بدأت مدينة قالمة تسترجع حيويتها و بهجتها التي اعتادت عليها كل صيف، متجاوزة آثار الإغلاق التي خيمت عليها على مدى عامين كاملين، و أجبرت السكان على ملازمة مساكنهم و التخلي عن تلك الصيفيات الجميلة، بالحدائق و المتنزهات و الشوارع التجارية و المقاهي و المطاعم، هذا الصيف تغير كل شيء و خرج الناس من بيوتهم لقضاء ليالي سمر تنسيهم ذلك الحصار الطويل، و تخفف عنهم عناء يوم كامل من الحرارة و متاعب الحياة اليومية بمواقع العمل و المنازل التي ضاقت بأهلها و لم تعد تتحمل المزيد.

  روبورتاج: فريد.غ

و قد رافقنا الشرطة ليلة الخميس إلى الجمعة في مهمة لتأمين مواقع السمر و التجمعات العائلية، و  الملاعب الجوارية الجميلة، التي اكتست حلة خضراء، و تحولت إلى مواقع جذب للرياضيين و هواة السمر تحت ضوء القمر و مصابيح «اللاد» التي تشتغل بقوة محوّلة ليل المدينة إلى نهار بعد سنوات طويلة من الظلام بالطرقات الرئيسية و الضواحي الشعبية ذات الكثافة السكانية العالية.  
حي قهدور الطاهر قبلة لعشاق السمر بمدينة قالمة
كانت الوجهة هذه الليلة حي قهدور الطاهر المعروف باسم «الباتني» أحد أجمل و أكبر أحياء مدينة قالمة، و قال الضباط المشرفون على المهمة الليلية بأن الهدف هذه المرة هو تأمين ليالي السمر و بسط السكينة بين المواطنين، و توطيد العلاقة بينهم و بين الشرطة التي بدأت تتوجه بقوة إلى أنسنة عملها الميداني و المساهمة في جهود الحد من الإجرام و السلوكات المؤثرة على سلامة المواطنين، و خاصة خلال موسم الصيف حيث تزداد كثافة الحركة الليلية بالمدينة و تنتعش التجارة و التسوق، و تتجمع أعداد كبيرة من العائلات بالساحات العامة لقضاء ساعات طويلة من السمر قبل العودة إلى البيوت مع اقتراب الفجر.
اختار لنا قادة المهمة سيارة رباعية الدفع ذات محرك قوي تستعملها شرطة البحث و التحري الشهيرة باسم «البياري» قاهرة الإجرام و عصابات المخدرات و المهلوسات، التي تثير قلق المجتمع و رجال الشرطة، الذين يواصلون التصدي للمروجين و المستهلكين الذين يقولون هل من مزيد، غير مدركين للخطر المحدق بهم من الناحية القانونية و الصحية، كل يوم يسقط الكثير منهم بين أيدي الشرطة و يكون مصيرهم السجن و الغرامات المالية الثقيلة، صانعين مآسي لعائلاتهم و للمجتمع المتطلع إلى الأمان و البهجة و ساعات سمر، في ليلة صيف اشتدت حرارتها فأخرجت البيوت أهلها و ألقت بهم حيث نسمات الليل المنعشة و السماء ذات النجوم و القمر المنير.
شرطة الأمان بين الساهرين بحي قهدور الجميل
كان الموكب مهيبا مخيفا و هو يغادر مبنى الشرطة، أضواء تنبعث في كل اتجاه، و رجال أشداء تعودوا على مهام الليل و مطاردة الأشرار الذين لم يتوقفوا عن إلحاق الأذى بالآخرين و بأنفسم، من يرى هذا الرتل المهيب يعتقد بأن الأمر ربما يتعلق بمداهمة خطيرة لبؤر الإجرام بالأزقة الضيقة المظلمة بالضواحي الغربية للمدينة، حيث ينشط باعة السموم و مستهلكوها، لكن المهمة هذه المرة كانت مهمة أمان و سلام و يد ناعمة تمتد لتداعب رؤوس الأطفال الصغار و تصافح الشباب و تحثهم على التحلي بالمسؤولية و المساهمة في جهود التصدي للشر المتربص بأمن و سلامة الجميع.
و قال لنا شرطي كان يجلس في المقعد الأمامي إلى جانب السائق السيارة القوية، بأن عمل شرطة مكافحة المخدرات و العقاقير الطبية المهلوسة لم يعد يقتصر على الردع فقط بل هناك جانب التوعية و التحسيس و توطيد العلاقة مع الشباب حتى يدركوا بأن الهدف في النهاية هو الأمان و السكينة و حماية الصحة و الممتلكات، و إنقاذ ضحايا الانحراف من المستنقع الذي وقعوا فيه.
كنا نعتقد كما جرت العادة بأن ينفض الساهرون و يتوارى الكثير منهم تحت جنح الظلام عندما تصل فرق «البياري» إلى ساحة قهدور الجميلة، لكن بقي الساهرون في مواقعهم هادئين مطمئنين عندما انتشر رجال الشرطة في كل مكان، بحثا عن هدف مشبوه قد يعكر صفو و سكينة المكان الذي جمع المئات من عشاق السمر.
لا أحد فر من مكانه حتى هؤلاء الشباب الذين خضعوا للتفتيش بدوا مسالمين متعاونين مع المحققين، ربما يكونون على درجة عالية من الثقافة و الأخلاق، و ربما هم من الذين جربوا المآسي ثم تابوا بعد ذلك و سلكوا سواء السبيل.


