تراجعت الحركية التجارية إلى النصف في " شارع دبي" بمدينة العلمة، بعدما فرملت الجائحة تداولات السوق الأشهر في الجزائر ومقصد التجار والزوار التونسيين والليبيين كذلك، مع ذلك فقد أنعش الدخول الاجتماعي الأوضاع قليلا هذه الأيام، و أعادت تحضيرات العودة إلى المدارس الحياة للمنطقة، وفي وقت أعلن تجار إفلاسهم و أغلقت محالات، توجه آخرون نحو تقليل الاعتماد على الاستيراد و الاستثمار في الإنتاج الوطني الذي فرض نفسه بشكل ملحوظ مؤخرا.
إقبال لافت على مستلزمات التمدرس
رصدت النصر، خلال جولة في السوق، إقبالا لافتا من قبل زوار  "شارع دبي"، على المحلات الخاصة ببيع ملابس الأطفال و الأدوات المدرسية، ويأتي هذا تزامنا مع اقتراب موعد الدخول المدرسي، حيث عمد التجار إلى عرض آخر السلع المستوردة أو المصنوعة محليا، و بخاصة الحقائب والمآزر والأدوات المدرسية.
أخبرنا أحد زوار السوق، بأنه اختار شارع دبي كوجهة أولى  لما يتوفر هنا من منتجات مختلفة و بأسعار معقولة، مضيفا بأن هذا الفضاء التجاري الرحب، يتيح لك حرية اختيار مختلف السلع، حسب ما تسمح به ميزانيتك مهما كانت محدودة،  وذلك نظرا للعدد الكبير من المحلات التي تتنافس فيما بينها على استقطاب الزبائن.
متسوقون قابلناهم على امتداد الحي التجاري قالوا لنا،  بأن شهرة السوق لم تأت من العدم، بل ترتبط بكونه مقصدا مناسبا للعائلات ذات الدخل البسيط والمتوسط، لأجل توفير مستلزمات أبنائها من ألبسة وأدوات مدرسية وغير ذلك، خاصة وأن الأسعار معقولة جدا مقارنة بما هو موجود في الولايات الأخرى.
وتقصد الحي التجاري هذه الأيام، عائلات من جميع الولايات تقريبا، خاصة المدن الشرقية القريبة من مدينتي العلمة و سطيف على غرار قسنطينة و جيجل و برج بوعريريج و ميلة و باتنة و عنابة، وذلك بهدف اقتناء الألبسة الجديدة الخاصة بالأطفال، استعدادا للدخول المدرسي القادم، ومن بين زوار هذه السوق عائلة من ولاية برج بوعريرج، أخبرنا الوالد بأنه فضل التنقل إلى العلمة لشراء المآزر و الحقائب المدرسة لأبنائه الثلاثة، لكي يقتني المنتج بسعره الأولي دون هامش الربح الإضافي الذي يفرضه أصحاب المحلات والمكتبات في ولايته.

تجارة الجملة حيلة عائلية لمواجهة الزيادات في الأسعار

من جانبها، ذكرت سيدة، بأنها تزور الحي التجاري عند بداية كل دخول اجتماعي، لأجل كسوة أبنائها فالأسعار معقولة حسبها، رغم الارتفاع الطفيف المسجل في بعض السلع هذا العام، وهي ملاحظة، أبداها جل من تحدثنا إليهم تقريبا، إذ ذكر بعضهم، بأن الأمر يتعلق بفارق بسيط مقارنة بالزيادات المفروضة في أسواق و محلات أخرى لذلك يبقى دبي        " سوق النجدة" بالنسبة لهم، خصوصا العائلات و الجيران والأقارب الذين يقومون باقتناء المستلزمات المدرسية عن طريق الجملة، ومن ثم تقاسمها بشكل متساو فيما بينهم وحسب الحاجة، الأمر الذي يخفض من تكلفتها كثيرا.
الجائحة كادت تنهي عشرين سنة من النشاط
يذكر بأن الحي التجاري المعروف بسوق دبي، عرف تطورا ملحوظا في السنوات الأخيرة التي سبقت بداية الجائحة، خصوصا من حيث عدد محلات بيع ألبسة الأطفال والنساء  إذ فتحت العشرات من المحلات الجديدة عند مدخل المدينة من جانب الطريق السيار شرق-غرب، وتعود في غالبيتها لتجار قادمين من المدن القريبة للعلمة على غرار تاجنانت و ميلة و عين فكرون و أم البواقي، اختاروا الاستثمار في المنقطة لكونها قاطبة دائمة للزبائن من كل ربوع الوطن، وسوقا نشطة لتجارتي الجملة والتجزئة.
