يرى أخصائيون نفسانيون أنه لا يمكن عزل أسباب وقوع حوادث المرور عن سياقها السيكولوجي الذي يعكس طبيعة السائق الجزائري الذي أصبح في الكثير من الأحيان يتسم  بالتهور و الاندفاع و المجازفة،  و تصرفات انتحارية عند قيادة المركبات، خاصة بالنسبة لفئة الشباب، و  تغذيها سياقات اجتماعية و اقتصادية و ثقافية و حتى بيئية، و تنجم عنها اضطرابات سلوكية  و نفسية تستدعي دراستها و تسليط الضوء عليها أكثر، لرصد الأسباب و الحلول، و إعادة النظر في آليات التكوين قبل تسليم رخص السياقة و كذا كيفية منحها للمترشحين، و شدد النفسانيون على إخضاعهم للفحص نفسي، و تعميق دائرة البحث حول أسباب الحوادث، بإشراك عديد الفاعلين.  

أعدّت الندوة: وهيبة عزيون

90 بالمئة من حوادث المرور سببها العامل البشري
غالبا ما تشير إحصائيات حوادث المرور في الجزائر، أن العامل البشري هو المتسبب الأول فيها، و تتجه أصابع الاتهام عادة للسائقين،  بسبب المجازفة و التهور في القيادة، بالأخص فئة الشباب ، بينما تتذيل العوامل الأخرى ترتيب أسباب وقوع الحادث .
حسبما تظهره آخر إحصائيات المديرية العامة للأمن الوطني، حول حوادث المرور المسجلة في الفترة بين شهر جوان إلى غاية 5 جويلية  2021، عبر كافة ولابات الوطن، فإن 96.69 بالمئة منها سببها العنصر البشري ، أما الطرقات و المحيط، فلم تتعد نسبتها 2.40 بالمئة ، و 00.91 بالمئة تتعلق بالمركبات، و تم إحصاء 689 حادث مرور من 22 جوان إلى 5 جويلية الجاري،  و 817 جريحا و 21 وفاة .
و الملاحظ أنه تم مؤخرا تسجيل أثقل حصيلة لحوادث المرور،  في ظرف ثلاثة أيام،  حيث تجاوز عدد الوفيات 40 قتيلا  من مختلف الشرائح العمرية، مع تسجيل عشرات الجرحى، من بينهم حالات جد حرجة ، و أثقل حصيلة سجلتها ولاية قسنطينة هي  19 وفاة و 11 جريحا،  جراء حادث اصطدام بين شاحنة و حافلة ، خلف مجزرة مرورية حقيقية.و غالبا ما يكون سبب هذه الحوادث التهور و الإفراط في السرعة و المجازفات الخطيرة، التي تعكس،  حسب المختصين، إصابة السائقين بمشاكل نفسية.

