مصانع - عطشى - بعد 30 عاما من التعثر و التحدي
ينهض صالح باكرا كل صباح لتعبئة صهريج مياه محمول على شاحنته الصغيرة، و التوجه إلى المنطقة الصناعية ذراع لحرش الواقعة ببلية بلخير شرقي قالمة، لتعبئة الخزانات و الأحواض الخرسانية بمصنع لإنتاج بلوك البناء، و قطع الأرصفة و المداخن. ظل صالح على هذا الحال منذ 2014 يبيع الماء للمصنع، ولا يتخلف أبدا عن الموعد، حتى صار واحدا من العمال الدائمين بالمنطقة الصناعية الكبرى، التي تعاني من أزمة المياه و أزمات أخرى حالت دون بلوغها الأهداف التي أنشئت من أجلها قبل 30 عاما، و منعتها من التطور و التحول إلى قطب صناعي ينتج الثـروة و مناصب العمل، بحوض سكاني كبير يعاني من البطالة و شح الموارد الجبائية المغذية للخزينة المحلية، التي تكاد تعجز عن سد حاجيات الموظفين و المحافظة على دوران دواليب المرافق الإدارية الحيوية.

روبورتاج : فريد.غ

النصر توغلت في قلب القطب الصناعي مترامي الأطراف، للوقوف على وضعية المشاريع الاستثمارية هناك، و الاستماع إلى أصحاب المشاريع الذين يخوضون معركة منهكة مع الزمن و متاعب الهيئات الإدارية و التقنية و المالية، ذات الصلة بالمنطقة الصناعية، التي راهنت عليها ولاية قالمة كثيرا لإحياء أمجاد صناعة محلية تكاد تصبح من الماضي، بعد تفكك المعامل الكبرى، وتوقف الكثير منها عن النشاط، تحت تأثير المنافسة القادمة من وراء البحر، و عمليات إعادة الهيكلة و تراكم الديون.
وتعد مصانع الدراجات النارية، و الخزف و الخميرة مثالا حيا للانتكاسة التي تعرضت لها الصناعة المحلية منذ نهاية الثمانينات، و يبدو بأن سوء الحال ما زال يطال الوحدات الفتية التي بدأت تخرج من تحت الرماد، بالمنطقة الصناعية ذراع لحرش، محاولة لإحياء البعض من ذلك المجد الضائع.
و سنحاول من خلال هذا الروبورتاج نقل الواقع الذي يعيشه القطب الصناعي الكبير من خلال موقف الإدارة الوصية و على لسان المستثمرين، و من خلال المشاهد التي رصدناها، و نحن نتجول بشوارع المدينة الصناعية طولا و عرضا، بين الوحدات النشطة و الهياكل الخرسانية و المعدنية الموحشة، و أشجار الزيتون و الأشواك التي غطت مساحات هامة من المنطقة، و تلك قصة أخرى مازالت تعيشها ذراع لحرش إلى اليوم.
ثلاثون عاما من الدراسات و الإنجاز و التعثر
في شهر ديسمبر 1990 تقرر إنشاء المنطقة الصناعية ذراع لحرش بقالمة على مساحة 45 هكتارا، و أسندت المهمة إلى مركز الدراسات و الإنجاز العمراني بعنابة، حيث تم تقسيم المنطقة إلى 70 قطعة ذات مساحات متفاوتة، مخصصة لاحتضان مشاريع صناعية في مختلف المجالات.
وتلقى المستثمرون إعلانات لشراء قطع أرضية و إقامة مشاريع لهم في إطار دعم و ترقية الاستثمار المنتج للثروة و مناصب العمل، و في غضون وقت وجيز بيعت القطع الأرضية كلها، و بدأ فصل آخر من تاريخ المنطقة الصناعية ذراع لحرش، حيث واجهت الهيئة المشرفة تحديات كبيرة لتهيئتها و ربطها بالشبكات الحيوية، و تمكين المستثمرين أصحاب المشاريع من بناء المصانع المقررة هناك، حسب دفتر الشروط المتفق عليه، لكن عملية الربط تأخرت كثيرا بسبب التمويل، و كان لزاما على المستثمرين الانتظار سنوات طويلة قبل بداية الإنجاز. و بذلك تحولت المنطقة التي ستحتضن مصانع كبرى، إلى حقول لإنتاج الخضر و الفواكه الموسمية، و بدأت مطالب المستثمرين تطفو على السطح معلنة عن بداية مرحلة طويلة من الركود و المتاعب، التي أثارت قلق الولاة المتعاقبين و مدراء الإعمار و الصناعة، و الطاقة و المياه و الأشغال العمومية.
