لا يزال قصر الحاج أحمد باي بقسنطينة، بناية تحيط بها الكثير من الأساطير، و في كل مرة يُذكر القصر و جمال هندسته، تعود قضية السراديب و الأنفاق لتطرح مجددا، تماما كما يستمر الحديث عن غرف مخفية و سجون سرية للتعذيب، رغم تأكيدات الباحثين، بأن البناء لا يختلف كثيرا عن كل قصور العالم، و أن الممرات ليست سوى قنوات رومانية للمياه، كما أن الجانب الغامض والمظلم للقصر، هو قصة من وحي الخيال، أفرزها ضعف التأريخ و تضارب المعطيات، حول شخصية الحاكم العثماني المثيرة للجدل.

هـــدى طابــــــي

جدل يُغذي الشكوك..
يعد التأريخ لحقبة الباي، و تقديم توصيف دقيق لشخصيته، من القضايا الجدلية إلى غاية يومنا هذا، فنقص المعلومات و المصادر الملمة بحقبة العثمانيين عموما، يدفع الباحثين  على اختلافهم، إلى الاعتماد على الوثائق و الأبحاث القليلة التي تركها ضباط و أسرى من أمثال شارل فيرو و شلوسر، رغم ما يشوبها من شبهة انعدام الموضوعية، لذلك نجد الكثير من الروايات المتضاربة حول شخصية أحمد باي، فهو في دراسة للباحث محمد ميلودي حول  المقاومة الجزائرية و الدولة العثمانية، رجل دين و دولة، يتمتع بنظرة فلسفية للحياة إلى جانب كونه رمزا للوفاء و المقاومة و الشهامة، بالمقابل قدمت وثائق المستشرقين قبله، تصورا مختلفا تماما للباي، و ربطت شخصيته بالعنف، إذ قدمه شارل فيرو مثلا، على أنه دموي محب للنساء و اللهو.
بهذا الخصوص كان الدكتور في التاريخ  الحديث احميدة عميراوي، قد قدم مداخلة مفصلة سنة 2012 بقصر الباي بقسنطينة، تحدث خلالها عن الجدل المثار حول الحاج أحمد باي، و قال، بأن بعض وثائق الأرشيف الفرنسي تتضمن مغالطات كثيرة، على غرار وثيقة «ذكر سفر من الجزائر إلى قسنطينة» لعلي أفندي بن حمدان خوجة الجزائري، حيث شدد الباحث آنذاك، على ضرورة الفصل بين البحث و الترجمة، و قال إنه من غير المنطقي مثلا، تقبل قصة الجواري اللواتي وجدن في القصر بعد سقوطه، و قيل أن عددهن 389 جارية، وذلك لأن غرف القصر المحدودة، حسبه، يستحيل أن تأوي هذا العدد الهائل من النساء، كما ذكر الضابط الفرنسي فيرو، معتبرا بأن في ذلك مبالغة
و تزييف للحقائق.
رحلة الباي.. حج و عمارة
تشير مختلف المعلومات و المعطيات المتوفرة عن تاريخ بناء القصر، بأنه يعود للفترة  الممتدة بين 1826 و   1835، و تقول الروايات بأن فكرة بنائه، جاءت بعد رحلة قام بها الباي أحمد ، آخر بايات قسنطينة، إلى البقاع المقدسة، حيث  تأثر في طريقه بالنمط العمراني لبنايات تونس و طرابلس و بلاد المشرق،  فأراد أن يترجم إعجابه بهذا الفن ببناء قصر مماثل، وهي قصة يقول بعض الباحثين و المهتمين بتاريخ المكان، بأنها مدونة على شكل رسومات جدارية،  تزين الفضاء الداخلي للبناء الممتد على مساحة تعادل 5609 أمتار مربعة .
يشتمل الطابق الأرضي للقصر على عدة حدائق و فناءات رحبة، كما يضم 121 غرفة و500 باب ونافذة مصنوعة من خشب الأرز المنقوش بمهارة، و المطلي بالألوان الفاتحة الحمراء والخضراء و الصفراء، علاوة على 30 رواقا للتهوية  وحوالي 250 عمودا من الرخام.
سحر الجانب المظلم للقصر
جمالية هندسة المكان الذي بني على أنقاض 22 منزلا، تكمن حقيقة في ذكاء توظيف الطبيعة، فالقصر مقسم إلى جهتين، جهة شمالية غربية صيفية مظللة و باردة، تستخدم كثيرا في الصيف و جهة أخرى جنوبية شرقية، تتمتع بتدفئة جيدة تنبعث من الحمام الموجود أسفل الغرف و هي الفضاء الذي يستغل بشكل أكبر في الشتاء، لكن و رغم عبقرية هذا التفصيل، إلا أن الحديث عن القصر، كثيرا ما يغفل جمال السطح و يجنح أكثر لتمجيد تلك القصص التي تحاك حول ما يخفيه من غرف سرية و سراديب و أنفاق سفلية، تشكل الجانب المظلم منه و من شخصية صاحبه.
ممرات مغلقة تعمّق غموض الأسطورة

