مشاكل عائلية دفعت بأشخاص من مختلف الفئات إلى الشارع

يتحدون برودة الطقس و قسوة الظروف و كل المخاوف، و يحملون عائلاتهم مسؤولية معاناتهم، مؤكدين أنها حولت حياتهم إلى جحيم، فاضطروا للفرار إلى الشارع لافتراش الكارتون و النوم على الأرصفة، فقد تعددت الأسباب، إلا أن النتيجة واحدة، و اختلفت الأعمار و المستوى التعليمي و الحالة الاجتماعية و الجنس،  إلا أن الظروف المزرية نفسها.. النصر التقت بعينة من هذه الشريحة، و سردت علينا قصصا مؤلمة، تتقاطع كلها في كون التفكك الأسري، دفع بعديد المواطنين، من بينهم مجموعة خريجي الجامعات، يتحولون إلى أشخاص بدون مأوى، همهم الوحيد كسب قوتهم اليومي.

 روبورتاج حاتم بن كحول

رافقت أول أمس، النصر، الجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان، مكتب ولاية قسنطينة، خلال تجسيدها لعملية تضامنية نظمها  أعضاؤها، تتمثل في توزيع وجبات ساخنة على المعوزين المحرومين من المأوى، بمختلف أحياء وسط مدينة قسنطينة.