و بالكاد تم شق الطرقات الداخلية و تحديد معالم القطع و بناء الأرصفة، مما شجع بعض المستثمرين على إنجاز مخططات المصانع، و تقديم طلبات للحصول على قروض التمويل، و بداية عملية الإنجاز ببطء و حذر شديدين، لأن عمليات جلب المياه و الطاقة ستحتاج إلى سنوات طويلة حتى تتحقق على أرض الواقع.
يقول الطاهر قبايلية أحد المشرفين على مشروع استثماري بالمنطقة الصناعية ذراع لحرش بقالمة، بأن أولى الوحدات المنجزة بالمنطقة ظهرت بين سنتي 1995 و 2000 لكن عددها كان قليلا، مضيفا للنصر بأنه و بعد إنجاز هذه الوحدات بقيت مغلقة سنوات طويلة بسبب انعدام التهيئة و الربط بالمياه و الكهرباء و الغاز، وهو وضع أثر على بقية المشاريع التي لم تنطلق، و أدى إلى تأخرها عدة سنوات.  
وقد «غامر» أوائل المستثمرين بالمنطقة الصناعية ذراع لحرش ببناء المصانع وسط الأحراش المعزولة، بلا جدار خارجي للمنطقة، و بلا طرقات و ماء و كهرباء، لكنهم عجزوا بعد ذلك عن دخول مرحلة النشاط بسبب انعدام الشبكات الحيوية.
و تقدمت ولاية قالمة بطلبات كثيرة إلى الدوائر الوزارية المركزية للحصول على اعتمادات مالية لتهيئة المنطقة و ربطها بشبكات المياه و الغاز و الماء و الصرف الصحي، حيث تم إيصال الكهرباء و تعبيد الطرقات الداخلية و الأرصفة، و بناء الجدار الأمني الخارجي، ونظام الصرف الصحي و الإنارة العمومية، مما شجع مستثمرين آخرين على بناء الوحدات الإنتاجية المقررة هناك، لكن القليل منهم فقط دخل مرحلة النشاط على مضض كما يقول صلاح الدين مهيرة، الذي كان يعتزم إطلاق مشروع لإنتاج المشروبات الغازية لكنه لم يتمكن من ذلك بسبب انعدام المياه.
الغاز و الماء مطلب رئيسي للمستثمرين و الصهاريج البديل المؤقت
في إحدى زوايا المنطقة الصناعية يعمل مستثمر تونسي على مشروع حيوي للتكنولوجيا الذكية و «الماركتينغ»، معتمدا على مهندسين و يد عاملة مدربة، لكنه بالكاد يواصل نشاطه بسبب انعدام الماء و الغاز، و غير بعيد عنه يحاول فريد بن طراد الإبقاء على نشاط مصنع لإنتاج مكعبات البناء و المداخن و قطع الأرصفة الخرسانية، معتمدا على صهاريج المياه التي كلفته الكثير من الجهد و المال.
و في قلب المنطقة ما زال المستثمر مهيرة صلاح الدين ينتظر وصول المياه لإنتاج المشروبات الغازية و العصائر، و اضطر إلى ممارسة نشاط التخزين و التوزيع و البيع بالجملة، حتى لا يبقى المصنع معطلا كل هذه المدة، بينما يسعى توفيق بوسلبة إلى مواجهة العقبات الإدارية المنهكة للحصول على شهادة المطابقة، و تقديم ملف للحصول على قرض لتمويل عملية شراء المعدات من الخارج و بداية صنع الزجاج المسطح و توظيف العشرات من العمال و التقنيين.

و بالرغم من معاناة الكثير من المستثمرين مع الإجراءات الإدارية لتعديل المخططات و النشاط و الحصول على الدفاتر العقارية و شهادات المطابقة، و عقود الملكية و عقود الامتياز، فإن العقبة الحقيقية التي تحول دون انطلاق الكثير من النشاطات الإنتاجية هي الماء و الغاز، حيث صرح المستثمرون الذين تحدثوا للنصر بأن تكلفة جلب قنوات الغاز إلى المنطقة الصناعية ذراع لحرش مكلفة للغاية، و لن يقدر عليها مستثمر واحد أو حتى مجموعة منهم، مطالبين بمشروع قطاعي تموله خزينة الدولة و يساهمون فيه بمبالغ محددة.