بحثا عن الحقيقة أو على الأقل جزءا منها، زرنا القصر و توغلنا في طابقه تحت الأرضي، كما تجوّلنا بين غرفه و أروقته و أجنحته، لنتتبع خط سير قد يقودنا فعلا إلى ممر مخفي أو حجرة سرية، فكانت بداية الجولة صباحا في حدود الساعة العاشرة، رافقنا خلالها، ملحقون بالترميم بإدارة القصر، المصنف منذ أكتوبر 2010 كمتحف للفنون و التعابير الثقافية التقليدية.
قبل أن ننطلق، أخبرنا الملحق عبد الرؤوف بن خليفات، بأن هناك لبسا في ما يتعلق بوظيفة بعض التجاويف و الخنادق، إذ يعتقد البعض، بأنها عبارة عن غرف سرية في حين، تبين طريقة بنائها، بأنها مطامير لتخزين المؤونة و غير ذلك، كما هو الحال بالنسبة للفتحة الصغيرة العميقة الموجودة بحديقة النخيل، والتي سبق لمغامرين قسنطينيين شباب، بأن استكشفوا عمقها.
أول سرداب دخلناه  كان بقبو الطابق تحت الأرضي، وهو ممر يرجح بأنه يصل  القصر بالصخرة الأم، أو صخرة القصبة، في الجزء المطل على وادي الرمال و تحديدا عند التجويف المسمى «كاف الشكارة» وهو مخرج مرتفع كان الباي يعدم من يعتبرهم «خونة» برميهم منه، بعد أن يغطي رؤوسهم بكيس، كما قال عبد الرؤوف.
 يتطلب الوصول إلى الممر، النزول إلى حفرة بها سلالم بعمق ثلاثة أمتار تقريبا، و من ثم المرور عبر قوس حجري، يليه فضاء متسع يضيق مجددا عند مدخل الممر  المظلم و الرطب و الموحش، الممتد على طول سبعة أمتار، تنتهي عندها إمكانية العبور، فالردوم ، تشكل حاجزا يستحيل اختراقه.
 و علمنا من مرافقتنا الثانية الملحقة بالترميم أنيسة فلاك، بأن هناك فرضية ترجح بأن يؤدي الطريق إلى وادي الرمال، وأنه قد أغلق خلال فترة الاحتلال الفرنسي، حينما تحول القصر إلى مقر للحاكم العام للشرق الجزائري.
 أول ملاحظة شدتنا خلال تواجدنا في المكان، هي طريقة تقسيم الممر و التي تشبه إلى حد كبير قنوات التصريف الرومانية،  التي تتسع في شكل حجرات صغيرة، ثم تضيق مجددا، كما أن شكل القوس كان الميزة التي تطبع سقف الحجرة و الممر، إن صح الوصف، و الواضح أيضا، أن النفق لم يكن غير مهيأ، فهناك آثار واضحة لحجارة مصقولة و مرتبة على الأرض والجدران.
ممر حديقة البرتقال و حكاية الجواري المعذبات