كانت الساعة تشير إلى السابعة والنصف مساء، في ليلة باردة تهاطل خلالها المطر، عندما انطلقت القافلة محملة بالوجبات الغذائية، نحو حي الكدية بوسط المدينة، و شرع أعضاء الجمعية في توزيع الوجبات على أشخاص اتخذوا من الشارع مأوى لهم، ورغم أن وضعياتهم تختلف، إلا أنهم تشاركوا في أن السبب هو العائلة.
روايات و قصص مؤثرة رواها لنا هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون وضعية واحدة و هي التشرد ، رغم اختلاف الجنس و السن و العوامل، التقينا بأطفال و نساء ورجال و شيوخ، تحدوا برودة الطقس وغزارة الأمطار، من أجل عيش حياة وصفوها ب»الكريمة»، مقارنة بالجحيم الذي عاشوه، على حد تعبيرهم، بسكناتهم العائلية مع ذويهم.صادفنا في البداية أربعة أشخاص بحي الكدية، اتخذوا من الرصيف المتاخم لثانوية الأختين سعدان، قبالة متوسطة خديجة أم المؤمنين، مأوى لهم، و رغم البرد و المطر، إلا أنهم كانوا يتبادلون أطراف الحديث، و هم يفترشون الرصيف و يدفئون أجسادهم بأغطية سميكة، و يضحكون من حين لآخر، وكأنهم يشكلون عائلة، تقضي سهرتها  في السمر بمنزلها العائلي.
توجهنا إلى المكان فوجدنا امرأة و شيخا و شابين، مستلقين على مسافات متقاربة، سألونا عن سبب تواجدنا هناك، دون أي ارتباك أو خوف، رغم أن عدد أعضاء الجمعية كان كبيرا، فأدركنا أنهم تعودوا على قدوم الغرباء.
كانت تتكفل بالمتشردين فتحولت إلى واحدة منهم..
كانت إيمان، و هي سيدة في الخمسينيات من عمرها، أول شخص تحدثنا إليه، فقد كانت منفتحة على الحديث، و متحمسة لأخذ وجبة عشاء ساخنة، و طلبت وجبات إضافية لزملائها الغائبين، الذين كانوا في رحلة البحث عن وجبة يسدون بها جوعهم، حديثها كان يعكس مزاجها  الجيد و لا يخلو من السخرية و التهكم، وكأنها في مكان آخر و موقف مختلف.
انتقدت الخمسينية الوجبات ذات النوعية الرديئة التي يحضرها بعض المحسنين، و وصفتها ب»وجبات المساجين»، و تحمست للوجبة التي حصلت عليها من طرف أعضاء الجمعية، عندما علمت أنه تم تحضيرها و طهيها في المنزل، و استبعدت إمكانية موافقتها على نقلها إلى دار المسنين و العجزة.بعد حديث قصير بيننا، شرعت إيمان في سرد قصتها الحزينة التي أدت إلى تشردها منذ سنة 2009.
قالت «نحن نعيش على مساعدات الأشخاص و الجمعيات من أطعمة و أفرشة وأغطية منذ سنوات»، مشيرة إلى أنها قدمت إلى قسنطينة من مدينة سوسة التونسية، لأنها تحمل جنسية مزدوجة تونسيةـ جزائرية.
و أضافت «أنا متشردة، رغم أنني كنت موظفة بوكالة التنمية الاجتماعية، و كنت أتكفل بنفس الحالات التي أصبحت مثلها»، و أوضحت أنها متحصلة على شهادة البكالوريا، و تتحدث بطلاقة اللغة الفرنسية، إلا أن بعض الظروف جعلت منها سيدة دون مأوى.
و تابعت حديثها قائلة «شقيقي كان ينفذ أوامر زوجته حرفيا، فطردنا جميعا من المنزل العائلي، بعد وفاة والدي، الذي كان مجاهدا و شرطيا متقاعدا، تصوروا بعد رحيله مباشرة، قال لي أخي لم يعد والدنا موجودا و عليك مغادرة المنزل، فزوجته كانت تكذب عليه كثيرا، و تدعي أنني شتمتها و اعتديت عليها، ما جعله يقرر طردي».
طلبت إيمان، من المحسنين مساعدتها بتقديم بعض الملابس ، لأنها لا تملك الكثير منها، مشيرة إلى أنها لا تغادر مكانها، إلا في الساعة الخامسة، قبيل الفجر، لتتوجه إلى مقهى قريب، ثم تعود في الساعة السابعة صباحا.
تحول من شاب عاش حياة الرفاهية إلى متشرد
تحدثنا مع شاب آخر قدم من ولاية وهران، يدعى رضوان، يبلغ من العمر 28 سنة، لم يشأ أن يتحدث كثيرا عن معاناته، و اكتفى بالقول أنه متشرد منذ سنوات و كان يتنقل من ولاية إلى أخرى، حتى حط الرحال بقسنطينة، و يعيش بشوارعها منذ أزيد من سنة، مشيرا إلى أن زوجة والده هي السبب في وضعيته الصعبة،  فقد طردته من المنزل، بتواطؤ من والده، الذي لم يدافع عنه، فوجد  نفسه دون مأوى، بدل متابعة دراسته مثل أقرانه.
ظهر شاب آخر، نادته السيدة إيمان «شارلي شابلين»، فجاء رده باردا، وكأنه لا يريد أن يتحدث مع الغرباء، تلقى وجبته الساخنة التي لم يكن مهتما كثيرا بها، و و شعرنا أنه ينتظر رحيلنا ، من أجل سؤال رفاقه عن هويتنا و سبب مجيئنا.
هذا الشاب الغامض، كان يضع على عينيه  نظارات عصرية، و كان هندامه محترما و طريقة كلامه مختلفة، فدفعنا الفضول لمعرفة حكايته.
بعد تردد قال الشاب بأن ظروفا عائلية قاهرة، جعلته يغادر منزله و ينام في الشارع، طيلة عامين، و أضاف بصوت منخفض يعكس حسرة وحزن كبيرين، أنه كان يعيش حياة سعيدة وكريمة مع عائلته الميسورة، إلا أن كل هذا تحول إلى كابوس، بسبب زوجة والده التي حرضت والده ضده، فاضطر إلى ترك بيته، بحثا عن راحة البال، فوجدها وهو ينام على الكارتون في الشارع، عوض سريره المريح في منزله الدافئ، و ذكر المتحدث، أنه متحصل على شهادة البكالوريا وخريج الجامعة، إلا أن حياته انقلبت رأسا على عقب بسبب امرأة.
