* سلاسل إمداد من الناقلين وأجهزة متطوّرة لمراقبة الجودة

على طريق فرعي قرب المعلم التاريخي كاف البومة المخلد لضحايا مجازر 8 ماي 1945 بقالمة، كان حسان صويلح سائق شاحنة للنقل العمومي للبضائع ينتظر دوره لتفريغ شحنة من الطماطم الصناعية بمركب التحويل العملاق بن عمر، المتواجد ببلدية الفجوج الواقعة على بعد 5 كلم شمالي مدينة قالمة.

روبورتاج: فريد غربية

هو واحد من مئات الناقلين الخواص الذين تجندوا لإنجاح موسم جني الطماطم الصناعية عبر مختلف مناطق ولاية قالمة، لا شيء يحد من عزيمتهم، لا الحرارة التي لامست 43 درجة تحت الشمس في منتصف ذلك اليوم، ولا طوابير الانتظار الطويلة ليلا ونهارا، كل شيء يهون من أجل العمل الشريف، يقول حسان صويلح الذي قضى سنوات طويلة يعمل ناقلا لمحاصيل القمح والطماطم الصناعية إلى المخازن و وحدات التحويل، التي تفتح أبوابها كل صيف لاستقبال منتوج يدخل ضمن المحاصيل الغذائية الاستراتيجية بالجزائر، التي تخوض تحديات كبيرة لربح معركة الأمن الغذائي والتخلص من التبعية المجحفة لمصادر الإنتاج العالمية.
موسم الجني ينعش سوق العمل المحلية
منذ أيام قليلة بدأ موسم جني الطماطم الصناعية بقالمة، محركا سوق العمل المحلية التي عانت من ركود طويل بسبب تراجع النشاط الاقتصادي متأثرا بتدابير الإغلاق لمواجهة جائحة كورونا على مدى عامين كاملين، واجه خلالهما سائق الشاحنة الصفراء حسان وبقية الرفاق الذين اختاروا مهنة النقل، متاعب كبيرة للعثور على فرصة عمل، لكن الأمر لم يكن سهلا للكثيرين من أصحاب شاحنات النقل العمومي للبضائع، قبل أن ينفرج الوضع وتعود الآلة الزراعية إلى الاشتغال من جديد، بسهل سيبوس الخصيب موطن الطماطم الصناعية وسهل الجنوب الكبير موطن القمح البليوني الشهير.
النصر انتقلت إلى مركب التحويل بن عمر ببلدية الفجوج، ودخلت إلى قلب سلاسل إنتاج الطماطم ثلاثية التركيز، وتابعت عمل المهندسين والتقنيين الذين يؤدون مهامهم بثلاثة فرق تعمل على مدار الساعة، من أجل رقابة مشددة على الطماطم القادمة من الحقول الزراعية، وأيضا من أجل جودة الإنتاج الموجه للاستهلاك الوطني.
قبل الغوص في عمق المركب الضخم مررنا بطوابير الطماطم الصناعية لنحاور رجال سلاسل الإمداد التي تعد الحلقة الأقوى في العملية الزراعية برمتها، فبدون نقل يتعرض الإنتاج للكساد والتلف بالحقول، ولن تجد دواليب المصانع ما تتغذى عليه لتشتغل، ولن تجد الأسواق ما تقدمه للمستهلكين، كما يقول حسان صويلح و قندوز عبد الحفيظ وعثامنية يوسف الذين وجدناهم في طابور الانتظار الطويل، تغمرهم السعادة ويحدوهم الأمل في مستقبل زراعي واقتصادي واعد بولاية قالمة، التي تتوجه بثبات لتكون واحدة من أهم مصادر الغذاء بالجزائر.
عمل على مدار الساعة بين الحقل ومركب التحويل