غادرنا النفق الأول واتجها مباشرة نحو الثاني، وهو عبارة عن ممر مخفي في حديقة البرتقال، يعتقد من يقف أمامه، بأنه امتداد لشبكة تصريف المياه أو فتحة بسيطة للتهوية،  لكن حين يرفع السياج الحديدي الذي يغطيه، ستجد نفسك أمام سلالم، ستقودك إلى قبو بعرض ثلاثة إلى أربعة أمتار، تحفظ فيه خردوات و أشجار مقطوعة، و توجد به بعض الأقواس، و يقدر ارتفاعه بمترين تقريبا و تتفرع منه حجرة ضيقة، يوجد بأحد جدرانها، ما يشبه المدخل،  قالت أنيسة فلاك، إنه مكان يربط القصر بحمام سوق الغزل، وذلك حسب بعض الروايات الشائعة، التي تشير إلى أن نساء القصر، كن يستخدمنه للتنقل إلى السوق و الحمام، وقد أغلق الفرنسيون كل ذلك إبان احتلالهم للبلاد.
محدثتنا، ذكرت جانبا من الحكاية التي تقول، بأن القبو كان سجنا مؤقتا لجواري القصر و مكانا للعقاب، قبل أن توضح بأنها قد تكون حكاية من ضرب الخيال، هدفها هو تشويه سمعة الباي، خصوصا و أن  من نقلت عنها هذه الرواية، هي عائشة، جارية مصرية أعدم الباي شقيقها.
قالت مرافقتنا، بأن الفرنسيين حاولوا مرارا النيل من الحاج أحمد باي، و روجوا الأكاذيب حول شخصيته، خصوصا بعدما كبدهم خسائر كبيرة في معركتي 1836 و 1837، و ذكرت في سياق حديثها، ما أشيع بأنه كان محبا للنساء و اللهو، و أن عدد الجواري اللواتي تم العثور عليهن في قصره بعد سقوط المدينة هو 398 جارية، إلى جانب زوجاته الأربع، وهي فرضية قدمها المستشرق شارل فيرو، و تبقى مستبعدة، حسبها، لأن جواري القصر و عبيده كانوا يعيشون خارج الأسوار، كما هو معروف، و يرجح أنهم لجأوا إلى القصر، هربا من بطش الفرنسيين عندما دك حصن قسنطينة.
 أما عبد الرؤوف بن خليفات، فقال من جهته، بأن هندسة القبو، توحي بأنه قد يكون مخزنا، و هو مدخل تم إغلاقه، حسبه، خلال الترميمات التي قامت بها شركة  « بيكا زاد»،  لتدعيم أرضية القصر،  مضيفا بأن الكثير من القصص تروى حول القصر و قصة الجواري إحداها، و هي رواية غير مؤكدة، و تحتمل الخطأ في اعتقاده.
الملحق بالحفظ أوضح، بأن عمليات الترميم المتتالية للقصر، حتمت غلق الممرات تحت الأرضية، لتدعيم الأرضية، و هي عمليات متتالية، انطلقت في البداية بين1982 و1986  ، مع قرار الاستنجاد بالشركة البولونية «بيكا زيد»، من أجل دراسة و إجراء خبرة لترميم القصر، بعدها وفي الفترة بين 1991   و 1998 ، تمت برمجة أشغال استعجالية لتدعيم الأساسات من طرف شركة « دي أن سي».
لاحقا وفي سنة 2002 ، أوكلت مهمة مواصلة الأشغال، إلى مؤسسة لحمر بن يوسف من عين الدفلى، وفي 2003   كلفت المحافظة الأثرية لمدينة قسنطينة، بمتابعة سير الأشغال، علما أنها مرحلة أشرف خلالها المهندس عبد العزيز بجاجة على العمل، حتى نهاية الترميمات.

في 2006 انتهت أشغال الكهرباء و قنينات الحرائق، و في 2007 تمت عملية تسقيف القصر، و بعد ذلك و تحديدا سنة 2008 ، وضع القصر تحت تصرف الديوان الوطني لحماية واستغلال المواقع الأثرية.
حقيقة الغرف السرية
ثالث ممر بحثنا عن أثره، كان ذلك الذي يربط حمام القصر بمسجد سوق الغزل، و هو مسجد بني في فترة تسبق بناء القصر، و رغم أن الممر معروف،  و لا يزال موجودا،  إلا أن مدخله أغلق نهائيا، و طمس أثره كليا خلال الترميمات التي أخفت كذلك بابا قديما، يتفرع من الممر المؤدي إلى الطابق تحت الأرضي، و هو مدخل كان يربط القصر بصحن مسجد حسن باي، و قد أغلق أيضا، خلال الترميمات، إلى جانب الممر الذي يصل الطابق تحت الأرضي بالغرفة الشرفية.
 أما عن حقيقة وجود غرف سرية، فقد أوضح محدثونا، بأنها مجرد حكايات متداولة، ولا أثر لغرف خفية  أو ممرات قد تكون استخدمت للتنقل بين حجرات خفية، لذلك يبقى هذا الاحتمال محل شك، خصوصا في ظل عدم توفر أية مخططات توضيحية، بما في ذلك مخططات الترميمات المتعاقبة التي لا يعرف لها مكان إلى غاية اليوم.
 بالمقابل، فإن الغرف الوحيدة التي يمكن أن نقول أنها محاطة بالغموض، هي تلك التي تتواجد ضمن محيط جناح القاعة الشرفية، و هي متجاورة بشكل يسمح بالتنقل بينها بسهولة و الخروج منها إلى القاعة، بشكل مفاجئ و مثير للفضول.
مع ذلك، توجد في الطابق تحت الأرضي الذي حوله المستعمر إلى سجن، قاعة غريبة، تنقسم إلى خمس غرف متداخلة، مغلقة، و مظلمة، و كلما تجاوزنا غرفة منها، ضاقت المساحة بشكل أكبر، لدرجة أن آخر واحدة منها، مصممة بشكل دقيق، لتتسع لشخص واحد فقط.