يوجد بذات المكان شيخ ستيني، من ولاية تبسة، كان يرتدي لباسا رثا وشعره طويل منسدل ولا يظهر إلا جزء صغير من وجهه العابس، بسبب لحيته الكثيفة، قال لنا أن أبناءه تخلوا عنه، بعد أن رعاهم عندما كانوا صغارا وتكفل بهم إلى أن أصبحوا رجالا، فكان جزاؤه الطرد من المنزل، فتنقل منذ سنوات بين عدة ولايات، ليقرر الاستقرار بقسنطينة، موضحا أنه تعود على حياته في الشوارع و يفضلها على تحمل قسوة فلذات كبده.
توجهنا بعد ذلك إلى شارع عبّان رمضان بوسط المدينة، فصادفنا شخصا كان يغطي كامل جسمه ووجهه بعلبة كارتونية كبيرة، و عندما اقتربنا منه، اكتشفنا سيدة في الأربعينات من عمرها، و عندما قدم لها أعضاء الجمعية الوجبة الساخنة، رفضت استلامها، و رفضت الحديث إلينا، و غضبت كثيرا عندما سألناها عن قصتها، و ارتفع صوتها فابتعدنا عنها، و اتضح لنا أنها مصابة بمرض عقلي، فقد كانت تصرخ «ابني في عوينة الفول، ستجدونه هناك»، و بقيت تتمتم بكلمات غير مفهومة عندما انصرفنا ...
واصلنا طريقنا في ذات الشارع، و تحديدا قرب محل الإطعام السريع «ميغا»، فصادفنا أسرة تتكون من ثلاثة أفراد، أم في الخمسينات من عمرها، و طفلة و صبي، فرفضت الأم المنفعلة ذات الملامح الحادة، الحديث إلينا، وتتحدث بنبرة مرتفعة وبملامح حادة، وأكدت لنا أنها ملت من التشهير بها و بولديها، خاصة وأنه تم التقاط صور لها و نشرها بموقع التواصل فايسبوك، مما جعلها تقرر عدم التحدث مع أي غريب، حتى و لو بدافع طلب أو عرض المساعدة، خاصة و أن طفليها تلميذان في الطور المتوسط، وتأثرا نفسيا ، بسبب سخرية زملائهما، عندما شاهدوا صورهما في الفضاء الافتراضي.
زوجة طليقها أرادت حرمانها من طفليها
قالت الأم التي كانت تفترش الكارتون، أنها مستعدة للحديث معنا، بشرط ألا يتم تصويرها، و اعترفت أنها وطفليها لم يتناولوا وجبة العشاء، ما جعل أعضاء الجمعية يقدمون لهم الوجبات بسرعة، و شرعت في سرد مأساتها، فقد طلقها زوجها  و حرمها من النفقة، بأمر من زوجته الجديدة،  التي طلبت منه التكفل بحضانة ابنيها منه، بحجة أنها لا تملك مسكنا وغير قادرة على الاعتناء بهما.
عندئذ قررت السيدة مغادرة ولاية عنابة، و قدمت  إلى ولاية قسنطينة، خشية أن يحرمها طليقها من طفليها، مشيرة إلى أنها تتنقل بين الولايتين، لأن بعض الأشخاص لم يرحموها ، رغم ظروفها القاسية، فلا تستطيع النوم ليلا ، و لم يغمض لها جفن منذ مدة طويلة،  لحماية فلذتي كبدها.  
وأضافت المتحدثة، أنها تتلقى بعض المساعدات المتمثلة في مواد غذائية، إلا أن من يساعدوها كانوا يصورونها ما جعلها تغضب كثيرا، خاصة و أن سمعتها تشوهت في عنابة بسبب هذا السلوك، فعانى ابنها البالغ من العمر 10 سنوات و ابنتها  البالغة 12 سنة ، من ذلك و تأثروا كثيرا، و عندما سألنا الصبي عن مستواه التعليمي ارتبك، ثم أشار إلى أنه يدرس في الطور المتوسط.
طالبة في علم النفس  انتهت إلى الشارع
توجهنا بعد ذلك إلى ساحة أول نوفمبر، و تحديدا إلى البريد المركزي، فوجدنا قربه،  سيدة في الخمسينات معروفة بين سكان الحي، لأنها تعيش هناك منذ مدة طويلة، فقالت لنا «أم أمين» ، التي رفضت أن تقدم لنا اسمها الحقيقي، أنها متحصلة على شهادة البكالوريا، و كانت تدرس بمعهد علم النفس بالعاصمة، لكنها اضطرت للعودة إلى قسنطينة بعد الزلزال الذي ضرب ولاية بومرداس.
وأضافت المتحدثة أنها كانت تقطن في حي سوق العاصر بوسط المدينة، إلا أن مشاكل عائلية تسببت في تشردها، حيث أنها، كما قالت، تعرضت للطرد من طرف والدها وأخواتها البنات، اللائي هددنها بالقتل، و بعد مدة من التشرد عادت مجددا إلى منزلها العائلي، ليتم طردها مرة ثانية، و قام والدها ببيع الطابق الأول من المسكن العائلي، ثم الطابق الثاني، دون أن تنال حصتها ، على غرار إخوتها.
السيدة التي كانت تتكلم كثيرا باللغة الفرنسية، قالت إن ابنها يوجد حاليا بمركز رعاية الطفولة، و وعدتها السلطات بإرجاعه إليها بعد حصولها على سكن لائق، مشيرة أنها وضعت ملفا على مستوى دائرة قسنطينة من أجل الحصول على سكن اجتماعي، في أواخر سنة 2017، و بحوزتها وصل استلام من ديوان الولاية، وهي الآن تنتظر دورها، رغم أن لها الأولوية في الاستفادة،  مقارنة ببقية الأشخاص الذين يحتاجون إلى سكن، بحكم أنها لا تملك مأوى لترعى ابنها.
و أضافت أنها ابنة مجاهد، وتمكنت بمساعدة رجال الشرطة من الاستفادة من منحة و تعيش على مساعدات الجمعيات و المحسنين الذين يدعمونها بالمال والأفرشة والألبسة و الطعام، مشيرة إلى أن مجهولين سرقوا منها مبلغ 70 مليون سنتيم، كانت تضعه في حقيبتها اليدوية.
و أردفت أم أمين أنها لم تتمكن من متابعة ملف السكن، بسبب عجزها عن السير، نظرا لإصابتها بعدة أمراض مزمنة، منها فقر الدم و السكري، و تلتمس من المحسنين مساعدتها لكراء سكن لتجتمع بابنها مجددا، في انتظار دورها في الحصول على سكن اجتماعي.        
ح.ب

الرجوع إلى الأعلى