تتكون سلاسل الإمداد العاملة بقطاع الطماطم الصناعية بقالمة، من مئات الشاحنات والجرارات الزراعية وعتاد الأشغال العمومية المخصص للشحن، وأعداد كبيرة من العمالة المحلية التي وجدت ضالتها في الحقول الحمراء لتخرج من مستنقع البطالة على مدار الصيف، منهم المرأة و رب العائلة والطالب الثانوي والجامعي الذي قرر خوض تجربة العمل الشاق ليكسر روتين العطلة الممل، ويحصل على أجر محترم.
هنا رأينا بأنه عندما ينتعش قطاع الزراعة ينتعش معه كل شيء، منه يسترزق العاطل عن العمل وسائق الشاحنة والجرار وآلة الشحن، وبائع الوقود والوجبات السريعة، وبائع قطع الغيار، ومصلح العجلات وكذلك قابض الضرائب وغيرهم من المنتفعين من قطاع الزراعة.
مطالب بتنظيم أكثر نجاعة للطوابير
يقول عثامنية يوسف صاحب شاحنة نقل عمومي بأنه دخل الطابور الطويل منذ ساعات قليلة وقد حصل على الرقم 14 وهو يقترب من بوابة المركب الذي يشتغل بأقصى طاقته هذه الأيام، مضيفا بأن الانتظار لن يتجاوز 24 ساعة في أغلب الأحيان، على خلاف السنوات الماضية عندما كان يتجاوز 48 ساعة، معتقدا بأن مرحلة الذروة لم تحن بعد، أو أن الإنتاج قليل هذا الموسم بسبب تراجع المساحات المغروسة نتيجة نقص مياه السقي، بعد انحسار احتياطي سد بوحمدان المغذي الرئيسي لحقول الطماطم الصناعية.
وأوضح يوسف متحدثا للنصر، بأن عملية تنظيم الطابور تعرف بعض المشاكل بين حين وآخر داعيا المكلفين بإعداد قوائم الانتظار إلى وضع حد لما وصفه بظاهرة “الحراقة” الذين يتحايلون على زملائهم الناقلين ويتجاوزون دورهم في الطابور.
رغم ذلك، بدا يوسف في غاية السعادة عندما وجد فرصة عمل بين حقول الطماطم الصناعية ومركب التحويل، مثل عبد الحفيظ الذي بدأ العمل هذا الصيف بنقل محاصيل القمح إلى المخازن الحكومية، وهو اليوم يشتغل بحقول الطماطم الصناعية، ويعتبر نفسه شريكا قويا في العملية الزراعية، فلولا شاحنته الصغيرة وشاحنات أخرى لما وصل القمح إلى المخازن والطماطم إلى وحدات التحويل.
تسهيلات لحركة نقل المحاصيل
وقد أشاد حسان صويلح الذي وجدناه بموقع بعيد عن المركب، بالتسهيلات التي يتلقاها ناقلو المحاصيل الزراعية بطرقات قالمة، مضيفا بأن رجال الشرطة والدرك الوطني يسهلون حركة شاحنات القمح والطماطم الصناعية وحتى كلأ المواشي كل صيف، وهو ما شجعهم على التوجه بقوة للعمل الموسمي بقطاع الزراعة للمساهمة في نقل الإنتاج وحمايته من التلف والضياع، مؤكدا بأن المردود ببعض حقول الطماطم الصناعية بقالمة كان جيدا رغم نقص مياه السقي، وموجات الحر والجفاف الذي يجتاح المنطقة منذ عدة أشهر.

