اجتاح فيضان جديد قرية وادي المالح الواقعة ببلدية حمام النبائل شرقي قالمة، مساء الثلاثاء مخلفا خسائر مادية معتبرة بجسور و طرقات المنطقة و مرافق الخدمات و المباني السكنية التي فر منها أصحابها و احتموا بجبل لعله ينجيهم من الطوفان الكبير، الذي غير مجرى الأنهار و اكتسح الحقول الزراعية و عطل حركة السير عدة ساعات قبل أن تتراجع العاصفة و ينخفض منسوب المجاري و تبدأ فرق الطوارئ عملها تحت إشراف والي قالمة حورية عقون التي شكلت خلية أزمة و استدعت كل القطاعات الحيوية إلى القرية المتضررة التي لم تكد تتعافى من فيضان الأربعاء الماضي حتى داهمتها السيول الكاسحة التي انحدرت بقوة من مرتفعات البرنوس  وعين غرور و بوحشانة و عجز وادي المالح عن استيعابها فخرجت عن المجرى و غمرت الحقول الزراعية و الدور السكنية و الجسور، محولة حوض حلية و المالح إلى بحيرة كبيرة أخفت مظاهر الحياة و معالم القرية التي يقول سكانها بأنهم ظلموا أنفسهم عندما استوطنوا المكان و اختاروا التعايش مع نهر ينام طويلا ثم يستفيق باحثا  عن منفذ وسط عمران لم يتوقف عن النمو و التوسع، معتديا على مجرى طبيعي أصابه التشوه بركام و رواسب السنوات الطويلة دون أن يطاله مشروع للجهر و تصحيح المجرى.

وادي المالح..ملتقى الأودية و موطن الرمان الشهير
النصر زارت وادي المالح أمس الأربعاء و استمعت إلى روايات السكان الناجين من غدر السيول الجارفة، و تابعت عمليات الإغاثة و إزالة بقايا الفيضان و امتصاص المياه من داخل المباني السكنية و مرافق الخدمات، و ترميم الطرقات و الجسور المتضررة من أجل عودة الحياة إلى طبيعتها في انتظار ما يمكن فعله تجاه سكان القرية الذين ألقوا باللائمة على جدهم الأول الذي اختار العيش هنا حيث تلتقي كبرى الأودية التي ظلت تنذر بني البشر سنوات طويلة لكنهم أصروا على البقاء و التكاثر و الانتشار بموطن جدهم الذي علمهم فنون الزراعة بواحدة من أشهر أقاليم الرمان بولاية قالمة، رمان حلية الذي بلغت شهرته ربوع الوطن و أغرى سكان المالح بالبقاء هنا حتى لو داهمهم النهر الغاضب و ألحق بهم الأذى.
انسداد جسر وادي المالح و تشوه مساره من أسباب الفيضان الكاسح
عند مفترق الطريق الوطني 20 و الطريق الولائي 19 وضع الدرك الوطني حاجز مراقبة لمنع حركة السير باتجاه قرية وادي المالح، و بعد أن اطلعوا على هويتنا و عرفوا مقصدنا سمحوا لنا بالمرور عبر الطريق الولائي 19 الذي يعد شريان الحياة الاقتصادية و الاجتماعية ببلديات حمام النبائل، الدهوارة و وادي الشحم، لكنه ظل هو الآخر عرضة للفيضانات بمنطقة وادي المالح التي تقع وسط منخفض بين جبلين تتجمع فيه مياه المجاري الطبيعية كلما ساء المناخ و انذر بمطر غزير، و رغم ذلك اختاره السكان القدامى كموطن لهم لكنهم ظلوا على حذر لا يقتربون من الكائن الطبيعي الجارف، على خلاف أحفادهم الذين أغرتهم سنوات الجفاف و لم يعودوا يخشون الفيضان فأقاموا مساكن لهم في قلب المجرى و على ضفافه القريبة، قبل أن يدركوا اليوم بأن مساكنهم لم تعد آمنة في ظل التغيرات المناخية المتطرفة بجفافها الحارق و عواصفها الفجائية المدمرة.
كانت الجرافات و آلات الحفر و الشحن تسابق الزمن لفتح منافذ جسر وادي المالح وسط القرية، و حولها السكان يرقبون الوضع و يلقون باللائمة على مسؤولي المنطقة الذين أغفلوا الصيانة الدورية للجسر المطوق بالرمال و الحجارة و ترسبات السنين الطويلة، و توقفوا عن جهر المجرى و تقويم مساره كما يقول سكان القرية متحدثين للنصر عن اليوم العصيب و الهروب الأكبر إلى جبل الكرابيش.
و بدا مجرى وادي المالح و مجرى وادي بومية، اللذان يلتقيان بالقرية الريفية الصغيرة، مشوهان بسبب الترسبات المستمرة، حتى أن أحد النهرين شق مسارا جديدا له وسط الحقول الزراعية.
و يرى سكان المالح بأن جهر الأودية و تصحيح مجاريها المشوهة صار ضرورة ملحة حتى لا تتكرر مآسي الفيضانات مرة أخرى، مؤكدين بأن خيار الترحيل ربما يكون الحل الجذري لهذه المعضلة في ظل التغيرات المناخية المتطرفة التي تعرفها الجزائر و منطقة حوض المتوسط في السنوات الأخيرة.