* البروفيسور حنيفة صالحي مديرة مخبر سيكولوجية مستعمل الطريق
سياقات تاريخية اجتماعية و ثقافية أنتجت سائقا جزائريا متهورا
 ترى أستاذة علم النفس العيادي و مديرة مخبر سيكولوجية مستعمل الطريق بجامعة باتنة، حنيفة صالحي، أن  دراسة أسباب تنامي ظاهرة حوادث المرور في الجزائر، لا يمكن فصلها عن سياقاتها التاريخية ، الاجتماعية و الثقافية ، التي  شكلت خصوصية سلوك الفرد الجزائري عن غيره في باقي دول العالم و أنتجت على العموم سائقا متهورا.
بخصوص السياق التاريخي، قالت البروفيسور حنيفة صالحي  أن  الفرد الجزائري لم يعرف الاستقرار، و هو كان على مر السنين في  مواجهة صدمات و أزمات و حروب، ما غذى الإحساس بانعدام الأمان و الاستعداد للهجوم و الدفاع عن النفس و التأهب لخطر محدق، هذا ما يولد داخل الشخص نوعا من العنف و ردود أفعال اندفاعية غير محسوبة، خاصة من قبل مستعملي الطريق، سواء من السائقين، و حتى المارة.
كما أن عدم  استقرار الاستراتيجيات التنموية في الكثير من المؤسسات، و عدم الاستمرارية في تصور شامل لبناء المجتمع، ساهم في عدم توازن الفرد نفسيا، بينما ساهمت فترة البحبوحة المادية التي عاشتها الجزائر في وقت مضى، في تزايد عدد السيارات،  و تحولت المركبة من كمالية إلى ضرورية و تغيير النمط الاستهلاكي في المجتمع، الذي لا يعكس طبيعة عيشنا كمجتمع، و حتى تركيبة المدن الجزائرية التي لا تستدعي هذا الاستخدام المفرط للسيارات، ما نتج عنه  عشوائية و فوضى كبيرة في حركة المرور، و  تزايد الحوادث.
و ترى البروفيسور حنيفة صالحي، أن  الشباب هم أكثر شريحة  تستخدم السيارات، و  بحكم طبيعة هذه المرحلة العمرية التي تبدأ من 18 سنة إلى 40 سنة،  تزيد لديهم  الرغبة في التمظهر و التفاخر، كما أن  نظرة الشاب للسيارة مغايرة فهو يعتبرها مكملة لذاته ، و دونها فهو إنسان ناقص ، و كل هذا ساهم في تغيير نظرة المجتمع الجزائري للسيارة من وسيلة نفعية إلى  وسيلة مكملة للفرد ،  من خلالها  يمكن تحقيق الكثير من الملذات ، التي عجزت البيئة عن توفيرها مثل فضاءات الترفيه ، ما أدى إلى الإفراط في استعمالها مع وجود فوضى مرورية كبيرة، و رغبة الشباب في عدم احترام القانون ، و اهتراء الطرقات و عدم التكافؤ في تطبيق قانون المرور ، كلها عوامل سرعت وتيرة حوادث المرور ، مع وجود حالة  من عدم الاكتراث بالحوادث، مهما بلغت خطورتها و حدتها .
و ترى الأخصائية أن عوامل اجتماعية و ثقافية و اقتصادية ، كالبطالة و الفقر و ظاهرة الحرقة و غيرها ، نمت الإحساس لدى الشباب بعدم جدوى الحياة و عدم النفع ، و البحث  الدائم عن متعة لحظية، يقدمها مقود السيارة ، من خلال الإفراط في السرعة و عدم احترام القانون ، و التمظهر في الطريق،  دون التفكير في العواقب، كلها تترجم هذا الكم و البشاعة في حوادث المرور التي تسجلها طرقاتنا.
و أضافت مديرة المخبر سيكولوجية مستعمل الطريق، أنه على مدار 11 سنة من إنشاء هذا المخبر الوحيد في الجزائر ، تجرى دوريا بحوث ميدانية ، و  مذكرات ماستر و أطروحات دكتوراه ،  مع إشراك عدة قطاعات، و تدور جميعها حول سيكولوجية مستعملي الطريق ، و قد نجح المخبر في تكييف و بناء أدوات بحث  خاصة بالبيئة الجزائرية و مستنبطة منها ، بعدما كان الاعتماد في السابق على بحوث و دراسات أجنبية .و أكدت المتحدثة أن أهم ما يتم استخلاصه من هذه البحوث الميدانية، أن دراسة أسباب حوادث المرور يجب أن يكون ضمن مقاربة نسقية  لكل الجوانب  المتداخلة .و من أهم مقترحات المخبر المقدمة في مشروع للوصاية  ، هو التركيز بشكل كبير على التربية المرورية ، لغرس الثقافة المرورية لدى النشء ، لكن غياب إرادة لدى أصحاب القرار، حسب مدير المخبر، أخر تبني المشروع.