ويمتاز ناقلو المحاصيل الزراعية بقالمة بالقدرة على تحمل الظروف المناخية الصعبة وبعوض الأودية والمستنقعات المائية، وعندهم تجد الصبر الجميل بطوابير الانتظار، أين يقضون الليالي البيضاء على الطرقات المؤدية إلى مصانع التحويل الثلاثة بولاية قالمة وفي مقدمتها مركب الفجوج العملاق.
مراقبة صارمة للجودة
ودّعنا الناقلين بطابور الانتظار الطويل، وتوجهنا إلى مركب بن عمر ببلدية الفجوج، لمتابعة عملية استقبال المنتوج ومراحل التحويل التي تعتمد على الأنظمة الآلية المختصرة للوقت واليد العاملة. رافقنا عيساوي عبد القادر أحد إطارات المركب، وكان دليلنا العارف بسلاسل التحويل ومراحل العملية برمتها.
قادنا عيساوي في بداية مهمتنا داخل المركب، إلى مصلحة مراقبة العينات حيث تعمل المهندسة خديجة بورجيبة و زميلة لها ضمن فريق متكامل يضمن دواما مدته 248 ساعة حتى يبقى المركب يشتغل على مدار الساعة.
في هذه المصلحة الحيوية تخضع الطماطم الصناعية لفحص دقيق لتحديد نسبة غير الناضجة، والشوائب، والطماطم التالفة، وعبر نظام معلوماتي متطور يحصل صاحب الشحنة على بطاقة تقنية تظهر مختلف النسب،  يتم إعلامه بالقرار النهائي المتضمن قبول الوزن كله، أو الخصم منه بسبب الشوائب والطماطم غير الناضجة، وفي هذه الحالة يترك الخيار أمام المنتج أو الناقل، إما القبول بنتيجة المراقبة ودخول جسر الوزن وأحواض التفريغ، أو المغادرة إلى مركب تحويل آخر.
وحسب المهندسة بورجيبة، فإنه من حق الناقل أو المنتِج تقديم احتجاج على نتيجة المراقبة، وعندها يتم تزويده بكل المعطيات، بداية من أخذ العينة بالذراع الآلي، وفرز مكوناتها وإدخال المعلومات المتضمنة الصور و وزن مكونات العينة إلى الحاسب الآلي، الذي يعد البطاقة التقنية التي تلخص نتيجة الفحص بدقة.
نظام ضوئي لفرز الطماطم
بعد أن تتخطى شحنة الطماطم الصناعية عقبة المراقبة المشددة، تتوجه الشاحنة الى جسر الوزن الآلي ثم إلى أحواض التفريغ التي تعمل بالطاقة المائية وفق دارة مغلقة لاقتصاد المياه التي أصبحت نادرة بمنطقة قالمة، وفي غضون دقائق قليلة تتدفق كميات ضخمة من الطماطم إلى أحواض الغسل ثم إلى سلاسل الفرز النهائي أين يتم فصل الشوائب من حجارة وأتربة وحشائش، ثم يأتي دور الماسح الضوئي الذي يتولى مهمة الفصل بين الطماطم الناضجة وغير الناضجة للمحافظة على جودة المعجون، ودرجة الحموضة المطلوبة.  

و في نهاية العملية تنساب حبات الطماطم الحمراء النقية من كل الشوائب، عبر سلسلة التحويل الكيماوي الطويلة إلى أن تصير معجونا ثلاثي التركيز، يوضع في براميل معدنية مغلفة بطبقة عازلة من الألمنيوم، لتنقل إلى مخازن خاصة في انتظار تحويلها مرة أخرى إلى معجون ثنائي التركيز، يعلب ثم يوجه إلى السوق الوطنية التي تستهلك كميات ضخمة من هذا المنتوج الغذائي الاستراتيجي.
3 آلاف طن من المعجون الأحمر كل 24 ساعة
وتبلغ قدرة مركب الفجوج نحو 3 آلاف طن من معجون الطماطم ثلاثية التركيز كل 24 ساعة، ويوظف المئات من العمال الدائمين، والموسميين كل صيف، حيث يعد بمثابة محرك قوي لشعبة الطماطم الصناعية التي تعرف تطورا متزايدا بولاية قالمة، لكنها تواجه اليوم تحديات كبيرة بينها نقص مياه السقي، حيث تبقى الآمال معلقة على الشتاء القادم حتى يتعافى السد الكبير ويبعث الحياة من جديد بالسهل الخصيب وحقول الطماطم الحمراء، التي انعشت الاقتصاد الزراعي بالولاية، تدعمها حقول القمح الذهبي التي تئن هي الأخرى تحت وطأة الجفاف الطويل.
تقنيات متطوّرة ترفع مردود الهكتـار
واكتسب منتجو الطماطم الصناعية بقالمة خبرة كبيرة في التعامل مع تقنيات الغرس و السقي والمعالجة ضد الأمراض النباتية، وحققوا نتائج جيدة في السنوات الأخيرة حيث انتقل مردود الهكتار الواحد من 800 قنطار في الهكتار الواحد إلى نحو 1700 قنطار بإحدى حقول محيط السقي قرب مدينة بوشقوف الواقعة شرقي قالمة.