جسر وادي حلية.. دمار و عزلة عدة مشاتي
فوق معبر خرساني متوسط الأبعاد يقف رجل و ابنته الصغيرة يرقبان عمليات التدخل و الإغاثة و حركة الآليات الثقيلة و هي تشق طريقها وسط الرمال و الأوحال في سباق مع الزمن لجبر الأضرار التي خلفها الفيضان و والوصول إلى السكان المحاصرين هناك ينتظرون إصلاح المعبر المتداعي و تمكينهم من الوصول إلى الطريق الولائي 19 و قرية وادي المالح للدراسة والعلاج و التزود بالمؤن الغذائية، بينما كان رجل آخر يصارع المياه الموحلة يحاول العبور إلى مسكنه الذي عزله الفيضان.
في غضون 7 أيام يتعرض المعبر الخرساني لفيضانين كاسحين ألحقا به دمارا كبيرا و حولاه إلى هكيل معزول وسط المياه، متسببا في عزلة خانقة بالمشاتي الواقعة على الضفة الغربية.
و قد جندت السلطات الولائية كل الإمكانات المادية و البشرية لإصلاح المعبر و إعادة حركة السير باتجاه المشاتي المعزولة من جديد.
و جلبت شركات بناء الطرقات عتادا ضخما لردم الانهيارات على طرفي المعبر، مستعملة الصخور العملاقة و حصى المحاجر، و بدت العملية في غاية الصعوبة و التعقيد بسبب المياه المتدفقة بالمجرى و الأرض الموحلة، و بالرغم من ذلك يقول صاحب إحدى الشركات بأن العمل سيتواصل على مدار الساعة حتى إعادة حركة السير فوق الجسر كما حدث عند الفيضان الأول الأربعاء الماضي.  
المياه تجتاح المساكن و المسجد و مدرسة القرية
يقول سكان قرية وادي المالح بأنه لو حدث الفيضان ليلا لكانت الخسائر أثقل ربما كان بعضهم سيذهب ضحية السيول الجارفة، و أضافوا بأنهم كانوا يتوقعون قدوم الفيضان عقب عاصفة قوية اجتاحت المنطقة مساء الثلاثاء، و لذا كانوا على أتم الاستعداد لإخلاء المنازل ومرافق الخدمات كالمدرسة و المسجد و الفرع البلدي و المركز الصحي و الشارع الرئيسي الذي تحول إلى نهر جارف، و تسربت المياه إلى المنازل و حطمت جدار الفناء لمنزل بني حديثا على ما يبدو، و امتلأت الأقسام الدراسية بالمياه و تحول مقهى القرية إلى بركة من الأوحال و المياه الراكدة لكنه استأنف نشاطه صباح أمس الأربعاء كما مسجد القرية الذي رفع به أذان الظهر بينما كانت فرق التدخل تخرج كتل الطين من ساحته الرئيسية.
و قد أصدرت والي قالمة حورية عقون أوامر بإغلاق المدرسة و تحويل تلاميذ قرية وادي المالح إلى البرنوس لإجراء امتحانات نهاية السنة، و بينما كنا وسط القرية في حدود منتصف النهار عاد هؤلاء التلاميذ من البرنوس على متن حافلتين للنقل المدرسي و هم يهتفون و يحيون فرق التدخل المرابطة بالقرية و كأنهم يعبرون عن الشجاعة و الانتصار على الفيضان الذي كاد أن يغدر بهم.
إمدادات بالمياه و الكهرباء و الفرق الطبية
منذ الساعات الأولى للفيضان توجهت فرق الإغاثة إلى قرية وادي المالح لإمداد السكان بالمؤن و مياه الشرب و الكهرباء و تقديم الرعاية الصحية و النفسية في هبة تضامنية كبيرة قادتها والي الولاية بدعم من وزير الداخلية الذي يتابع الوضع عن كثب بعد أن زار المناطق المتضررة من فيضان الأربعاء الماضي رفقة وزير التضامن الوطني، و تفقد قرية وادي المالح التي لم تتعاف من الفيضان الأول حتى داهمها فيضان آخر أكثر قوة و تأثيرا.  
وسط القرية الريفية المتخفية بين الجبال نصبت الحماية المدنية مركز قيادة متنقل يشرف عليه خيرة الضباط المتمرسين في مواجهة الكوارث الطبيعية، عين الدرك الوطني على كل شيء، و في مركز صحي قريب تعمل الفرق الطبية كخلية نحل، و انتشر عمال الديوان الوطني للتطهير في كل مكان بحثا عن مواقع الانسداد بشبكات التطهير و الحماية من الفيضانات، تدعمهم فرق محافظة الغابات و البلديات، و بدت كوادر قطاع البناء في حركة دؤوبة لمعاينة الأضرار التي لحقت بالمباني، و وقف مهندسو المياه و الطرقات على الخطوط الأمامية تدعمهم الجرافات و الكاسحات و الشاحنات العملاقة، و دوى هدير المحركات في كل مكان و حجب هدير الأودية الثائرة التي كادت أن تلحق الأذى الأكبر بأهالي وادي المالح الذين أصبحوا يفكرون بجدية في حلول مستقبلية تنجيهم من غضب الوادي الكبير، مؤكدين بأنهم سيتوقفون عن البناء قرب المجرى و ربما سيتخلون عن المساكن الواقعة في دائرة الخطر و يبنون مساكن أخرى بمرتفع آمن يقيهم شر طوفان كاسح قد يأتي على حين غفلة و لا يترك لهم فرصة للنجاة و الهروب إلى جبل يعصمهم.             
فريد.غ  

الرجوع إلى الأعلى