التطور الذي عرفه المكان، يعود بالأساس إلى اهتمام المستثمرين والتجار بشراء العقار و تحويله إلى عقار تجاري، حيث كان اختصاص السوق في بداياته أي قبل حوالي عشرين سنة، هو السلع المستوردة، مثل الأجهزة الكهرومنزلية ومواد التجميل و الأواني والعتاد الرياضي والخردوات، قبل أن تتطور أنشطته مع مرور الوقت، لتشمل الأثاث المنزلي والألبسة ومواد التنظيف والأحذية.
 لكن الظروف اختلفت بمجرد ظهور فيروس كورونا وإعلان الإغلاق العام، الوضع الذي أثر سلبا و كثيرا على الرئة الاقتصادية لمدينة سطيف و ما جورها من مدن، خصوصا وأن التجارة كانت حرفة العديد من شباب المنطقة، والسوق كانت ضمانهم الدائم للعمل و النشاط، في ظل الإقبال المتزايد عليها من طرف الجزائريين وحتى التجار والزبائن التونسيين والليبيين، غير أن الشارع التجاري الأشهر، فقد سمعته بعدما أغلقت محلاته كما تراجع صيته كثيرا بفعل استمرار غلق الحدود البرية والجوية و انكماش حركة الاستيراد، وكلها معطيات تسببت في انحصار النشاط التجاري بشكل رهيب على مستوى مدينة العلمة، بدليل انخفاض عدد الوافدين للحي في الأشهر الماضية، ما خلف مشاكل حقيقية للآلاف التجار، الذين أعلن بعضهم إفلاسهم فيما اضطر آخرون إلى إغلاق محلاتهم و البحث عن بدائل مهنية أخرى.
وقد تواصلنا مع بعض منهم خلال استطلاعنا، وكان لسان حالهم واحد " لقد قضي علينا"، إذ اشتكوا من التراجع الرهيب لأعداد الوافدين على السوق التجارية، مؤكدين بأن عودة النشاط نسبيا إلى المكان لن يكون كافيا لتدارك الخسائر الكبيرة التي تسببت فيها أشهر الغلق الطويلة، مضيفين بأن عودة الحركية كشفت عن انهيار كبير في القدرة الشرائية لنسبة معتبرة من المواطنين، كما بينت بأن تبعات الفيروس لا تزال مستمرة، فبعض الزبائن جد متخوفين من إمكانية التقاط العدوى في السوق ، على اعتبار أن المنطقة كانت بمثابة بؤرة لها في وقت سابق، وهو تحديدا ما جعل الحركية محدودة و مقيدة نوعا ما، و حال دون انفراج حقيقي للوضع.


تهديد التجارة الإلكترونية و تبعات غلق الحدود
 محدثونا تطرقوا أيضا، إلى تأثيرات تنامي سوق الفيسبوك و التجارة الالكترونية  عموما خلال فترة الجائحة، وكيف أن هذا النشاط الافتراضي سرق من الأسواق الحقيقية كثيرا من زبائنها، بما في ذلك سوق دبي، مؤكدين بأن من بين متعاملي الحي التجاري من عمدوا إلى فتح صفحات فيسبوكية للترويج لبضاعتهم بعدما اضطرتهم الظروف إلى غلق أبواب محلاتهم، مع  توفير خدمة التوصيل بالاعتماد على مؤسسات التوزيع و نقل البضائع.
وأكد هؤلاء التجار، أن مداخيلهم اليومية تراجعت بنسبة تفوق 50 بالمائة، مقارنة بما كانوا يحققونه من عائدات مالية في السنوات الأخيرة الماضية، وما زاد المشكل تعقيدا حسبهم،  هو استمرار غلق الحدود البرية مع تونس، التي كان مواطنوها و تجارها من أهم زبائن السوق، وهو ما تؤكده أرقام سبق وأن قدمتها مصالح التجارة بالولاية، وقدرت عدد الوافدين إلى العملة أسبوعيا بما يزيد عن ألف مواطن تونسي.
