شيع مساء أمس، المئات من المواطنين وأفراد الكشافة ونشطاء المجتمع المدني جثمان القائدة الكشفية دنيا بوحلاسة، التي استشهدت في حرائق الغابات التي حاصرت الحديقة المائية «برابطية» في القالة في ولاية الطارف الأسبوع الماضي، حيث أودعت مثواها الأخير في مقبرة حريشة بعين سمارة في جنازة مهيبة حضرها القائد العام للكشافة الجزائرية ورئيس المرصد الوطني للمجتمع المدني، عبد الرحمن حمزاوي، وممثلي المحافظة الكشفية لولاية قسنطينة والعشرات من أفراد الكشافة، إلى جانب الأمين العام لولاية قسنطينة، السعيد أخروف، ممثلا عن الوالي، ورئيس المجلس الشعبي الولائي، عصام بحري، ومختلف ممثلي السلطات العسكرية والمدنية بالولاية، فضلا عن نشطاء جمعويين ومواطنين. وقد التقت النصر بزملاء المرحومة الناجين، الذين رووا لنا تفاصيل الرحلة الترفيهية التي تحولت بشكل مباغت إلى كابوس تراجيدي وسط نيران الغابة الهائلة.

*  روبورتاج :  سامي حباطي 

وأسلمت الشهيدة دنيا بوحلاسة، البالغة من العمر 18 سنة، روحها إلى بارئها ليلة أمس الأول، متأثرة بالمضاعفات التنفسية التي عانت منها جراء الحروق واستنشاق كميات كبيرة من أدخنة النيران الكثيفة، حيث اتجهنا خلال الصباح إلى حديقة مصلحة الحروق بالمستشفى الجامعي ابن باديس، فوجدنا مجموعة من القادة الكشفيين في انتظار استكمال الإجراءات الإدارية الخاصة باستخراج جثمان الفقيدة من مصلحة حفظ الجثث لنقلها إلى المقبرة للدفن. وقد خيم الحزن على وجوه قادة الفوج الذين كانوا في انتظار الجثة، بينما واصلوا تفقد حالة قائد الفوج رياض بوعرعور، والقائدة الكشفية الثانية الماكثة بنفس المصلحة، في حين شيعوا المرحومة بدموع الحسرة والأسى في المقبرة.
الشّهيدة حلّت كضيفة شرف في مخيم كشفي حمل اسم والدها
وروى قائد المخيم الكشفي الذي كان ينزل فيه فوج الإرشاد في مدينة عنابة، القائد قالي كريم، للنصر، أن الفوج انقطع عن التخييم لمدة 3 سنوات بسبب جائحة كورونا، فارتأى أن يحمل المخيم هذه المرة صفة “الأخوّة” ويحمل اسم القائد المرحوم عمّار بوحلاسة، والد الشهيدة دنيا، الذي توفي قبل عشرة أشهر. وأضاف محدثنا أن المرحوم كان من بين قدماء الكشافة الإسلامية الجزائرية بقسنطينة وقدماء الفوج، في حين نبه أن الشهيدة كانت ضيفة شرف على المخيم وانطلقت مع فوج الإرشاد منذ نعومة أظفارها مع والدها. وكانت الشهيدة دنيا مسؤولة على 8 طفلات ما بين 6 و11 سنة، “وقد عادوا إلى منازلهن دون أن يتعرضن إلى خدش واحد”، مثلما قال القائد.
ويشهد محدثنا أن دنيا، التي كان زملاؤها يحبذون مناداتها بـ”دودو”، قد كانت من أنشط أعضاء الفوج، فضلا عن اتصافها بالأخلاق العالية، حيث ختم حديثه بالقول “إنها كانت وجه جنة”. وقد سرد علينا القائد تفاصيل نجاته مع مجموعة من الكشفيين وعائلاتهم من هول النيران الضخمة، حيث شرح لنا أن الرحلة انطلقت من المخيم الكشفي في المكان المسمى “سانكلو” بعنابة حوالي السابعة والنصف صباحا باتجاه الحديقة المائية، مشيرا إلى أن عدد الإجمالي من الأطفال مقدر بثمانية وستين طفلا، من بينهم 52 طفلا كشافا وأطفال من عائلات الكشافين، فضلا عن 14 قائد وعائلاتهم، ليمثل الرقم الإجمالي من رواد الرحلة 85 فردا.
