* غلاء المادة الأولية و منافسة «الكوستيم» المستورد  يهددان المهنة
كانت بلدية الجمعة بني حبيبي، شرق جيجل، قطبا هاما لخياطة  البدلات الكلاسيكية الرجالية، ذاع صيته لسنوات طويلة، خاصة و أن خياطي المنطقة، أتقنوا الحرفة و طوروها و نوعوا الموديلات المعروضة، و توارثها الأبناء و الأحفاد عن الآباء و الأجداد، فحول الكثير منهم  منازلهم، إلى ورشات للخياطة، جمعت الكبار و الصغار، ما جعلهم يحتلون المرتبة الأولى  عبر التراب الوطني، في مجال الخياطة و التفصيل.

و بمرور السنوات تراجع النشاط، بسبب الصعوبات التي يواجهها الخياطون، على غرار ارتفاع سعر القماش و استيراد البدلات الجاهزة من تركيا و إيطاليا، و نقص العتاد المتخصص، حسب بعض الخياطين الذين التقت بهم النصر في بلدية الجمعة بني حبيبي، لكن لا تزال عديد المحلات صامدة، في انتظار ظروف أفضل.
حرفة الأجداد التي توارثها الأبناء و الأحفاد
زائر الجمعة بني حبيبي، لابد أن يلاحظ وسط المدينة الجبلية، محلات عديدة لبيع البدلات الرجالية الكلاسيكية، و قال متابعون محليون في حديثهم للنصر، أن عدد المحلات تقلص كثيرا، مقارنة بسنة 2014 و ما قبلها، فقد كان آنذاك كل منزل يضم خياطا و محلا لبيع « الكوستيم»، لكن لم تبق اليوم سوى ورشات قليلة فقط، تركز على الكمية بشكل كبير، مع ضمان الجودة، علما بأن جل الحرفيين عصاميون تعلموا الحرفة، دون المرور بمعاهد التكوين، و لا يحملون شهادات.
قال عمي مولود، البالغ من العمر 70 سنة، أن ممارسة حرفة الخياطة بدأت بالمنطقة منذ عقود، لكنها شهدت أوج انتشارها بعد الثمانينات، فقد كانت بلدية الجمعة بني حبيبي معزولة ، و كان جل أبنائها الذين لم يتمكنوا من مواصلة تعليمهم، حسبه، يلجأون إلى تعلم حرفة الخياطة، حيث كانوا يتجهون إلى الجزائر العاصمة لتعلمها، مؤكدا بأن الخياطين الأوائل من سكان البلدية، تعلموا الحرفة و أتقنوها هناك، و قرر العديد منهم العودة إلى مسقط رأسهم و الاستقرار به.
 و أضاف أن جلهم ركزوا على خياطة البدلة الكلاسيكية التي كانت موضة في تلك الفترة، ما جعل البلدية  تحتل الريادة ، و تكتسب شهرة وطنية.
و ذكر عمي مولود بأنه عاد سنة 1987، و قرر فتح محل لخياطة الملابس، و كان يركز على خياطة « الكوستيم» في بداية مساره الحرفي، وقد  أضحت الخياطة، تمثل الدخل الرئيسي لمئات العائلات بالمنطقة، مشيرا إلى أن تطوير تصاميم «الكوستيم»، تطلب سنوات من العمل ، وتطورت وفق خطوط الموضة، و رغبات الزبائن.
عائلات جمع شملها «الكوستيم»
قال حرفيون بأن تسويق المنتوج، تم عبر مراحل، فقد كان  الزبائن الأوائل للخياطين هم العرسان، و عشاق البدلة الكلاسيكية، وصولا إلى تجار التجزئة و تجار الجملة، و اكتسب «كوستيم» بني حبيبي تدريجيا، حسبهم، شهرة و سمعة طيبة وسط الزبائن، ما جعل عدد تجار الجملة،الذين يقصدونهم يتزايد، و يشمل تجار من مختلف الولايات، هذا الإقبال دفع الحرفيين إلى تطوير نشاطهم، و فتح ورشات كبيرة للخياطة، لتحسين نوعية منتجاتهم، و تلبية الطلبيات الكثيرة.
و كانت الخياطة المنقذ للشباب من شبح البطالة طوال سنوات، فقد كانت تجمعهم داخل المنزل أو المرآب، و أكد أغلب من تحدثنا إليهم بأنها الحرفة التي حافظت على تماسك العائلات بالبلدية، فقد أدى فتح عدد كبير من الورشات في السنوات الفارطة، إلى التنافس بين الخياطين، ما ساهم في عرض طواقم ذات جودة عالية.
و قال خالد، صاحب محل لبيع الألبسة الكلاسيكية، للنصر، من جهته بأن الخياطة تعتبر مصدر الرزق الوحيد لمئات العائلات بالمنطقة، التي تعلم أبناءها منذ الصغر، الحرفة.
