذه الأكلة تعتبر موروثا شعبيا، يدمنها رجال المدينة و بعض نسائها كذلك، و لتناولها طقوس، كما أن لها قصصا خاصة مع بعض الأحياء، على غرار حي رحبة الجمال، أين يكثر تحضيرها، فالحمص طبق له خصوصية وهو الوجبة الوحيدة التي يفضل البعض تناولها صباحا بعد صلاة الفجر، و يقصد الكثيرون قسنطينة، قادمين من مدن أخرى، لاختبار متعة تذوقها، رغم أنها أكلة بسيطة لا تحتوي لحما ولا تحضر بمكون سحري.
السر في الجمر
 شهرة هذا الطبق لا تقل عن شهرة اسم العائلة التي ارتبط تحضيره بها  وهي عائلة بوكعباش، التي يمتلك أفرادها عددا من المطاعم الصغيرة المتخصصة في تقديم الحمص بوسط المدينة و المدينة الجديدة علي منجلي، فوصفة هذا الطبق الشهي متوارثة في العائلة منذ أجيال، كما أخبرنا عمي عمار بوكعباش، طباخ  بأشهر محل لتحضير الطبق في شارع بودربالة عبد الرحمان « لاري بوتي» سابقا.
و بالرغم من أن الوصفة بسيطة و لا تحتوي على مكون سري، إلا أن طريقة إعداد الأكلة  تتطلب  «نفسا» و تركيزا و تقديرا جيدا للمكونات و اهتماما بالغا بكل تفصيل، وهو أمر يسأل عنه الكثيرون ممن يزورون محل عمي عمار، كما أخبرنا، إذ يعتقدون بأن لحمص قسنطينة، وصفة سرية لا يعرفها سوى أبناء «الكار» من « الحمامصية»، لكن السر، حسبه، يكمن في  الجمر الذي يطهى فوقه الطبق، و الذي يمنح الأكل نكهة خاصة، و يساهم في نضجه بشكل أفضل، فما يطهى على الجمر ألذ بكثير، مما يطبخ على الغاز، على حد تعبيره.
 خلال تواجدنا في مطعمه الصغير، كان عمي عمار، يحضر قدر الطهي استعدادا لليوم الموالي، و قال لنا، بأن الطلب كثير على  الحمص هذه الأيام، وذلك تزامنا مع انخفاض درجات الحرارة و حلول موسم البرد، لذلك فأنه يقوم يوميا بطهي حوالي 10 إلى 15 كيلوغراما من الحمص، حيث يفضل أن يكون منتوجا محليا، لأن المستورد ليس سريع النضج، حسبه.

المرحلة الأولى، كما أوضح للنصر، تتمثل في نقع الكمية المطلوبة من الحمص في الماء، مع قليل من الزيت، و رشة من تابل الكروية، يشعل بعد ذلك موقد الفحم، و يترك الطبق ليطهى لمدة تقارب سبع ساعات كاملة، و عندما يصبح الحمص جاهزا، يضاف إليه الملح و الكمون و البقدونس و البصل و زيت الزيتون، حسب الطلب، فهناك من يفضل ملعقة واحدة وهناك من يفضل ملعقتين، فيحدد طلبه بعبارة « دوبل زيت» الشهيرة.
هكذا تم تناقل شغف الأكلة
أردنا معرفة أصل هذه الوصفة و سر علاقتها بمدينة قسنطينة، و كيف اشتهرت فيها، فأخبرنا طباخو عائلة بوكعباش، و هم  مراد و عمار و داود، بأن أقدمهم هو الحاج بن صالح، الذي كان قد تعلم تحضيرها قبل 100 سنة، فعندما حل بالمدينة لأول مرة سنة 1918، كان الطبق موجودا و محبوبا فيها، وقد لقن الطاهي طريقة تحضيره للكثيرين، إلى أن وصلت الوصفة إلى جدهم عبد العزيز بوكعباش، وذلك خلال أربعينيات القرن الماضي،  و رغم أن هناك من يربط الطبق بمنطقة « الجناح» بجيجل، لكونها مسقط رأس أغلب الطباخين و أصحاب المطاعم في الشرق عموما، و قسنطينة على وجه الخصوص، إلا أن قصة الأكلة غير معروفة فعليا، حتى أن هناك من يقولون بأنها وصفة تعود إلى يهود قسنطينة، ويرجعها آخرون إلى زمن الباي أحمد، أحد أشهر بايات المدينة.
و عن السبب وراء شعبية الطبق، أخبرنا محدثونا، بأن للأمر علاقة بمناخ المدينة البارد شتاء، فصحن الحمص « السحفة» يشعر صاحبه  بالشبع سريعا، وذلك مقابل مبلغ لا يزيد عن 150 إلى 180 دج، وهو سعر مقبول بالنسبة للكثيرين، خصوصا الموظفين الذين يشكلون النسبة الأكبر من زبائنهم، إضافة إلى الكهول و الشيوخ ممن يحبذون الأكل المنزلي الساخن، على الوجبات السريعة الجاهزة. مع ذلك أكد محدثونا، أن زبائن الحمص كثيرون، فالنساء أيضا يحبونه ويسألن باستمرار عن سر نجاح وصفة المطاعم، أكثر من وصفات المنازل، كما أن هناك من الميسورين من يترددون باستمرار على مطاعم «الحمامصية»، لأن الطبق بات ببساطة، يرتبط بروح المدينة و بالأخص بحي رحبة الصوف العتيق، أين تنتشر هذه المطاعم.