ونبه نفس المصدر أنهم لاحظوا لدى وصولهم دخانا بعيدا لما يبدو أنها آثار إخماد حريق، لكن النيران عادت إلى الاشتعال بعد فترة الغداء، رغم أنها ظلت بعيدة مثلما يروي. وعند حوالي الساعة الثانية والنصف بعد الزوال بدأ أعضاء الفوج يلاحظون قطع رماد كبيرة تتساقط عليهم من السماء، فهموا باستدعاء الأطفال وتنظيمهم للمغادرة، لتباغتهم النيران، حيث عبر محدثنا بالقول “ما إن هممنا بتنظيم الأطفال للمغادرة حتى وجدنا النيران بجانبنا بعدما كانت على بعد أربعة أو خمسة كيلومترات”. وقد وصف محدثنا هول المشهد بالقول “لم نكد نصل إلى البوابة الرئيسية للحديقة المائية إلاو السماء قد استحالت سوداء والغابة أصبحت حمراء على اليمين وعلى الشِّمال بالنيران، ولا نعلم كيف ألهِمنا حسن التصرف وتمكنّا من نقل الأطفال في الشاحنات والمركبات”.
وذكر محدثنا أن القائد المتربص بالفوج يونس جغرود قد حمل الفقيدة ووضعها في شاحنة بعد أن حملوا الأطفال على متنها، لكنها وقعت منها دون أن ينتبه لها السائق الذي غادر المكان، مؤكدا أنها لم تكن مصابة في تلك اللحظة. ونبه محدثنا أنها حاولت أن تنجو بنفسها بعدما أجلت الأطفال ووضعتهم على متن الشاحنة، لكنها لم تتمكن من ذلك، مشيرا إلى أن ثوب السباحة المصنوع من البوليستر هو ما جعل حروقها تكون أكثر ضررا، خصوصا مع إصابتها بالجمرات التي حملتها الرياح من الغابة المحترقة.
وذكر محدثنا أنه أصيب هو الآخر بحروق سطحية، فضلا عن والدته وزوجته، خصوصا والدته، بينما شرح لنا أن بعض الضحايا احترقوا بسبب الأرضية الإسفلتية التي ارتفعت درجة حرارتها بشكل رهيب، لأنهم كانوا فارين بأقدام حافية، في حين أصيب آخرون بسبب الدوس على جمرات وقطع محترقة، فضلا عن أشخاص احترقوا بالصهد وآخرون أصيبوا خلال الفرار بعدما ضاعوا واتخذوا طرقا خاطئة جعلتهم يتجهون صوب النيران بسبب الظلام والأدخنة الكثيفة التي حجبت الرؤية.
قائد من الفوج: دنيا أنقذت ابني والعشرات من الأطفال الآخرين
أما القائد محمد فرطاس من فوج الإرشاد، الذي تحدث إلينا وذراعه مثبتة بجبيرة من الجبس، فأوضح أنه عمل على إنقاذ والدة القائد كريم، وقائد الفوج رياض بوعرعور، والقائدة فاطمة من نفس الفوج، حيث أشار إلى أنه حاول الخروج من الحديقة، وعندما لاحظ استحالة ذلك، عاد إلى الحديقة، ليقفز إلى الخزنة الخلفية لسيارة من نوع “بيجو 308”، مشيرا إلى أن ألسنة اللهب الضخمة كانت تتصاعد على جانبي السيارة التي كان يقودها شخص كبير في السن، وجد صعوبة في الرؤية، فخلفه محدثنا على المقود.
وقد عاد محدثنا بالسيارة إلى الغابة فوجد قائد الفوج رياض بوعرعور ملقى على الأرض ومصابا فحمل الجريح، وأوضح “أنه لاحظ أن جلد قدميه قد ذاب من شدة الحرارة”. ودخل الفارون من النيران إلى منزل أحد سكان القرية، ليتجه محدثنا إلى الطريق بحثا عن سيارة إسعاف، في حين عاد محدثنا إلى الغابة ليجد والدة زميله قائد المخيم وقائدة من الفوج فحملهما.
وقال نفس المصدر إن القائدة دنيا قد كانت مشرفة على طليعة من الأطفال الكشافين، حيث كانت تعمل على إنقاذ الأطفال، مشيرا إلى أن قادة الطلائع الكشفية لم يستطيعوا التمييز بين الأطفال الذين يشرفون عليهم وبين الأطفال الآخرين خلال الحريق، حيث أكد أنها أنقذت عددا كبيرا منهم، من بينهم ابنه هو. وأشار محدثنا إلى أنها تنقلت مشيا على مسافة طويلة، في حين أكد هو الآخر أن لباس البحر هو ما جعل وضعها يتفاقم. ونبه محدثنا أنه التقى بالشهيدة في المستشفى ولم يكن وجهها متضررا، بينما احترقت الأجزاء الأخرى من جسدها بشكل أكبر.  