* الباحث في التاريخ والآثار حسين طاوطاو
ممرات القصر جزء من قناة مياه رومانية
أكد الباحث في التاريخ و الآثار، حسين طاوطاو، بأن الممرات المتواجدة أسفل القصر، ليست سرية أو استثنائية، و لا تعد جزءا من نظام تنقل سري، بل هي قنوات مياه قديمة تعود إلى العهد الروماني أي أنها كانت موجودة قبل بناء القصر، و قد بقيت مداخلها مفتوحة، بشكل ساعد على استخدامها  لا حقا بغرض التنقل، كونها تربط القصبة، بالعديد من الأماكن في المدينة، وذلك في ما يشبه شبكة أنفاق أو ممرات تحت أرضية.
الباحث قال، بأنه لم يطلع من قبل على مخططات تبين وجود ممرات أو غرف سرية في القصر، بما في ذلك مخططات الترميم التي أعدها البولونيون مع بداية علميات الترميم سنة 1982، مشيرا إلى أن ما يحتوي عليه الطابق تحت الأرضي، عبارة عن قنوات، تعد جزءا من شبكة المياه الرئيسية التي تعود للحقبة الرومانية، وهي قنوات تصب في الخزانات القديمة المتواجدة أسفل الثكنة العسكرية، بمرتفع القصبة.
 تنطلق القنوات كما أوضح طاطاو، من الزفر المائي، إلى جنان الزيتون و تمتد إلى حي المنظر الجميل، مرورا بحي قدور بومدوس، ثم نزولا باتجاه شارع عبان رمضان، حيث تتفرع عن القناة الأم، قنوات أخرى، منها ما يصل إلى باب الجابية، و منها ما يمتد إلى غاية القصبة، كما توجد قناة أخرى، تصل بين وسط المدينة و منحدر المنية، على طول 1.2 كيلومتر، و الشائع أن الفرنسي « لافي» كان قد استغلها لنقل القمح من طاحونته، إلى غاية وسط المدينة، ومن ثم نحو محطة القطار.

المترجم والكاتب هارون حمادو
كتابات المستشرقين تعمدت تشويه صورة أحمد باي
قال الكاتب والمترجم هارون حمادو، صاحب مؤلف  « تاريخ قسنطينة خلال الفترة العثمانية»، بأن القصص التي روج لها الفرنسيون المستشرقون حول شخصية الباي محل شك، و هي مغالطات غذت القصص والخرافات التي أثيرت وتثار حوله إلى غاية اليوم.
حمادو الذي ترجم وثيقة شارل فيرو « وصف قصر باي قسنطينة» أضاف،  بأن الضابط الفرنسي، كان ممن روجوا لقصة السراديب السرية و قصة الجواري، و قدم أحمد باي، كشخص عنيف و سادي، كان يعذب الجواري لتحسين مزاجه، كما يذكر أنه عذب أسيرا فرنسيا و أجبره على رسم جدارية القصر، لأنه اعتقد أن كل الفرنسيين فنانون، وهو طرح بعيد عن المنطق، و دليل على حجم التحامل و المغالطات.
فيرو تحدث أيضا، حسب الكاتب، عن النزعة الدموية والعنيفة للباي، واستشهد في ذلك بأنه أجبر رجالا من حاشيته، على جر عربة تجلس عليها ابنته، و أنه أطلق أسودا على كلاب، و استمتع بمشهد افتراسها لها، قبل أن يطلق النار على الأسود، و غيرها من القصص التي تميل أكثر إلى الخرافة.
المتحدث قال، بأن شح المصادر التاريخية و غياب التوثيق لتلك الفترة من تاريخ قسنطينة، صعب عملية تنقيح المعلومات و غربلتها، فالمطلع على سيرة الباي، يدرك أن هناك تناقضا كبيرا في القصص التي رويت عنه، لأنه كان رجلا حافظا للقرآن و قائدا عسكريا فذا و رجلا يحب السفر و يقدس الفن و العمارة، بدليل الجمالية الكبيرة لهندسة قصره، وحتى الوثائق التي كتبها محمد الصالح العنزري لا تحتكم لشرط الموضوعية، كما أضاف حمادو، و ذلك بسبب طبيعة العلاقة المتشنجة بين الرجلين، فالباي اتهم العنزري بالعمالة لفرنسا، كما أن الثاني لم يسامح أحمد باي على إعدامه لوالده.                                       هـ. ط

الرجوع إلى الأعلى