و يستقطب محل عمي  علي، تلميذ عبد العزيز بوكعباش، الكثيرين، فالرحبة كانت ولا تزال القلب النابض لقسنطينة العتيقة و مركز كل النشاطات، و لا يمكن أن تضاهي أية متعة أخرى متعة تناول صحن من الحمص « دوبل زيت» في أحد مطاعم الحي القديم، أين ينتشي المرء برائحة الطهي، قبل أن يتذوق أول ملعقة.
يؤكل في الفطور
 يعرف أيضا على عشاق الحمص من أبناء قسنطينة،  بأنهم يأكلونه في الفطور ، حتى أن محلاته تفتح بعد صلاة الفجر مباشرة، و هناك من الزبائن من يقصدونها بعد ذلك بقليل، وحسب طباخي عائلة بوكعباش، فإن ذلك راجع لكون الحمص وجبة كاملة، تمنح من يتناولها الكثير من الطاقة التي يتطلبها الجهد البدني، كما أنها تسد جوعه طيلة يوم كامل، حتى أنها قد تغنيه عن وجبة الغذاء، و تساعده على الصمود إلى غاية الزوال، بدليل أن من يتناولون هذا الطبق صباحا، هم في الغالب عمال و رياضيون و أطباء كذلك.
طبق يسافر جوا إلى قارات العالم

يذكر الطاهي داود بوكعباش، بأن هذا الطبق يستهوي الكثير من فناني الولاية، فلطالما كان محله قبلة لكل زوار قسنطينة، إذ يتذكر بدقة اليوم الذي استضاف فيه قامات، من أمثال عثمان عريوات و الفنانة وردية رحمها الله، التي قال بأن محله المتواضع كان محطة قارة لها، فبساطة مطاعم الحمص الضيقة بطاولاتها الصغيرة، لم تكن يوما عائقا أمام استقطاب الزوار و الضيوف، بل على العكس من ذلك، فإن لهذه الفضاءات خصوصية و حميمية، تقرب الطاهي من زبائنه، فتنشأ بينهم علاقة مودة تتعدى البعد التجاري، إلى البعد الاجتماعي، و لعل هذه الخاصية هي ما يميز المطاعم الشعبية عموما، كما عبر.
خلال تواجدنا في وسط المدينة سألنا بعض سكان قسنطينة عن سر حبهم للحمص، فأجمعوا بأنه طبق لذيذ يتفق على حبه الفقراء والأغنياء و أن سر ارتباطه بالمدينة مغر جدا، حتى وإن كان مجهولا، وهو تحديدا ما  يزيد من تعلقهم به، و حسب سامي وهو مهندس و مصور هاو، فإن أكل الحمص، لا يتوقف عند الجلوس على طاولة مطعم و تناول وجبة ساخنة، بل هي متعة لا تكتمل دون مشاركتها مع بعض الأصدقاء، فدفء صحن الحمص، يبعث على الشعور بالانتماء إلى المكان و الألفة، ولعل ذلك هو ما يدفع بالكثيرين إلى زيارة المدينة، من أجل خوض هذه التجربة الغذائية الجميلة.
 أما مراد بوكعباش، فأكد لنا بدوره، بأن عشق الطبق عابر للقارات، فالبعض يطلبونه من أجل إرساله إلى أعزاء لهم في المهجر في أوروبا وأمريكا و آسيا، و ذلك من خلال رحلات جوية، فما يحمله صحن الحمص من روائح، يتعدى عبق التوابل و زيت الزيتون إلى رائحة الوطن، ونسمات الصباح في المدينة و الحي، وبين كل ملعقة وأخرى يتذوق البعيد، طعم القرب من الوطن، و يسترجع ذكريات الأحبة.         
  هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى