اهتزت القلوب ليلة الجمعة الماضية بقسنطينة، على وقع نبأ فقدان 19 شخصا، بينهم أطفال و نساء، في حادث مرور مروّع نجم عن اصطدام حافلة بشاحنة على مستوى منطقة واد ورزق ببني حميدان، حادثة مأساوية خلفيتها رحلة عائلية إلى شاطئ البحر، عادت النصر، إلى تفاصيلها من خلال استجواب ذاكرة الناجين، و نقل شهادات تبين معاناة أسر الضحايا و حاجتهم لتكفل نفسي عاجل، خصوصا و أن بينهم من وجد نفسه وحيدا في الحياة، لا أنيس له ولا معيل.

تنقلنا صبيحة أمس، إلى بيوت الضحايا المنتمين إلى عائلة واحدة عن طريق رابطتي الدم والمصاهرة، لنقف على حال الناجين و نطمئن على قلوب المفجوعين في فقد أحبتهم، فعدنا مثقلين بكثير من الحزن و بتفاصيل عن لحظة وقوع الحادث، الذي تنعكس بشاعته وقسوته في عيون من خرجوا منه أحياء.
من شاطئ «الروشي نوار» بجيجل إلى مقبرة الزويتنة
محطتنا الأولى كانت منزل عائلة بوعناقة، بمنطقة عين بن سبع،حيث ذهبنا لمقابلة  لامية 49 سنة، الناجية التي فقدت  في الحادث شقيقتها و والدتها و ابن شقيقتها.
عندما وصلنا كانت قد غادرت المستشفى لتوها، لذلك بدت فعلا كعائدة من الجحيم، شاحبة و تعاني من كسور على مستوى اليد، إضافة إلى جروح في الوجه وإصابة في محيط العين، تركناها لتستريح قليلا و تستجمع قواها، وانشغلنا بالحديث مع خالتها، فطيمة دواس ، أخبرتنا محدثتنا، بأن برنامج الرحلة كان  قد ضبط قبل أيام عديدة، خلال لقاء عائلي في منزل شقيقتها الساكنة بمنطقة القرارم قوقة، وأنها كان يفترض أن ترافق المجموعة إلى البحر، خصوصا و أنهم اعتادوا التنقل بشكل جماعي في خرجات عائلية نحو الريف، أو لزيارة قريب، لكنها و لسبب معين تخلفت عن الموعد، الذي فقدت بعده شقيقتها منوبة 63 سنة، إضافة إلى ابنة الضحية الشابة منيرة 21 سنة، وهي عروس كانت تستعد لدخول قفص الزوجية، و كذا إيمان زوجة الابن الحامل التي أتمت الثلاثين من عمرها مؤخرا، إلى جانب فردين آخرين من العائلة يقيمان بميلة.
 استعادت لامية توازنها تدريجيا و بدأت تتحدث إلينا، بمزيج من الأسى و الذهول و الصدمة و بلغة غلبت عليها الدموع، فقالت « التقينا صباحا كما اتفقنا أنا و أمي شافية و ميشا و ملاك و سعاد ولميس و بلال و يونس و زينب  و مريم و رؤوف و ياسين و سارة وابنها و ميميشا وحبيبة و إيمان و منيرة و بدرو،  كنا 25 فردا من عائلة واحدة، قصدنا شاطئ «الروشي نوار» بجيجل، كانت رحلة ممتعة جلست في الحافلة إلى جانب المرحومتين والدتي و زوجة أخي إيمان، ووضعت ابن أختي بلال بحجري.
أخبرنا السائق بأنه سيأخذنا إلى أجمل شاطئ، وقد كانت الأجواء مرحة جدا و استمتعنا فعلا بيومنا، تناولنا غذاءنا و أكملنا الجلسة بالمثلجات،  قبل الغروب  عدنا إلى الحافلة و سلكنا طريق العودة، عندما اقتربنا من بني حميدان، كانت المرحومتان ميشا وشافية، تخططان للوجهتين القادمتين، مدينة الألعاب بولاية باتنة و شواطئ مدينة القالة، بينما كنت أطلب من شافية، أن تتصل بسائق  «الفرود» ليقلنا إلى البيت عند وصولنا إلى الجلولية، فعلقت قائلة «لا تقلقي يا لامية إن كتب لنا أن نصل إلى بيوتنا فسنصل، وإن لم نفعل فهو قدرنا»، ولا أنكر أنني انزعجت من حديثها المتشائم قليلا».
خلال حديثها كانت تنهار باكية بين الحين والآخر، وهي تتذكر الضحايا و تردد أسماءهم، توقفت لبرهة ثم استرسلت « عند المنعطف الأول كدنا نصطدم بمركبة من نوع «جي 9»، تحاشاها السائق وهو يعلق بأننا نجونا بأعجوبة، قبل أن ينقلب عالمي بعد ذلك بلحظات ونحن نبلغ منطقة واد ورزق، لم أفهم ماذا حدث فعلا، فقد اصطدم بنا شيء كبير وقوي و لا أتذكر كيف قذفت من الحافلة إلى الحقل المحاذي، أعرف أنني  حين استيقظت كانت يدي ملتوية و منيرة شقيقتي ملقاة أمامي، خاطبتها بذهول وأنا أبكي  « منيرة هل أنت ميتة لما أنت صامتة؟ هل ماتت أمي يا منيرة؟ لكنها لم تكن ترد، نظرت حولي فرأيت مشهدا مرعبا، الحافلة محطمة و بداخلها يوجد بشر كانوا متلاصقين و مدعوسين.
لم أستوعب شيئا من حولي إلى أن وجدتني في المستشفى، تكفل بي الأطباء و كانت واحدة تبكي و تحضنني، أخضعوني مباشرة لجهاز السكانير، وقد كنت أسأل باستمرار عن أمي و عن منيرة وبلال، أخبروني في البداية أنهم أحياء، لكن بعد أن نجحت عملية يدي و تحسنت، صارحوني بحقيقة موتهم وهي لحظة لا يمكن أن أنساها ما حييت، فقد انهرت ولم أستوعب الوضع إلى أن أخضعت لمتابعة نفسية متخصصة، قال لي المختص، بأنني حظيت بعمر جديد وأن لي أحباء في الجنة و أنني سأكون بينهم ذات يوم فهدأت».
 تركنا لامية في وضعية تدمى لها القلوب، لا تملك معينا بعدما رحلت والدتها التي كانت مسؤولة عن مصاريف العائلة بعد وفاة زوجها، أخبرتنا ونحن نغادر، بأنها يتيمة و وحيدة وعاطلة عن العمل، و تحتاج عاجلا إلى المساعدة و الدعم، لتتمكن من علاج نفسها و إعالتها، داعية مصالح النشاط الاجتماعي بقسنطينة إلى الالتفات لوضعها والتكفل بها.
«ابتلاني الله في أعز ما أملك»
فاجعة لامية، لم تكن أقل من مأساة شقيقتها سعاد، التي استفاقت على خبر وفاة والدتها و منيرة زوجة أخيها و طفلها صاحب الخمس سنوات، أخبرتنا والدموع تنهمر بقوة على وجنتيها، بأنها جاءت لقضاء العطلة عند والدتها، و لم تكن ترغب في ذهاب صغيرها للرحلة، فبدر الدين، كما قالت، مرتبط جدا بها وقد عانى المسكين منذ ولادته من مشاكل صحية، على غرار تشوه خلقي على مستوى الفم، و مشكل الفتق إضافة إلى اعوجاج في العمود الفقري، كما قضى أياما كثيرة في العلاج و الاستعداد للخضوع لعملية جراحية لتصحيح عموده .
قالت محدثتنا « ابتلاني الله في أعز ما أملك، بدر الدين ليس وحيدي لكنني أحبه جدا، فقد كان مريضا ويعاني من مشكلة تنفسية، لذلك رفضت أن تصطحبه جدته معها، لكنها أصرت لأنها كانت تحبه كثيرا، كان نائما لكنها أيقظته و ألبسته و أخذته رفقة زوجة ابنها الحامل، المرحومة إيمان، التي رحلت تاركة خلفها رضيعة عمرها سبعة أشهر، بقيت معي في المنزل، عندما غادروا صباحا نحو الجلولية، مكان التجمع و انطلاق الرحلة، هذا الحادث دمرني فقد توفي الكثيرون من عائلتي ولا أكاد استرجع أسمائهم و وجوههم».
ملاك و عبدالرؤوف شقيقان يغادران باكرا
ليس بعيدا عن بيت عائلة بوعناقة، كان باب عائلة بن فرج،  مفتوحا لاستقبال العزاء طيلة الأسبوع، وقد علمنا بأن المنزل استقبل و يستقبل معزين و متعاطفين من كل ولايات الوطن، أجواء المكان كانت كئيبة جدا و جدران البيت تضج بصدى أنين صاحبته السيدة لامية، التي فقدت في الحادث طفليها ملاك و عبد الرؤوف، إضافة إلى شقيقتي زوجها و ابنتي إحداهما، في البداية رفضت الحديث، لأنها كانت منهارة و غير قادرة على التحكم في دموعها، لم تقل سوى جمل بسيطة متقطعة  « لقد كان صغيراي رائعين مؤدبين و مجتهدين في الدراسة، تفوق عبد الرؤوف العام الماضي في شهادة التعليم الأساسي، و نجحت ملاك هذا العام في شهادة التعليم المتوسط، كانا سعيدين لأنهما جعلاني أفخر بهما، لم يكونا يفوتان فرض الصلاة، رغم صغر سنيهما، وقد أحبهما الجميع لحسن أخلاقهما».

 جدة الطفلين الحاجة لويزة، لم تكن في حال أفضل، لكنها بدت أقوى و قد استمرت في مواساة المفجوعة لامية، قالت لنا و هي تودعنا عند الباب، بأنها لا تصدق ما حدث، وأن إيمانها بقضاء الله وقدره وحده يقويها، فهي لا تكاد تستوعب كيف أصبح المنزل فجأة خاليا من سكانه، مضيفة بأن العائلة مرت من قبل بتجارب قاسية، لكن الحادث ضربة قاسية يصعب تحملها».  
«فاجعتي كبيرة وعلى العدالة أن تأخذ مجراها»
في منطقة بشير، كان السيد حسين بن زعيمة، يجلس بحزن، رفقة أفراد من عائلته عند مدخله بيته، تقربنا منه فقال، بأنه يشعر بالصدمة وأن تعقيدات الإدارة زادت من معاناته، فعملية استرجاع جثتي الضحيتين اللتين تقطنان في ميلة كانت صعبة،  ، فالأخبار تأتي من هنا و هناك غير واضحة، ولا مؤكدة ،ووضع العائلة غير مستقر و مشوش، خصوصا في ظل استمرار العزاء المفتوح ، حيث يتم استقبال جزائريين من كل الولايات، يوجد بينهم مسؤولون و برلمانيون.
 عمي حسن الذي فجع في فقد زوجته و حفيده و زوجة ابنه، أخبرنا بأنه لن يتخلى عن حق الضحايا وأنه يتعين على العدالة أن تسرع في القصاص لهم، و حتى وإن كان قد استقبل أفرادا من عائلة سائق الشاحنة في إطار العزاء، فإنه لن يتسامح،  فالفاجعة كبيرة ، كما عبر، ولا يمكن لإنسان تحملها، كيف لا وهو الذي أقفل الخط مطمئنا بأن أبنائه وصولوا تقريبا إلى المنزل، بعدما بلغت الحافلة بلدية بني حميدان، ليصدم بعد لحظات بخبر وفاتهم، وهو يشاهد و يسمع سيارات الإسعاف.
كان بإمكان السائق تلافي الاصطدام بالحافلة
كان حمزة بن زعيمة ، ابن المتحدث، و الناجي الثاني من الحادث يجلس قريبا منا، وعلى وجهه آثار جراح عميقة، ظل يستمع إلينا، قبل أن يتدخل قائلا، بأنه مصدوم، فهذه أول مرة يشارك فيها في رحلة عائلية بالحافلة، وما كان ليتوقع أنه سيفقد زوجته صاحبة 29سنة، و صغيره الوحيد الذي لم يتعد سنتين من عمره.
 أخبرنا، أن أكثر ما يحز في نفسه، هو أنه شاهد كل شيء من موقعه المحاذي للسائق، علما أن هذا الأخير كان أول ضحايا الاصطدام،  فقال «كان يمكن لسائق الشاحنة تجنب الحافلة، فحينما تجاوز الشاحنة التي قبله بسرعة فائقة ليجد نفسه في مواجهتنا، توفر لديه احتمال تغيير اتجاه المقود، لأننا لم نكن نسير في منعرج،  بل في طريق ممتد، كان باستطاعته أن يصطدم بقاطرة الشاحنة التي تجاوزها ومن ثم ينقلب في الحقل المحاذي، لكنه توجه نحونا مباشرة، لذلك فقد قتل جميع من كانوا يجلسون خلف السائق، و بالأخص من احتلوا الكراسي الأمامية الأولى» .
برنامج للتكفل النفسي بضحايا الحادث و ذويهم
 أفراد من عائلة بن زعيمة، كانوا متواجدين في المكان، قالوا بأن الحالة  النفسية لأهالي الضحايا جد مضطربة، وبأنهم بحاجة فعلا لتكفل نفسي، وبهذا الخصوص أوضح الأخصائي النفساني العيادي بمستشفى قسنطينة الجامعي، عابد شطة، بأن فريقا للمتابعة النفسية، كان قد جند على مستوى مصلحة الاستعجالات، بمجرد وصول الجرحى و ذويهم، حيث تم  التوجه إلى الضحايا و إخضاعهم لمعاينة أولية لتقييم حالاتهم النفسية و تحديد رد فعل كل شخص على حدة، قبل الشروع في علاج جماعي يبين الحلقة الأضعف من الأقوى، و يسمح باستغلال ذلك لإحداث التكافل بينهم.
في ما يخص عائلات الضحايا، أضاف النفساني، بأنهم يجب أن يحظوا كذلك بالمرافقة اللازمة لتخطي الصدمة، وهو ما سيتم العمل عليه عن طريق التواصل معهم بطريقة فردية، و استدعائهم، إن وجب الأمر، إلى المستشفى و معاينتهم و تقديم المساعدة الضرورية لأي شخص قد يحتاجها.
نور الهدى طابي

 

الرجوع إلى الأعلى