المدينة الحمراء تاغيت .. لوحة ساحرة وآثار تتحدى الزمن

في صبيحة يوم مشمس جميل، انطلقت بنا حافلة الديوان الوطني للسياحة، من مدينة بني عباس، حيث كنا نقيم خلال رحلتنا في قلب الصحراء، نحو تاغيت الساحرة، على مسافة تقدر بحوالي 250 كلم، وسط تضاريس متنوعة تضم الكثبان الرملية والسهول الواسعة، والجبال الحجرية، و كأننا نتنقل من قارة إلى أخرى.

 روبورتاج: عبد الحكيم أسابع

بعد سويعات قليلة، بلغنا مشارف تاغيت، التي تعد واحدة من بين أكثر الوجهات التي يفضلها السيّاح العرب و الأجانب و كذا الجزائريين، ليس فقط خلال الاحتفالات برأس السنة الميلادية، أو موسم السياحة الصحراوية، بل يغتنمون كل الفرص المتاحة للتمتع بسحر الطبيعة و حضور المهرجانات و المناسبات الدينية و التراثية التي تحتضنها هذه المنطقة الساحرة، ذات المواقع السياحية و التاريخية المميزة .

عندما وصلنا إلى مشارف المدينة، أصررنا على التوقف لكي نلتقط صورا من أعلى جبل صخري يشقه الطريق المتوجه نحو المدينة، فوقفنا على مناظر في منتهى الجمال لهذه المنطقة، التي حباها الله بالتنوع البيئي، لتبدو كلوحة فنية طبيعية تضم تضاريس ساحرة، و إرثا حضاريا، تراثيا و تاريخيا مميزا ، ما جعلها تستحق أن تكون محجّا  للسيّاح من مختلف دول العالم.
على امتداد البصر يمكن للزائر القادم من المدخل الغربي للمنطقة، أن يقف على مناظر بساتين النخيل الغناء، التي اختارت يد الإنسان أن تجعلها جنة فوق الأرض، و تماوج كثبانها الرملية، المتداعية في السُّموق بألوانها الذهبية السّاحرة، ما جعلنا نتوق للإسراع في التوغل للوصول إلى مختلف المواقع السياحية الطبيعية الأخرى، كبحيرة قروش، إلى جانب المعالم الأثرية التي كنا نسمع عنها، على غرار القصر العتيق و الرسومات الصخرية.دخلنا المدينة من بوابتها الغربية، وكانت أول نقطة توقفنا فيها هي الساحة العمومية التي تتوسط مركز بلدية تاغيت، وهي أيضا مركز دائرة من دوائر ولاية بشار، التي تقع على بعد 97 كلم جنوب عاصمة الولاية، ( 1100 كلم إلى الجنوب الغربي من الجزائر العاصمة )، و هناك وجدنا في استقبالنا مسؤولين وأعيانا وممثلين عن الديوان الوطني للسياحة، خصصوا لنا دليلا يرافقنا.
خلال تجولنا في الساحة قصد شراء بعض التذكارات، التقينا ببعض الشبان من أبناء المدينة من النشطاء في الجمعيات السياحية، فدفعنا الفضول للتعرف أكثر على تاغيت،  قبل أن ننتقل إلى محطات أخرى خلال الرحلة.
سألنا أحدهم ويدعى بوبكر، عن أصل تسمية المدينة، فسرد علينا روايات مختلفة،  حيث ذكر بأن ثمة من يقول بأن تسمية '' تاغيث '' ، مشتقة من كلمة '' غيث''،  أي'' المطر الصيفي الخفيف''، فيما هناك من يرجح أن مصدر هذه  التسمية،  شيخ طاعن في السنّ، أعياه السفر، حتى كاد يُهلك، إلى أن تراءت له واحة وفيرة الظل، كثيرة الماء، وجد فيها ملاذًا للرّاحة، و مساحةً تدفعه للتشبث بالحياة، فأطلق عليها هذه التسمية، لأنها أغاثته من هلاك العطش المؤدي إلى الموت.و أضاف المتحدث أن الكثيرين يرجحون أن "تاغيت"، اسم بربري مشتق من "تاغونت" و تعني الحجرة، و"تغليت" وهي الهضبة.. و على اختلاف الروايات فإن المتفق عليه أن تاغيت منفردة بجمالها، فأصبحت عروس "الساورة"، التي حظيت بشرف تصنيفها من طرف منظمة اليونيسكو سنة 1982، كموقع للتراث العالمي.
لوحة طبيعية و تضاريس ساحرة