* ماليك دريد أخصائي نفساني
الفحص النفسي لمترشحي رخصة القيادة حتمية  
أكد الأخصائي النفساني مليك دريد بمستشفى سطيف، على أهمية و إلزامية إخضاع كل المترشحين لرخصة القيادة، لفحص نفسي معمق، للكشف عن إمكانية وجود اضطرابات و مشاكل نفسية عند المترشح، لا تخول  له  تحصيل  الرخصة، لأن هذه المشاكل، من أبرز أسباب حوادث المرور.  و يرى  الأخصائي أن  القيادة المتهورة سلوك عدواني له دوافع نفسية و متغيرات ثقافية واجتماعية ، فمثلا التباهي بقوة السيارة أو الدراجة النارية، و خصائصها التقنية الحديثة، يمكن اعتباره كنوع من الرغبة في تعويض نقص في جانب من  جوانب شخصية السائق ، فالتصورات و التماثلات الاجتماعية عند بعض الشباب الجزائري، ليست نفسها في الدول المتقدمة، حيث تعتبر السيارة أو الدراجة النارية، وسيلة نقل و فقط، بينما تعتبر بالنسبة لبعض شبابنا وسيلة لتحقيق مكانة  و قيمة اجتماعية، ربما عجزوا عن تحقيقها بطرق أخرى، وهو ما نلاحظه مثلا في مواكب الأفراح، نتيجة رغبة بعض الشباب في لفت الانتباه.   كما أن الخصائص التقنية للسيارة تجعل السائق يعتقد أنه في منأى عن أي حادث، مادامت سيارته تحتوي على معايير سلامة عصرية، دون علمه أن السيارة ما هي إلا آلة كغيرها من الآلات، قد تتعرض للعطب في أي لحظة، مهما كانت متطورة ، إضافة إلى تأثر بعض الشباب بأفلام الإثارة و الأكشن ورغبتهم في تقليد تلك اللقطات، وكذا خصائص مرحلة المراهقة التي ترتبط  عند البعض بالتمرد على النظم والقوانين، بما فيها قانون المرور، خاصة بالنسبة لأصحاب الدراجات النارية.  و تجدر الإشارة إلى نقطة غاية في الأهمية، وهو أن السرعة والتهور في القيادة قد يخفيان بعض الاضطرابات النفسية و السلوكية كالعدوانية، و القلق ، كما قد يعكسان بعض الشخصيات السيكوباتية المرضية، أو الإدمان على الكحول و المخدرات. و يقترح المتحدث للحد من التهور والرعونة في السياقة، إدراج الثقافة المرورية، حتى عند المارة ، ضمن البرنامج الدراسي منذ المراحل الدراسية الأولى، فالطفل لابد أن تترسخ لديه ثقافة احترام الآخر، كما شدد  على إخضاع كل مترشح  للفحص النفسي، قبل الحصول على رخصة القيادة .

* البروفيسور محمد الهادي رحال غربي نفساني عيادي
سيكولوجية الجزائري تستدعي توسيع دائرة التحقيق في حوادث المرور  
شدد البروفيسور محمد الهادي رحال غربي، أستاذ علم النفس و باحث و مؤطر بمخبر سيكولوجية مستعمل الطريق بجامعة باتنة ، على أهمية توسيع دائرة التحقيقات في حوادث المرور ، خاصة المميتة منها، بإشراك عدة قطاعات و تخصصات،  إلى جانب الأمن و الدرك و الحماية المدنية ،  و فتح المجال أمام الأخصائيين النفسانيين و المهندسين التقنيين، و حتى وكالات التأمين، إن استدعى الأمر ، لمعرفة الأسباب الحقيقية للحوادث.
و أضاف أن سيكولوجية السائق الجزائري تستدعي هذه الإجراءات و التسريع فيها، في ظل تنامي الظاهرة مع البشاعة المسجلة في الحوادث التي تحصد آلاف الضحايا سنويا، و تخلف إعاقات خطيرة .
و يرى المتحدث أنه من الخطأ أن نتعامل مع الحوادث، خاصة المميتة بكثير من العاطفة،  دون معرفة الأسباب الكامنة وراءها، فلا يمكن وضع السائق دائما في خانة الاتهام،  فأحيانا يكون الضحية المتوفى هو سبب وقوع الحادث،  لذا وجب التعامل بموضوعية مع القضية و البحث و التدقيق عن السبب الرئيسي، فقد تتدخل الكثير من الأسباب في وقوعه، منها نفسية، اجتماعية، اقتصادية، صحية و غيرها، مع التركيز على العامل النفسي للسائق الجزائري، خاصة فئة الشباب، بما أنهم أكثر استخداما للمركبات و يشكلون أغلب الضحايا، فنظرتهم لحوادث المرور و حتى للموت مغايرة ، و يزيد لديهم حب المخاطرة و التهور و عدم احترام و التقيد بالقوانين ، لهذا نجد حوادث المرور المسجلة عن طريق المركبات النفعية، أكثر مما نسجله بالشاحنات التي لا تتجاوز نسبتها 7 بالمئة .
 الحل الحقيقي، حسبه، يكمن في غرس الثقافة المرورية  منذ الصغر ، مع تغيير منهاج دروس منح رخص السياقة التي وصفها بالسطحية، لأن  تطبيق الردع فقط، لم يساهم في معالجة الظاهرة، و حتى  الحملات التحسيسية من خطر حوادث المرور، رغم كثرتها، فهي عاجزة و فاشلة، لأنها غير مبنية على أسس علمية، مع تغييب كلي للمختصين، تحديدا  الجامعيين ، لأن الظاهرة تستدعي حقيقة القيام بدراسات علمية عميقة،  لمعرفة الأسباب الحقيقية لوضع حلول قصيرة و بعيدة المدى.

الرجوع إلى الأعلى