و أضاف المتحدث بأنه كان في وقت فراغه، يتوجه مباشرة إلى ورشة والده ، و يقلده في ما يقوم به ، و تعلم تدريجيا حرفة الخياطة، و رغم أنه واصل دراسته و تخرج من الجامعة، إلا أنه عاد إلى حرفة والده و أجداده، على حد قوله، كونها السلاح الخفي الذي كان بيده، فقرر فتح محل لخياطة و بيع الألبسة ، مشيرا إلى أن العديد من أقرانه ساروا على نفس النهج، وحققوا النجاح.
و الملاحظ أن العائلات التي تمارس هذا النشاط، حرصت على انخراط كافة أفرادها من نساء و رجال من أجل إنجاحه.
و أكد حرفيون، بأن أحد أسرار نجاح حرفتهم، هو ارتباطها بالأسرة، فالجميع تجدهم متحدين من أجل إنجاحها، و استمروا في ذلك لسنوات عديدة.
و أخبرنا عبد الله، بأن سبب نجاحه هو مرافقة زوجته و بناته له و دعمهن له، فالمرأة بطبعها، حسبه، تتقن الحرف و تنتبه لأدق التفاصيل في الخياطة.
و ذكر لنا موقفا صعبا عاشه في بداية مساره الحرفي، فقد تلقى طلبية في بداية مساره الحرفي من تاجر في العاصمة، لخياطة حوالي 200 بدلة كلاسيكية للرجال، و اشترط أن يسلمها له، خلال ثلاثة أيام كأقصى تقدير، و كانت فرصة لا تعوض، حسبه، لأن الثمن مغري، و كان سيخرجه من وضعيته المادية الصعبة، و يساعده في تسديد ديونه العالقة، على حد تعبيره.
 و أضاف أن زوجته و أخته، و بعض الجيران ساعدوه في تحضير     الطلبية،  و بفضلهم تمكن من تسليمها للتاجر في الموعد المحدد.
و أكد خياطون آخرون للنصر، أن عاملي التآزر العائلي و إتقان الحرفة، جعلا المنطقة تصبح قطبا لخياطة البدلة الكلاسيكية.
ارتفاع سعر القماش أثر سلبا على الحرفيين
أجمع العديد من الحرفيين من جهة أخرى، بأن خياطة «الكوستيم»، تواجه مؤخرا خطر الاندثار و الزوال، بسبب العديد من الصعوبات التي تواجهها، على غرار  نقص القماش المناسب، حسبهم، و ارتفاع سعره، بنسبة فاقت 40 بالمئة، ما وضع الخياطين في حيرة من أمرهم.
و أكد من جهته الخياط خالد، بأن عديد العراقيل و الصعوبات تواجه «أصحاب الصنعة»، أبرزها نقص الأقمشة ذات الجودة العالية، موضحا « إذ قمت بشراء قماش نوعيته رفيعة، فثمنه لا يقل عن 1200 دج للمتر الواحد، و يتم تفصيل ما يقارب 3 أمتار من القماش لخياطة بدلة واحدة، ترافقها العديد من الإضافات، ما يجعل تكلفة إنجاز الكوسيتم الواحد، يصل حدود 4000 دج، ناهيك عن أتعاب من يقومون بالتفصيل و الخياطة و الكي، ما جعل العديد من الخياطين يرغمون على اقتناء أقمشة أقل ثمنا و جودة».
و أضاف المتحدث بأن الخياطين يواجهون مشكلا آخر، يتمثل في استيراد الألبسة الكلاسيكية الجاهزة، و هي أفضل من المنتج المحلي، من ناحية الموديل و الشكل، مشيرا إلى أن تجار الجملة، عمدوا  إلى كسر السوق الوطني، بتركيزهم على الاستيراد، بدل شراء المنتوج المصنوع محليا.
وقال متحدثون للنصر، بأن العديد من المستوردين، لجأوا  إلى حيلة أخرى، و هي شراء ألبسة رجالية محلية و عرضها للبيع على أساس أنها مستوردة ، و ذلك، حسبهم،  لأن أغلب الزبائن يعشقون كل ما هو مستورد من تركيا أو إيطاليا.
و أعربوا من جهة أخرى عن أسفهم  لنقص الآلات الحديثة الخاصة بالخياطة و غلائها في السوق، ما أثر على تطوير الألبسة الرجالية، مؤكدين، بأن هذا المشكل دفع  عشرات الخياطين إلى التوقف عن النشاط، و غلق ورشاتهم و محلاتهم.
ورشات سرية

أضاف المتحدثون بأن هناك عاملا آخر أثر سلبا على نشاطهم،  و يتمثل، حسبهم، بعدم تكييف القوانين، بما يتماشى مع خصوصيات النشاط، خصوصا في ما يتعلق بالتأمين، فأغلب الخياطين يفضلون عدم تأمينهم من قبل صاحب العمل، و الحصول على مبلغ التأمين ضمن الأجرة الشهرية أو الأجرة بالقطعة.