عندما تتوجه إلى أطرف المدينة سيشد انتباهك وادي زوزفانة الذي يعانق المدينة الحمراء بشوق عاشق، و يعتبر إحدى المحطات الرئيسية للسياح، الذين يقصدون تاغيت، إذ يكمل تفاصيل اللوحة الطبيعية التي يمثل سكان المنطقة جزءا لا يتجزأ من جمالها، كما قال مرافقنا للنصر، ما  يجعل زائر المنطقة يشده الحنين لزيارتها مرة أو مرات أخرى.المدينة تزينها كثبان رملية متموِّجة ذهبية اللون، مائلة إلى الاحمرار، تقابلها في الجهة الأخرى، مجموعة من الجبال الصخرية على هيئة سلاسل متباعدة، فلم نفوّت فرصة الصعود إلى قمة الكثبان الرملية الشاهقة، التي يتجاوز ارتفاعها 200 متر، و كلنا انبهار بتلك المناظر.و علمنا من مرافقنا أنه على امتداد أشهر السنة، يقصد السياح المكان، لخوض مغامرة التزحلق أو ركوب الدراجات النارية رباعية الدفع، في مختلف الأوقات، سيما عند الغروب للتمتع بمشاهدة أجمل غروب للشمس يبعث الطمأنينة في النفس، و يريح القلب.
ومن أهم النقاط التي نصحنا دليلنا لزيارتها، '' بحيرة قروش''، الساحرة بطبيعتها الخلابة، إذ تحيط بها أشجار مختلفة، كأشجار النخيل و الدفة التي تشكل لوحة فنية آسرة ، ما جعلها تعد واحدة من أهم كنوز السياحة في تاغيت.و تعتبر البحيرة، كما علمنا عند زيارتنا لها، محجّا لطالبي الراحة أو السباحة أو الصيد ، وحتى للتجول على متن قوارب.ومن أجل توفير كل الخدمات المطلوبة يعرض بعض سكان المنطقة و كذا المنخرطين بجمعيات ثقافية سياحية، مثل بكر و رفاقه، خدماتهم على السياح، وسط الكثبان الرملية و النخيل التي تعتبر المكان المفضل بالنسبة للسياح الأجانب والمحليين، الذين يرغبون في الاحتفاظ بذكريات عن المنطقة و مناظرها الساحرة، حيث ينصبون العديد من الخيم فوق الكثبان الرملية، لتمكين السياح من التقاط صور وسط هذا الديكور المميز أو القيام بجولة على ظهر الجِمال، في الوقت الذي فضل بعض أبناء المنطقة، إقامة مطاعم تقليدية داخل الخيم، وسط ديكور تراثي تقليدي رائع، و ذلك عبر مختلف النقاط و المواقع السياحية والأثرية.
يذكر أن تاغيت تعودت أن تشهد إنزالا غير مسبوق للسياح المحليين و العرب و الأجانب من الصين و فرنسا وألمانيا و بلجيكا و بلدان أوروبية أخرى، لقضاء عطلة الشتاء التي تتزامن مع رأس السنة الميلادية ، وهي المناسبات التي تعرف الاحتفالات خلالها طابعا تقليديا محضا، ما جعلها محط إعجاب جميع الزوار الذين يتم تكريس الكنوز التراثية و العادات لاستقبالهم و تمكينهم من قضاء عطلة لا تنسى.و أكد مصدر محلي ، للنصر،  بأن الفترة الممتدة من 15 ديسمبر 2021 إلى 05 جانفي 2022 الماضيين، شهدت تدفق ما لا يقل عن 40 ألف سائح من مختلف البلدان.
قصر تاغيت العتيق.. شاهد على عراقة المنطقة
من بين أكثر المواقع التي جذبت انتباهنا، تلك القصور المبنية من مادة الطين، التي تعكس نمط حياة سكان المنطقة، الذين قاوموا و صمدوا في وجه ظروف الحياة القاسية و عوامل الطبيعة، خلال قرون مضت، فتمكنوا من التأسيس لحضارة لا تزال العديد من كتب المؤرخين، تحكي عنها الكثير.في الواقع لم يبق صامدا أمام العوامل الطبيعية و تأثير الزمن، سوى قصر واحة تاغيت العتيق الذي شيد في القرن 11، فهو لا يزال شاهدا على عراقة المنطقة و تاريخها الذي يعود إلى آلاف السنين، و يُرجع أبناء المنطقة، استنادا إلى مراجع تاريخية، أن هذا الصرح العتيق شيده، حسبهم، اثنان من الأولياء الصالحين، وهما "سيد سليمان" و"مرابط سيد أحمد" من قبيلة عمارة، و قد اشتهرا بكونهما منحدرين من وادي الساحل و الساقية الحمراء.وبني قصر تاغيت العتيق، على هضبة صخرية، مائلة شرقا صوب الكثبان الكبيرة،  و يمينا، باتجاه وادي زوزفانة و واحته في الأسفل.
النقوش على الصخر.. و تاريخ الإنسان البدائي بالجزائر