تجار شارع دبي، تحدثوا كذلك، عن مشكل ارتفاع أسعار كراء المحلات في الحي التجاري والتي تناهز أحيانا 20 مليون سنتيم شهريا، وقالوا، إن أوضاعهم المالية لم تعد تسمح بتحمل هذه الأعباء، وأوضح بعضهم للنصر، بأنهم لن يكونوا قادرين على تجديد عقود الكراء في قادم الأيام، نظرا لتراجع النشاط التجاري في الآونة الأخيرة، وعدم تكييف ملاك العقار التجاري من ظروف.
تجار آخرون قالوا، إنهم اضطروا إلى تسريح عدد معتبر من العمال لتحقيق التوازن المالي، بعدما أصبحوا عاجزين على دفع الأجور الشهرية بصورة منتظمة، وفضل بعضهم غلق محلاتهم والاكتفاء فقط باستيراد البضائع من الصين والإمارات، و وضعها في المخازن ثم بيعها مجددا لتجار الجملة والتجزئة، في حين فضل آخرون تطليق التجارة نهائيا بسبب الصعوبات المالية وتراجع الأرباح بشكل رهيب، وهو واقع وقفنا عليه فعليا خلال جولتنا في الحي، فالكثير من المحلات لا تزال مغلقة وبعضها معروض للكراء وهي سابقة لم يشهدها الشارع قبلا ، خصوصا وأن الكثير من التجار ومن جميع ولايات الوطن، كانوا يتسابقون و يتنافسون في الماضي للحصول على محل تجاري في موقع ممتاز على مستوى هذا الحي المشهور.
وقد أخبرنا من قابلناهم، بأن الجائحة قضت كليا على حلم  "المدينة التجارية" الذي كان مشروعا يستعدون لتجسيده لتتحول بذلك العلمة إلى مدينة ميتروبولية على غرار دبي الإماراتية أو شنغهاي الصينية، لكن المشروع توقف في النهاية بسبب الصراعات الداخلية التي نشبت بين التجار في السنوات الماضية، وأخرت العمل قبل أن يقضى على آمالهم نهائيا بسبب العدوى و تبعاتها.
ارتفاع تكاليف النقل البحري هاجس آخر
ويرى البعض من العارفين بخبايا الحي التجاري، بأن غلاء أسعار مختلف السلع المستوردة، يعد من الأسباب الرئيسية التي كانت وراء عزوف المواطنين عن القدوم إلى مدينة العلمة، بغرض التسوق في الفترة الأخيرة، مرجعين ذلك إلى ارتفاع تكلفة النقل البحري من موانئ الصين إلى الجزائر و مقدرين نسبة الزيادة بحوالي 300 في المائة.
 فبعد انتشار فيروس كورونا عمدت شركات النقل العالمية إلى مضاعفة تكاليفها كما أوضح أحد تجار لوازم الهاتف النقال، مشيرا إلى أنه اضطر مؤخرا إلى دفع ما قيمته 500 مليون سنتيم، كمستحقات لنقل حاوية من الحجم الكبير (40 قدم) من الصين إلى الجزائر، مضيفا في حديث للنصر، بأن تكلفة النقل لم تكن تتعدى في السابق 150 مليون سنتيم، وأضاف، بأن أرباح التجار تراجعت كثيرا في الآونة الأخيرة، بسبب التكاليف الباهظة لشركات النقل العالمية، دون احتساب المصاريف الأخرى، مثل أتعاب التوطين البنكي والضريبة على السلع التي تفرضها مصالح الجمارك ومستحقات وكلاء الشحن وغير ذلك، من الأعباء التي أفرزت مجتمعة زيادة في أسعار المنتجات مقارنة بالسنوات الماضية، وهو  ما شجع التجار مع مرور الوقت على التوجه للإنتاج الوطني خاصة في ظل التوجه الاقتصادي الجديد للحكومة، الهادف إلى تخفيض فاتورة الاستيراد، والسعي في نفس الوقت إلى رفع أرقام قيمة صادرات البلاد خارج قطاع المحروقات، بهدف ضمان مداخيل مالية هامة من العملة الصعبة للخزينة العمومية.