و طالب المستثمرون الذين أنجزوا مشاريعهم بإيجاد حل لمشكل المياه، مؤكدين بأنه تم بناء خزان خاص بالمنطقة الصناعية ذراع لحرش منذ عدة سنوات، لكنه لم يربط حتى الآن بقنوات التوزيع العابرة للمنطقة، و قالوا بأن الصهاريج المتنقلة هي البديل المؤقت و الوحيد لتموين الوحدات الإنتاجية النشطة حتى لا تتوقف، و تتحول إلى هياكل مهجورة كالمصانع المغلقة بالمنطقة.  
و يتوقع أصحاب المشاريع بالمنطقة الصناعية ذراع لحرش بقالمة، توظيف ما لا يقل عن 4 آلاف عامل عندما تدخل كل الوحدات مرحلة النشاط، بالإضافة إلى الجباية المنعشة للخزينة العمومية المحلية، متحدثين بأسى كبير عما تواجهه المنطقة من عقبات على مدى 20 عاما على الأقل، دون أن تجد لها حلولا جذرية.
الإنارة العمومية و خدمات الاتصال مطالب أخرى تنتظر الإنجاز
قبل أشهر قليلة قتل مجهولون حارسا ليليا بالمنطقة الصناعية ذراع لحرش بقالمة، و تعرض شخص آخر لحادث سير عند مفترق طريق المنطقة الصناعية و الطريق الوطني 80، حيث يعاني القطب الصناعي الكبير من العزلة بمنطقة أحراش و زراعة، بعيدة عن التجمعات الحضرية الآهلة، مما جعله عرضة لعصابات الإجرام التي تستغل عزلة الأماكن و تعطل أنظمة الإنارة الخارجية، لدخول المنطقة و الاختباء فيها و القيام بأفعال و نشاطات إجرامية.
و قد رأينا وضعا مترديا لأعمدة الإنارة الخارجية داخل المنطقة الصناعية ذراع لحرش بقالمة، و قال المستثمرون الذين تحدثوا للنصر بأن الظلام الذي يكتسح المكان كل ليلة، قد تحول إلى خطر كبير على الأشخاص و الممتلكات، مطالبين الجهة المالكة للمنطقة بإصلاح نظام الإنارة الخارجية، و تركيب المصابيح الاقتصادية، و الانتقال إلى الطاقة الشمسية المستديمة لتخفيف الضغط عن خطوط الإمداد التي تزود المنطقة بالطاقة الكهربائية.  
و يعتقد المستثمرون بأن إنارة المنطقة بشكل كاف خلال ساعات الليل، سيمنع المنحرفين من التسلل إليها، و يبعث السكينة و الأمان بين العمال الذين يعملون ليلا، و خاصة بالمصانع ذات الدوام المستمر كالمذبح الكبير الذي يمون عدة بلديات باللحوم البيضاء.
كما تعاني المنطقة الصناعية ذراع لحرش من عزلة هاتفية صعبت من مهمة التواصل مع الزبائن و العملاء، و قال المستثمرون بأن الربط بشكة الانترنت يعد ضرورة ملحة، مؤكدين بأن هذه الوسيلة أصبحت ضرورة في العملية الاستثمارية برمتها.
و قال فريد بن طراد صاحب مصنع إنتاج بلوك البناء بأن المدخل الرئيسي للمنطقة الصناعية يشكل خطرا كبيرا على الشاحنات و السيارات، بسبب السرعة الكبيرة على الطريق الوطني 80 و انعدام ممهلات تساعد على الولوج بأمان إلى المنطقة الصناعية.
و يرى المتحدث بأن بناء نقطة دوران على تقاطع الوطني 80 و طريق المنطقة الصناعية أصبح ضرورة ملحة، و لا يقل أهمية عن الماء و الغاز و الإنارة الخارجية لشوارع و أزقة المدينة الصناعية، لأن الأمر هنا كما قال، يتعلق بالأرواح و الممتلكات، حيث تشكل السرعة الفائقة إحدى أكبر العقبات التي تعترض المتوجهين إلى المنطقة الصناعية أو المغادرين لها.   
ملف الربط بالشبكـات الحيوية لدى وزارتي المالية و الصناعة
نقلنا انشغالات المستثمرين إلى مدير الصناعة بولاية قالمة لكننا لم نتمكن من لقائه، و انتظرنا عدة أيام دون جدوى، و في كل مرة تخبرنا أمانة المديرية بأنه خارج المديرية. و قد ارتأينا الاعتماد على معطيات سابقة قدمتها مديرية الصناعة إلى المجلس الشعبي الولائي قبل 4 سنوات، تتحدث فيها عن وضعية المنطقة الصناعية ذراع لحرش، و مشاكل الربط بالماء و الغاز، حيث أوضحت المديرية في تقريرها سنة 2017 بأن وزارة الصناعة و المناجم، بصدد إعداد دفتر الشروط الخاص بربط المنطقة الصناعية بالمياه الصالحة للشرب، حيث أن عملية التقييم الإداري تم إعدادها بالتنسيق بين مديرية الصناعة و المناجم، و مصالح الموارد المائية في حدود 2.34 مليون دينار للدراسة التقنية و المتابعة، و الإنجاز بمبلغ يقدر بـ 65.45 مليون دينار.