بعد استمتاعنا بجولة وسط المدينة و بين أحضان قصرها العتيق، و تسلقنا الكثبان الرملية، توجهنا صوب المكان المعروف باسم، "الزاوية التحتانية"، أين توجد مجموعة كبيرة من الآثار و النقوش و المنحوتات على الصخر، التي عبر من خلالها سكان المنطقة الأوائل عن بيئتهم و الحيوانات التي عاشت معهم بنقشها على الصخر، و يعود تاريخها من 7 آلاف إلى 10 آلاف سنة قبل الميلاد، حسب مختلف التقديرات، كما يعتبر الفن الصخري، أهم وأقدم دليل إنساني و ثقافي في المنطقة.
و تجسد هذه النقوش محطات في حياة الإنسان البدائي، و من ضمن هذه الرسومات، كما اكتشفنا، رسوم حيوانات، انقرض بعضها و البعض الآخر لا يزال موجودا، منها الغزلان و وحيد القرن والظباء والفيلة والنعام و الجمال و الزرافات.
و قد تعرضت المنحوتات سابقا، لحالة من التدهور و أعمال التخريب التي يقوم بها بعض الأفراد ، ما دفع الجهات المعنية في السنوات الأخيرة، إلى وضع مخطط لحمايتها و تثمينها، و جعلها في منأى من التدهور و التخريب، سيما وأن هذا الموقع الذي يمتد على مساحة 500 هكتار،  يكتسي أهمية كبيرة في الكشف عن جزء هام من تاريخ الجزائر وتاريخ الإنسانية بصفة عامة.
الحمامات الرملية.. مقصد مرضى العظام و الروماتيزم
عرض علينا الدليل الرسمي الذي رافقنا في زيارتنا إلى الزاوية التحتانية، إلى العودة إلى تاغيت عند حلول فصل الصيف، نحن و كل من يرغب في التداوي برمال هذه المنطقة الصحراوية، مؤكدا أنها تتمتع بخصائص علاجية كبيرة، لمكافحة العديد من الأمراض، مثل الروماتيزم، والتهاب المفاصل، وآلام أسفل الظهر، وآلام العضلات والحساسية وغيرها، مشيرا إلى أن هذه الحمامات الرملية، تستقطب الكثير من الزوار.
و شرح الدليل للنصر، بأنه يتم تشكيل أحواض الرمل العلاجية، عن طريق إحداث حفرة تتناسب و حجم و قوام المريض، في عمق لا يتجاوز عادة 20 سنتيمترا، و تبقى الحفرة مفتوحة لمدة نصف ساعة، حتى يتم امتصاص الحرارة، بعد ذلك يستلقي المريض داخل الحفرة على ظهره و يغطي جسمه بالكامل، باستثناء رأسه،  بالرمال الساخنة، لفترات تحدد، حسب حالة المريض الصحية، وسنه، وطبيعة مرضه، و قد تصل إلى من يستطيع التحمل إلى 35 دقيقة، فيما لا تتجاوز 15 دقيقة بالنسبة للمسنين و العجزة، و تمتص خلالها الرمال كميات كبيرة من الماء الزائد في الجسم. و ذكر المتحدث بأن البروتوكول العلاجي يتواصل إلى غاية بلوغ المريض مرحلة التعافي.
أغلب السياح يفضلون الإقامة بدور الضيافة
في طريق عودتنا إلى إقامة مجاورة، تابعة للديوان الوطني للسياحة، سألت أحد مرافقينا، وهو منتخب محلي، عن ظروف الإقامة و مدى استجابة المرافق المنتشرة في المنطقة، لحجم الطلب، خاصة و أنها تشهد تدفقا كبيرا للسياح، فرد بأن المنطقة تتوفر على ثلاثة فنادق، واحد تابع للقطاع الخاص في قرية الزاوية الفوقانية، التي تبعد بـ 3 كلم عن المدينة، وفندق آخر تابع للديوان الوطني للسياحة بالزاوية الفوقانية، إلى جانب فندق سياحي فخم،  تابع لسلسلة فندق الجزائر، و كذا مركّب سياحي تابع لمديرية الشباب والرياضة في الزاوية التحتانية.
و يوجد أيضا مركز إيواء و إقامات أخرى، تعرف باسم دور الضيافة، تابعة للخواص، توفر المبيت والأكلات التقليدية في مدينة تاغيت، و هي ذات قدرات استيعاب مختلفة.حسب ذات المصدر، فقد خففت هذه الصيغة الخاصة باستقبال السياح، التي جاءت ضمن المنشور الوزاري المشترك المؤرخ في 16 جويلية 2012 المتعلق بقوانين ''الإقامة لدى  الساكن''، كصيغة للإيواء السياحي، إلى حد ما، من الطلب في مجال إيواء و إطعام  السياح بالمنطقة، التي عرفت في الماضي نقصا في هياكل الاستقبال.و حسب مصادر متطابقة بعين المكان، فإن عديد السياح الوطنيين و الأجانب يلجأون بكثرة لهذه الصيغة، عندما يختارون التوجه إلى منطقة الساورة، لاسيما تاغيت، لأنها تسمح لهم بالاتصال و التواصل الاجتماعي و الثقافي مع سكان المنطقة، و التعرف أكثر من خلالهم ، على جوانب من حياتهم
 اليومية.        
                                                      ع.أ

الرجوع إلى الأعلى