الصناعات المحلية بديل ناشط
وحسب ما وقفنا عليه خلال الاستطلاع في الحي التجاري، فإن  العديد من كبار التجار و أصحاب الأموال،  توجهوا نحو التصنيع المحلي و المقاولاتية، من خلال الاستثمار في إقامة مشاريع صناعية أو إنجاز ترقيات عقارية في العديد من مناطق الولاية، في محاولة للبحث عن حلول استثمارية جديدة، بعد تراجع النشاط التجاري على مستوى "شارع دبي".
والزائر للحي هذه الأيام، سيقف على كثرة السلع المنتجة وطنيا خاصة الأثاث المنزلي والأجهزة الكهرومنزلية ومواد التنظيف و مواد التجميل، وهذا عكس ما كان رائجا في السنوات الماضية، التي سيطر خلالها المنتج الصين و الإماراتي على نوعية العرض.
كما تعرف مشاريع المقاولاتية، مثل إنجاز الفنادق السياحية و الترقيات العقارية، تزايدا ملحوظا في المدينة و محيطها، وكلها موجهة في العموم لاستقطاب الزوار التونسيين و تجار التجزئة.
ويرى كثير من  المستثمرين الذين تحدثنا إليهم، بأن الحل الأنسب لإعادة تنشيط الحي التجاري، هو فتح الحدود البرية مع الدولة الجارة تونس، مع ضرورة مراجعة أصحاب المحلات التجارية لتكاليف الكراء، وأكدوا أيضا، على أهمية تكتل التجار للدفاع عن مصالحهم أمام مختلف الهيئات، ولم لا إعادة بعث مشروع "المدينة التجارية"، الذي يعد بفتح آفاق واسعة ومنح  دفع قوي للنشاط الاقتصادي على مستوى عاصمة الهضاب العليا.


مداخيل البلدية أيضا تراجعت
من جهة ثانية، فقد سببت إجراءات الحجر الصحي و غلق المحلات التجارية لمدة طويلة على مستوى حي "شارع دبي"، مع إلغاء تحصيل الضرائب من التجار، تراجع مداخيل ميزانية بلدية العلمة بنسبة فاقت 50 بالمائة.
وبالرغم من الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلدية، غير أنها استمرت في برمجة عدد من المشاريع التنموية الجديدة لصالح المدينة، كما تدخلت لتخفيف تبعات الحجر و ضمان استئناف جيد للنشاط التجاري، موازاة مع تنظيمها لحملات تحسيسية حول أهمية الالتزام بالإجراءات الوقائية، من خلال توزيع الكمامات على الوافدين إلى السوق التجاري.
وتراهن السلطات المحلية على استعادة الحي التجاري لنشاطه المعهود في القريب، خاصة مع الدخول الاجتماعي، و توقع توافد الآلاف من المواطنين من مختلف ولايات الوطن، لأجل التسوق تحضيرا للعودة إلى المدارس، حيث تعتبر السلطات السوق بمثابة "شريان الحياة" في المدينة.
وبالرغم من الأزمة الصعبة التي يشتكي منها حاليا تجار الحي، إلا أنهم لم توقفوا عن تقديم الهبات والمساعدات المالية لمواجهة فيروس كورونا والحد من انتشاره، حيث تجاوبوا سريعا مع نداء السلطات المحلية، و سارعوا إلى اقتناء العديد من الأجهزة الطبية ا لصالح المؤسسات الصحية الولائية، وعلى رأسها مستشفى "صروب الخثير"، كما ساهموا في تجهيز المدرسة البيداغوجية للأطفال المعاقين ذهنيا، وتحويلها لمركز استشفائي ثان لاستقبال مرضى الكورونا.
ولم تتوقف مساعدات التجار عند هذا الحد فقط، بل امتدت أيضا إلى تقديم هبات مالية معتبرة لإعانة السلطات المحلية في تنظيم المبادرات الإنسانية لصالح الأسر الفقيرة، أثناء فترة الحجر الصحي، وكانوا السباقين أيضا، إلى تقديم المساعدة للعديد من المرضى، وأشرفوا في الأسابيع الماضية، على جمع مبالغ مالية كبيرة لاقتناء مكثفات الأكسجين، كما تعاونوا مع الجمعيات الخيرية، لأجل توفير الوجبات الغذائية لعمال قطاع الصحة و حتى للمواطنين الذين خضعوا للحجر الصحي أثناء الموجة الأولى في الفنادق المتواجدة بالمدينة التجارية.
أحمد خليل

الرجوع إلى الأعلى