اشتهرت منذ القدم بلدية حامة بوزيان الكائنة شمال غرب قسنطينة، بوفرة منتوجها من فاكهة الكرز "حب الملوك"، التي تعود، حسب سكان المنطقة وما ورد في بعض المراجع، إلى فترة الرومان، وازدهرت زراعة الكرز خلال الفترة الاستعمارية، حيث كانت تخصص بساتين واسعة لأشجار هذه الفاكهة، مع اتباع طرق علمية في غرسها، وكان لطبيعة التربة والمياه الفضل الكبير في جودة الكرز الذي بلغ صيته مختلف الدول الأوروبية.
النصر زارت بعض بساتين الحامة، في إطار استطلاع ميداني ، فلاحظنا تراجع محصول الكرز بشكل لافت، بفعل التوسّع العمراني ومشكل تسيير مياه السقي.
الرومان و عشق «حب الملوك» الحامي
روى عدد من سكان الحامة ممن تحدثنا إليهم خلال هذا الروبورتاج، تاريخ فاكهة الكرز والارتباط الوثيق بينها و بين المكان، و من بين تلك الروايات أن الرومان أحبوا كثيرا الكرز، فكان القادة و الملوك يزورون الحامة في موسم جنيه، لتناول الثمار المتدلية من أغصان الأشجار، و يرجح أن ذلك وراء تسميته بالعامية "حب الملوك".
وقال عادل حلمي، ناشط جمعوي، إن بعض الكتب و الوثائق تبين وجود شجرة الكرز بالمنطقة قبل قرون مضت، و بالأخص في فترة تواجد الرومان، و اشتهروا بعشقهم لهذه الفاكهة و أكلها بنهم حتى التخمة، و النوم تحت ظلال أشجارها، و في الكثير من الأحيان كانوا يستفرغون بطونهم مما أكلوه من كرز لأكل كميات إضافية.
وأضاف عادل أن شجرة الكرز تكاد تكون مقدسة عند السكان، فلا يخلو بيت منها، وتنحدر من أصل الورديات كالمشمش و اللوز، و هي فاكهة تنضج في أواخر الربيع و بداية فصل الصيف و قد تمتد إلى أواخر شهر جويلية، و منها ما يبقى إلى فصل الربيع، و هي مكونة من فصين و تنقسم إلى نوعين الحامض و الحلو.
وحدثنا الفلاح يوسف مزغيش، 62 سنة، كيف منح المعمرون العناية القصوى للفلاحة بالحامة، فكانت الحديقة الخلفية لمدينة قسنطينة و تحديدا لفاكهة الكرز، و اتبعوا طرق علمية في زراعتها ما ساهم في انتشارها بكثرة و وفرة غلالها كل موسم، كما جلبوا معهم شتلات جديدة من أوروبا، وجدت في تربة و ماء الحامة البيئة الجيدة للنمو.
وقال من جهته الفلاح صالح مزغيش 42 سنة، أن أفراد عائلته تعلموا طرق زراعة أشجار الكرز من المعمرين و توارثوها من جيل إلى آخر، مشيرا إلى أنه يتم تحضير التربة و الشتلة في نهاية فصل الصيف إلى غاية فصل الشتاء، و يتم حفر حوالي 100 سنتيمتر لوضع جزء من النبتة و يغطى برمل البحر و جزء آخر بالذبال، أما الجزء العلوي فيغطى بتراب أشجار الزيتون، كما يتم تلقيمها  بأغصان من أشجار الكرز البري، أو ما يسمى " سكيلتا" و ينبت في الجبال و تكون ثماره صغيرة و ذات ملمس قاس و لونها شديد الحمرة، لكنها تعمر طويلا، و هو الغرض من عملية التلقيم.
حسب من حدثونا، فإن تربة المنطقة تلائم كثيرا أشجار الكرز، التي تتطلب تربة ناعمة الحبيبات، كما تحتاج عناية خاصة، فهي من الفواكه المدللة، كما قالوا، ولكرز المنطقة طعم لا يوجد في مكان آخر، بفضل خصوصية مياهها، وهو ما ساهم في الماضي في تحول الحامة إلى قطب فلاحي والمنتج رقم واحد للكرز في الجزائر، و توفرها على عدة أنواع، البعض منها وجدت منذ آلاف السنين في المنطقة، و البعض الآخر جلب الفرنسيون شتلاتها من أوروبا.
و من أهم أنواع كرز الحامة " بيقارو" و مذاقه يميل إلى المرارة، "قلب الثور" وهو من النوع الحامض يستعمل في إعداد المربى ، و كذلك "البدري الزهري" و "الروسي" وهذا النوع مخصص للتحلية، و النوع الآخر يعرف بـ "الثمر الصغير" وهو ما يتبقى من ثمار الأشجار تنضج في فصل الخريف و يكون حجمها صغيرا جدا.
وقد يصل منتوج الشجرة الواحدة بعد ثلاث إلى أربع سنوات من زراعتها، إلى حوالي 15 قنطارا، و يكون الجني عبر ثلاث مراحل، حسب كل نوع، فمثلا
"البدري" و "الروسي" تقطف ثمارهما في أواخر أفريل و قبل منتصف شهر ماي، بعدها "بيقارو" و "قلب الثور" و تجنى ثمارها في أواخر شهر جويلية إلى بدايات شهر أوت، كما يقام يوم 7 أفريل احتفال بجني المحصول، الذي يباع جزء منه و جزء آخر يتم توزيعه على السكان و الزوار، حيث تفتح البساتين للجميع ليأكلوا و يتذوقوا من ثمار الكرز.