و بخصوص الربط بالغاز الطبيعي و حسب نفس التقرير، فإن الاعتمادات الممنوحة تقدر بنحو 157 مليون دينار بعنوان البرنامج التكميلي لسنة 2013 و قد تم إيداع مشروع الصفقة من طرف سونلغاز على مستوى الدائرة الوزارية بتاريخ  الرابع أفريل من سنة 2016، لتصل الكلفة بعد المراجعة إلى حدود 197.29 مليون دينار، و هو ملف يوجد على مستوى وزارة المالية.
و قالت مديرية الصناعة و المناجم بقالمة بأنه تم تعديل دفتر الشروط الخاص بالمنطقة الصناعية خلال شهر جوان 2013 بما يتماشى مع وضعيتها الحالية، بسبب إنجاز المستفيدين لمشاريع دون رخص بناء، و غير مطابقة لدفتر الشروط الأولي طبقا للقانون 15/08 المؤرخ في 20/07/ 2008 المحدد لقواعد مطابقة البنايات و إتمام إنجازها.   
و حسب المديرية دائما فإن ما لا يقل عن 42 مشروعا يوجد قيد الإنجاز وفق دفتر الشروط لسنة 2013، مؤكدة بأنه تم إحصاء قطع أرضية غير مستغلة داخل المنطقة الصناعية ذراع لحرش، و هو ما يعرف بالأراضي البيضاء حيث تم الاتفاق مع الجهات ذات الصلة على ضرورة توجيه إعذارات للمستثمرين المعنيين، و حثهم على بداية الإنجاز قبل تطبيق الإجراءات المعمول بها في هذا المجال، بما فيها استرجاع القطع الأرضية البيضاء المقدرة بنحو 16، و تسليمها إلى مستثمرين آخرين.  
مستقبل واعد و المتـاعب ستصبح حقبة من الماضـي
ينظر فريد بن طراد، و مهيرة صلاح الدين، و توفيق بوسلبة، و الطاهر قبايلية و مجيد بن سالم، بتفاؤل و أمل كبيرين لمستقبل المنطقة الصناعية ذراع لحرش بقالمة، رغم الولادة العسيرة التي مرت بها، و ما زالت آثارها إلى اليوم، معتقدين بأن الوضع الراهن لن يدوم أكثر من تلك السنوات العجاف التي مرت، و أدت ببعض المستثمرين إلى التخلي عن فكرة المشروع، و بيع و تأجير القطع الأرضية و الهياكل الخرسانية المهجورة.
و يراهن هؤلاء المستثمرون على دعم الحكومة لجلب الماء و الغاز و الانترنت، و على أهمية المشاريع المقامة بالمنطقة، و منتجاتها القادرة على المنافسة بالسوق المحلية و الوطنية، و خاصة في مجال مواد البناء، و الزجاج و التكنولوجيا الذكية، و استرجاع النفايات و إنتاج الغذاء و الخدمات، مؤكدين بأن الموقع الاستراتيجي لولاية قالمة يعد عاملا مشجعا على تطوير الاستثمارات الكبرى المنتجة لثروة و مناصب العمل، حيث تتوسط قالمة عدة ولايات شرقية، و تعد منطقة عبور إستراتجية بين المناطق الصناعية الكبرى الواقعة شمالا كعنابة و سكيكدة، و نقاط التبادل التجاري الواقعة جنوبا كقسنطينة و أم البواقي و غيرها من الولايات الداخلية الأخرى.
و عندما تنتهي مشاريع بناء الطرقات الجديدة بقالمة فإن الربط بين المنطقة الصناعية بقالمة و الأسواق الوطنية و الموانئ البحرية و الجافة، سيكون متاحا بمرونة كبيرة، و خاصة باتجاه الشمال حيث الموانئ و المطارات و مواقع التبادل المكثف على بعد 60 و 70 كلم من ذراع لحرش، التي مرت بمراحل صعبة، لكنها تتوجه اليوم إلى مستقبل جديد يضع تلك الحقبة في سجل الماضي الاقتصادي المتعثر بولاية قالمة.                      
ف.غ

الرجوع إلى الأعلى