و أكد المتحدثون بأن العديد من أصحاب الورشات، وجدوا صعوبة كبيرة في تكييف نشاطهم مع القانون و الواقع الذي يفرضه الخياط، فالخوف من تسليط العقوبة عليهم، جعلهم يمارسون نشاطهم بطريقة سرية، على حد قولهم، انطلاقا من فتح ورشات داخل منازلهم.
و بالتالي جل الورشات، تركز نشاطها في البيوت، بدل فتحها علنا أمام الجميع، فطبيعة النشاط الحرفي، حسبهم، جعلتهم يوظفون نساء و شباب يعملون في مجموعات، في الخياطة و إعداد الطلبيات التي تصلهم من تجار الجملة.
مسؤولون و زوار و عرسان من مختلف الولايات يجدون ضالتهم في الجمعة
عن أسعار «الكوستيم» قال الباعة، بأن سعرها في المحلات، تتراوح     بين 4 آلاف و  16 ألف دج، حسب نوعية القماش و موديل البدلة، و بالتالي يمكن لمختلف شرائح المجتمع أن تقتني ما يناسبها، فكل زائر أو عريس يدخل المحل، يجد ضالته، من ناحية الجودة و السعر.
قال خالد، بأن عدة مسؤولين و إطارات في الدولة ، من ولايات مجاورة، يحضرون إلى محله ببلدية الجمعة بني حبيبي لاقتناء ما يحتاجون إليه من الألبسة الكلاسيكية الرسمية، خاصة و أنهم يجدون هناك حسن الاستقبال و الراحة و الخيارات المتعددة.
 و قد التقت النصر بالمحل بشاب مقبل على الزواج رفقة أصدقائه، و أخبرنا، بأنه جاء من بلدية تبعد بحوالي 60 كلم، من أجل شراء « كوسيتم» حفل زواجه، و يجد عشرات العرسان و مرافقيهم ضالتهم بمنطقة الجمعة بني حبيبي، و ذلك راجع لعدة عوامل، من بينها السعر و النوعية، و كذا إمكانية إضفاء الروتوشات التي يريدها الزبون.
الاستيراد و غياب الدعم أثرا على الحرفة
حاولنا دخول العديد من الورشات، لكن أصحابها تهربوا من استقبالنا، باستثناء جمال الذي رحب بنا في ورشته المقسمة إلى جهة مخصصة للنساء، و أخرى للرجال. و أخبرنا، بأنه يوفر لهم كافة الظروف للقيام بعملهم كما قام بتأمينهم.و أوضح بأن خياطة «الكوستيم» ، تبدأ بمرحلة اختيار القماش، و تتطلب الدقة و معرفة مختلف الأنواع الموجودة التي تصلح لخياطة « الكوستيم»، مشيرا إلى أنه يشتري القماش من ولايات مجاورة، لأن بائعي الأقمشة بولاية جيجل يعدون على الأصابع و يبيعونها بأسعار مرتفعة.
و أضاف بأن جميع المراحل الأخرى، تتم بالورشة، إلى غاية البيع، حيث تتم خياطة البدلة الكلاسيكية دوريا، حسبه، مشيرا إلى أن الطلبيات نقصت، مقارنة بالسنوات الماضية، بسبب نقص الطلب على هذا النوع من اللباس من جهة، و كثرة ورشات الخياطة من جهة أخرى، إلى جانب زيادة استيراد الألبسة من الخارج، و تفضيل بعض الزبائن لها، ما أثر كثيرا على الحرفة.
و اعترف المتحدث أن الألبسة المستوردة عالية الجودة ، من ناحية دقة التفاصيل، عكس المنتجة محليا، مشيرا إلى أن في السنوات الماضية، ساعدت جودة خياطة الكوستيم في إقبال الزبائن عليه، إلى جانب توفير كميات كبيرة في الأسواق، لتلبية الطلبيات الكثيرة، لكن زيادة الاستيراد أثر سلبا على الصنعة.و دعا جمال السلطات إلى إعادة النظر في «كوطة» استيراد الألبسة التي يمكن صنعها محليا، و العمل على توفير الظروف الملائمة للحرفيين، بجلب العتاد المتطور لهم ليطوروا نشاطهم.
و شدد المتحدث بأن سر نجاح البدلة الكلاسيكية في الجمعة بني حبيبي، راجع لإتقان تصميمها و خياطتها من قبل أصحاب الحرفة.
 جدير بالذكر انه منذ بداية تراجع هذا النشاط، و صعوبة تسويق البدلة الكلاسيكية، لجأ الخياطون إلى خياطة أنواع أخرى من الألبسة، على غرار اللباس الرياضي، و ألبسة الأطفال و النساء، فقد أضحت مكملة للنشاط، مع الحفاظ على خياطة «الكوستيم».
كـ. طويل

الرجوع إلى الأعلى