تجارة و رياضة حتى مطلع الفجر
امتلأت ملاعب حي قهدور الطاهر في تلك الليلة كما في التي قبلها، بهواة الرياضة من لاعبي كرة القدم و الكرة الحديدية، و ركوب الدراجات الهوائية الصغيرة و السيارات الكهربائية، التي تستهوي الأطفال الصغار، لا تكاد تجد مكانا في تلك الملاعب الجوارية الصغيرة المغطاة منذ نحو عام بالبساط الاصطناعي الأخضر، في إطار مشروع كبير لتطوير المنشآت الرياضية بالمدينة، و كان الحي الجميل محظوظا عندما استفاد من عدة ملاعب أصبحت اليوم قبلة لعشاق الحديدية الثقيلة و المستديرة الساحرة، و ليالي السمر.  الى جانب الفرق الرياضية الهاوية، و أغلبهم من شباب و كهول حي قهدور الطاهر و الاحياء المجاورة له، تجلب العائلات معها كرات قدم لأبنائها الذين انتشروا على طول و عرض الملاعب المحاطة بسياج شديد العلو، و عندما تبلغ الحركة أشدها ينخرط الجميع في مداعبة لكرة، رجال و شباب و فتيات و اطفال صغار، كل يرواغ و يقذف و يصوب في كل اتجاه و كأنها خلية نحل لا تتوقف عن النشاط، كان رجال الشرطة يراقبون هذا المهرجان الكروي المفتوح على الهواء الطلق، و بدت السعادة على وجوه الجميع، حتى الأطفال استهوتهم فرق «البياري» و أثارت فضولهم فخرجوا من الملعب لالتقاط صور معهم و التجمع حولهم دون خوف أو خجل حتى كادت هيبة «البياري» أن تنكسر بعفوية البراءة الخالية من كل سوء.
تجارة بلا قيود بمواقع السمر
و على امتداد ساحة قهدور الواسعة انتشر باعة الوجبات السريعة و القهوة و الشاي و المياه المعدنية، و العصائر و الحلوى و لعب الأطفال، و عند هؤلاء الباعة ليالي الصيف و السمر تجارة أيضا، يقول براهيم صانع البوراك الذي اتخذ موقعا له وسط الحشد الغفير من الساهرين، مؤكدا للنصر بأنه جاء إلى هذا المكان منذ ايام قليلة بعد أن صنع طاولة صغيرة و أعد العدة لصناعة البوراك، الطبق الأكثر استهلاكا عند الساهرين.  في ليالي السمر الصيفية يمكنك ممارسة نشاط تجاري دون أن تطالك عيون الرقابة التي تنشط في النهار ثم تستكين عندما تنتهي ساعات الدوام و تختفي شمس المغيب، هذه تجارة موسمية كتلك التي تمارس على شاطئ البحر، و في المنتجعات السياحية الحموية كل ربيع، ما يباع هنا ربما لا يحتاج إلى رقابة على النوعية و السعر و الجودة، فقط بوراك ساخن و فنجان قهوة و لعبة اطفال و ماء معدني، لم تسأل الشرطة أي من هؤلاء الباعة، كان همها الوحيد هؤلاء حملة الأسلحة البيضاء
و المروجون للسموم القاتلة.
مرت الساعات بسرعة و تفرق رجال الشرطة و الصحافيون في كل مكان، و انصهروا وسط هذا الحشد الليلي الغفير، كانت أعيننا على السيارة الرباعية البيضاء التي بقيت هناك رابضة تنتظر الأوامر للتحرك، يجب أن نكون حذرين و على قدر كبير من الفطنة حتى لا نفقد الرتل المتحرك عندما يحين موعد الرحيل إلى جهة أخرى، قد تكون مسرحا للمطاردة و الملاحقة بين الشوارع و الأزقة المظلمة، بأحياء الضاحية الغربية و القطب الشمالي الذي عرف في السابق بانتشار نشاطات ذات طابع إجرامي، قبل أن تتراجع الظاهرة.
قادة المهمة يعلنون نهاية عملية الأمان
بدأ التعب ينال منا، و حمدنا الله عندما قرر قادة المهمة الليلية الاكتفاء بحي قهدور و العودة إلى المعاقل دون صيد، فالمكان مسالم مثل أهله و ربما تكون الرياضة المنتشرة بقوة هنا بهذه الضاحية العريقة سببا من أسباب تراجع مظاهر السوء و الانحراف، حيث يحرص السكان هنا على سمعة «الباتني» الذي يعد جسرا عمرانيا يربط بين قالمة القديمة و الإحياء الجديدة التي تتمدد دون توقف باتجاه ماونة، الجبل الشامخ المتعالي حيث المنتجعات الغابية و مخيمات الشباب، و أبراج الاتصالات العملاقة التي تحرس المدينة، و تبعث فيها روح التواصل و موجات الميديا التقليدية و المتطورة، التي قلبت حياة الناس رأسا على عقب في كل مكان، و هنا بساحة قهدور، حيث الهواتف الذكية تنقل ليالي السمر مباشرة إلى كل بقاع العالم، حيث يتواجد المغتربون من أهل قالمة،  الذين يحنون إلى موطن الأجداد كل صيف.

الرجوع إلى الأعلى