“اختبأت مع قائد آخر في مرشّ الحديقة وفتحنا المياه علينا”
من جهته، يتحدث القائد إلياس حباطي عن تفاصيل نجاته من النيران، حيث أوضح أنه كان آخر من غادر الحديقة المائية رفقة القائد مهدي بوطبجة، حيث توجه إلياس إلى المسبح والألعاب المائية لتجميع الأطفال، ثم تأكد من عدم بقاء أي من أطفال في الحديقة، مشيرا إلى أنه واصل مع القائد مهدي مهمة البحث عن أي أطفال ما زالوا عالقين في الحديقة المائية، ليفاجآ بعد ذلك بالنيران وقد اشتدت مع الرياح التي كانت تهب بقوة كبيرة، فاتجها صوب غرف تبديل الملابس الخاصة بالأطفال، ثم غرف تبديل الملابس الخاصة بالنساء بحثا عن أطفال، في حين شاهد محدثنا مجموعة منشطين تابعين للحديقة مختبئين في كابينة صغيرة بالقرب من البوابة.
ويضيف إلياس أنه كان حافيا ولا يرتدي إلا سروال سباحة قصير، لكن ألسنة اللهب الضخمة كانت قد حاصرت الحديقة في تلك اللحظات ولم تعد المغادرة متاحة، فضلا عن أن الأدخنة غمرتهما، فاتجها صوب مرش الرجال بحثا عن أطفال متخلفين، لكنهما لم يجدا أي منهم، ففتحا مرشات المياه وظلا تحتهما. ونبه إلياس أن النيران كانت تضرب باب المرش بكرات نارية تدفعها الرياح مع أصوات زفير فتفتحه، فطفقا يتداولان على صد الباب هو وزميله، قبل أن تغمر الأدخنة المرش فاضطرا إلى المغادرة، فضلا عن أن المياه توقفت مع انقطاع التيار الكهربائي.
وأشار محدثنا إلى أنهما غادرا ثم عادا إلى الحديقة للتفقد، ثم تمكنا بعد ذلك من المغادرة، مؤكدا أن العمل تحول إلى البحث عن جميع أطفال الفوج والأفراد الآخرين، بعدما وصلوا إلى نقطة الدوران الواقعة عند مدخل الغابة على بعد بضع كيلومترات من الحديقة المائية، في حين أشار إلى أن البحث عن ثلاثة أطفال قد استمر إلى غاية العاشرة ليلا، ليعثروا عليهم في مقر الدرك الوطني بأم الطبول.
البروفيسور جنان: المرحومة استنشقت كميات كبيرة من الأدخنة الكثيفة
وذكر البروفيسور رشيد جنان، رئيس مصلحة الحروق بالمستشفى الجامعي ابن باديس أن المصلحة استقبلت ثلاثة مصابين من الفوج بعد أن حولوا من المستشفى الجامعي لولاية عنابة، في حين أشار إلى المعاينة الأولى لدنيا بوحلاسة بينت أنها استنشقت كمية كبيرة من الأدخنة والغازات الكثيفة المترتبة عن الحرائق، فضلا عن أنها كانت في حالة حرجة منذ وصولها. وأضاف البروفيسور أن حروقها عميقة من الدرجة الثالثة، فضلا عن أن مساحتها كانت كبيرة وتغطي حوالي 33 بالمئة من جسدها، في حين شرح أن حالة جهازها التنفسي تداعت بسرعة كبيرة، ما دفع إلى اللجوء للتنفس الاصطناعي، لكنها توفيت في النهاية بسبب توقف الأوكسجين عن المرور إلى الدم، وهذا يعتبر مستوى خطيرا في حالات الإصابة بالحروق. وأكد نفس المصدر أن قائد الفوج رياض بوعرعور، الذي ما يزال يمكث بالمستشفى، مصاب هو الآخر بحروق خطيرة من ناحية المساحة والعمق الذي يتراوح بين درجة ثانية وثالثة، لكن البروفيسور أشار إلى أن حالته مستقرة في وقت حديثه معنا، فضلا عن أنه لا يعاني من صعوبات تنفسية.  وأفاد خال المرحومة دنيا بوحلاسة، أن الفقيدة طالبة جامعية كانت تستعد لمباشرة سنتها الثانية، حيث فقدت والدها قبل حوالي عشرة أشهر، في حين أوضح أن المرحومة لها شقيقة وحيدة تخرجت هذه السنة من كلية الصيدلة، فضلا عن والدتها. وأضاف محدثنا أن دنيا كانت تتسم بأخلاق عالية، في حين بدت على محدثنا ملامح الحزن والحسرة وهو يتحدث عن الفقيدة. والتقينا بمحيط مسكن الفقيدة، القائدة الكشفية عفيفة محيي الدين من فوج الإرشاد، حيث كانت بالكاد تقوى على الوقوف والتحدث إلينا بسبب تأثرها البالغ بفقدان زميلتها، لكنها قالت إنها كانت من أوائل الذين قاموا بإجلاء الأطفال، وقد حملت طفلين وسلمتهم لشخص، قبل أن تسقط هي، حيث علقت بالقول “لقد كانت شهيدة وبطلة”.           س.ح

الرجوع إلى الأعلى