الإسمنت و الجفاف يخنقان أشجار الكرز

لم يخل حديث من التقينا بهم من سكان الحامة، من أسف و حسرة اكتساح الإسمنت المنطقة من كل جانب، و كيف أتى التوسع العمراني على الأراضي الفلاحية و كذا البساتين التي اشتهرت بها منذ القديم، حيث كانت بمثابة الحديقة الخلفية لقسنطينة و منتجاتها ذات جودة و نوعية عالمية.
ومن أهم الفواكه التي تأثر محصولها بالظاهرة فاكهة الكرز التي تراجع محصولها، خاصة هذا العام لعدة عوامل، و خلال تجولنا ببستان أحد الفلاحين على الطريق المؤدي لمنطقة قايدي عبد الله، لم نجد سوى القليل فقط من ثمار الكرز فوق بعض الأشجار.
وقال لنا صاحب البستان الذي رفض البوح باسمه، إنه على غير العادة هذا العام كان محصول الكرز محتشما جدا، وهذا بسبب غياب عامل الرطوبة في فصل الربيع الذي تزهر فيه الأغصان وتتحول بعدها إلى ثمار.
 وبحكم ارتفاع درجات الحرارة هذا الموسم، تسبب ذلك في سقوط الأزهار قبل موعد تحولها إلى ثمار، وهو يعول على محصول المشمش والخوخ لتدارك الموسم الفلاحي.
من جانبه السيد علي بوستة، 33 سنة، أكد أنه هجر نهائيا حقله الذي كان قبل سنوات يجني منه ما يفوق 40 صندوقا يوميا من الكرز، و يضم أكثر من 700 شجرة كرز، منها التي يبلغ عمرها 30 سنة، و أرجع السبب إلى مشكل جفاف الينابيع و الجداول التي تعبر البساتين، بسبب سوء تسيير المنبع الرئيسي و إفلاس شركة " لكاسيد" المسؤولة عن تسيير مياه السقي في الحامة.
و قال الفلاح صالح مزغيش الذي وجدناه منهمكا في سقي القرع و الطماطم، إن إنتاج الكرز تراجع خلال السنوات الأخيرة بحوالي 50 بالمئة، و الكثير من أشجار الكرز كان مصيرها الإهمال، و تحديدا المتواجدة بالجهة الغربية للمنطقة التي اشتهرت منذ القديم بحدائقها، حيث تحولت إلى توسعات عمرانية على حساب الحدائق و الأشجار التي تم اقتلاعها، بينما ما ينتج اليوم في الحامة فهو من بساتين جديدة، ظهرت في الجهة الشرقية للحامة، لكنها ليست بالصورة التي كانت عليها من قبل، كون الجهة الغربية تتميز بنوعية تربة خاصة، إضافة إلى توفر قنوات السقي من الوديان و الينابيع، و كلها عوامل ساهمت في ازدهار هذه الفلاحة من قبل.
بساتين غناءة تغزوها الأشواك
انتهى بنا المطاف في بستان السيد عبود بوستة، صاحب 83 سنة، وهو أحد أقدم الفلاحين في المنطقة، و له سمعة كبيرة في الحامة بوزيان، حيث بدأ العمل في الأرض وهو صاحب 11 ربيعا، رفقة والده و جده، و كان عاشقا و محبا لها و بعد سنوات من العمل و الاجتهاد، نجح في الحصول على الكثير من البساتين و الأراضي الفلاحية، و كان محصوله يباع حتى خارج الولاية.
عمي عبود قادنا إلى بستانه الكبير وهو يتكئ على عكازه الحديدي و يتحدث بصعوبة بفعل السن و المرض، و الدموع تملأ عينيه، بسبب ما حل بالمكان الذي وجدناه مليئا بالأعشاب الضارة و الأشواك و   شجيرات الكرز التي تعد على الأصابع و التي لا تزال أوراقها مخضرة، بينما جفت الأشجار الكبيرة و سقطت أوراقها، لكنها لا تزال شامخة كأنها تصارع من أجل البقاء، بعدما أتت عليها ألسنة اللهب و أحرقت الكثير منها.  عاد بنا عمي عبود إلى سنوات بعيدة قائلا إن الفلاحة والبساتين والحقول كانت مزدهرة طوال السنة. و عن فاكهة الكرز قال إنها كانت تباع عبر مختلف ولايات الوطن، وذاع صيتها حتى خارج الحدود، فكل من يتذوقها يعجب بها، و كان يباع كرز الحامة آنذاك في أسواق فرنسا و إسبانيا و إيطاليا.
وأضاف المتحدث أن حجم ما كان يقطفه في اليوم يزيد عن 80 صندوقا من الكرز، وزن الصندوق الواحد 25 كيلو غراما، بمعدل 40 قنطارا يوميا، و نظرا لوفرة المحصول كان يذهب مرتين يوميا بشاحنته تجاه وسط المدينة، ليبيع الغلال، و لم يكن يخلو بيتا في الحامة من ثمار الكرز منذ بداية الجني في شهر أفريل.   وتذكر الفلاح كيف كان يوزع صناديق مملوءة بالفاكهة على الجيران و الأصدقاء، وكان يشغل يوميا قرابة 100 شاب من سكان المنطقة، لقطف الثمار من الأشجار التي يزيد عددها عن 700 شجرة، لكن اليوم لم يتبق شيء من ذلك البستان و تراجع كثيرا الإنتاج، لعدة أسباب منها  مشكل توزيع مياه السقي في الحامة، و الحرائق، و حتى ابنه علي الذي اشتغل معه في خدمة الأرض لسنوات، أجبر اليوم على ترك الفلاحة.
وهيبة عزيون  

الرجوع إلى الأعلى