وقال أحد العاملين بمركب التحويل بن عمر للنصر، بأنه كلما تجاوز مردود الهكتار الواحد عتبة الألف قنطار فإن الوضع المادي للمزارعين سيتوجه نحو الأفضل، مما يشجعهم على مواصلة النشاط وتحسين وضعهم الاجتماعي.
وتعتمد زراعة الطماطم الصناعية بقالمة أكثر على أنظمة السقي بالتقطير المقتصدة للمياه، وشتلات صحية خالية من الأمراض، بعضها تنتجه مشاتل مركب بن عمر، والأخرى ينتجها مهندسون زراعيون خواص، بالتعاون مع المزارعين الذين يعملون بأراضي المستثمرات الفلاحية الفردية والجماعية عن طريق عقود الامتياز، والبعض منهم عن طريق محاضر معاينة تعدها قسمات الفلاحة والمندوبون الفلاحيون بالبلديات، لتسهيل مهمة العاملين بقطاع الطماطم الصناعية الذين لا يحوزون عقود امتياز أو ممتلكات خاصة.
وحسب رئيس الغرفة الفلاحية عمار حديدي، فإن المساحة المغروسة بالطماطم الصناعية بولاية قالمة هذا الموسم بلغت نحو 3300 هكتار، فيما بلغ متوسط المردود بالهكتار الواحد 800 قنطار، مضيفا بأن بعض الحقول قد حققت مردودا مرتفعا وصل إلى 1700 قنطار في الهكتار، لكن بعضها ربما لن بتجاوز 600 قنطار في الهكتار.  
نـدرة مياه السقـي.. التحــدي الأكبــر

ويعد سد بوحمدان الكبير المصدر الرئيسي لسقي المحاصيل الزراعية بقالمة، خاصة الطماطم الصناعية التي تحتاج كميات كبيرة من المياه، منذ مراحل النمو في شهر أفريل، حتى بلوغ الجني بداية من منتصف شهر جويلية.
منذ 5 سنوات تراجع احتياطي السد إلى مستويات مثيرة للقلق، كما يحدث هذا الصيف عندما فقد هذا المسطح المائي العملاق 90 بالمائة تقريبا من حجمه القياسي المقدر بنحو 185 مليون متر مكعب من المياه الموجهة للشرب والسقي.
وكاد منتجو الطماطم الصناعية بقالمة أن يمروا بموسم أبيض هذه العام، غير أن قرارا شجاعا بتخصيص نحو 6 ملايين متر مكعب من مياه السد المتداعي لسقي الحقول العطشى، قد أنقذ الوضع وحال دون تضرر المساحات المغروسة بعدة بلديات، وتمكن المزارعون من تسيير الأزمة إلى النهاية، وهم اليوم يجنون ثمار التحدي ويغرقون مصانع التحويل بأكثر من مليوني قنطار من الطماطم الصناعية، في انتظار ما تجود به السماء الشتاء القادم، وتعافي السد الكبير الذي يبقى في حاجة إلى الدعم بسدود أخرى على مجاري واديي الشارف وغانم، لربح معركة الأمن المائي بولاية قالمة التي يعتمد اقتصادها على الزراعة والصناعات الغذائية الإستراتيجية.
ف.غ

الرجوع إلى الأعلى