لم يمضِ صيف هذا العام بسلام على الأطباء الجزائريين العاملين بالمستشفيات العمومية و بالأخص الجامعية، فقد وجدوا أنفسهم عرضة لـ "حملة تشهير غير مسبوقة" يقولون إن "فايسبوكيين" و بعض وسائل الإعلام شنّوها  على خلفية حادثة وفاة حامل و جنينها بولاية الجلفة، ما نتج عنه ارتفاع حالات الاعتداء اللفظي و الجسدي ضدهم، و هو وضع ترى عمادة الأطباء أنه غير مقبول و يستدعي تدخل وزارة الصحة، فيما يؤكد المهنيون خطورته و يطالبون بتحسين ظروف العمل.
ياسمين بوالجدري
و في أواخر شهر  جويلية الماضي، اهتز الرأي العام الوطني على وقع مأساة وفاة أم  وجنينها  بولاية الجلفة، و انتهى الأمر بوضع 5 موظفين رهن الحبس المؤقت، بينهم طبيبة مقيمة و قابلات، و رغم أن التحقيقات في القضية لا تزال متواصلة، إلا أن العديد من مسيري الصفحات بموقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك"، وضعوا منشورات يرى الأطباء أنها حرّضت المواطنين ضدهم، حيث تضمنت اتهامات مباشرة بالتقصير و الإهمال تم تعميمها على جميع الأطباء و القابلات، و بدأ تفاعل الكثيرين معها من خلال تعليقات تضمنت وابلا من عبارات السب و الشتم، سرعان ما انتقلت من الفضاء الافتراضي إلى الواقع.
صفحات مُحرضة و أخرى مدافعة
و قد دفع هذا الوضع ببعض الصفحات الخاصة بالأطباء، إلى محاولة صدّ هذه "الحملة" من خلال حملة مضادة تُبيّن، برأي مسيريها، أن الطبيب لا يتحمل المشاكل المتراكمة التي يعاني منها قطاع الصحة ببلادنا، من خلال وضع منشورات تظهر الجهود التي يبذلونها يوميا رغم "ضعف الإمكانيات"، لكن الأمور تطورت إلى أخطر من ذلك، بنشر بعض الصفحات ما قيل إنه تحريض مباشر على الاعتداء على الدكاترة، و هو ما دفع ببعضهم إلى الخروج إلى الشارع و التنديد، مثلما حدث بولاية عنابة، أين قام الأطباء بإيداع شكاوي رسمية لدى مصالح الأمن ضد صفحات "مُحرضة" وصل بها الحد إلى نعتهم بأوصاف غير أخلاقية و تشويه سمعتهم و الإساءة لكفاءاتهم، حسبما صرحوا به خلال وقفة احتجاجية نظمت أوت الماضي بمستشفى ابن رشد. و يُعدّ الأطباء المقيمون الأكثر عرضة للاعتداءات التي تُسجل يوميا في المستشفيات الجامعية الكبرى، فغالبا ما يجدون أنفسهم بمفردهم في مواجهة المرضى الغاضبين و أهاليهم، على اعتبار أنهم من يضمنون المناوبات الليلية و يعملون بشكل متواصل، و في هذا الشأن يقول الدكتور هوّام محمد أمير المكلف بالإعلام في نقابة الأطباء المقيمين بولاية قسنطينة، إن "الحملة" الأخيرة التي تم شنها ضد الأطباء في بعض وسائل الإعلام، جعلت العديد من الأشخاص لا يحترمون الدكاترة، و يأتون إلى المستشفى بفكرة ترسخت في أذهانهم مفادها أن "الطبيب لا يقوم بعمله على أكمل وجه"، فيدخل المصلحة و هو في وضعية هجوم و يستعمل ألفاظا عنيفة، إلى أن يهدأ تدريجيا بعدما يتبّين له أن الطبيب قدّم له العلاج و تصرف معه بشكل لائق.
تحرشات لفظية يومية!
و يضيف محدثنا أن من بين أكثر المشاكل التي يواجهها الأطباء، هي محاولة البعض فرض مكوث المرضى في المصالح، رغم أن الأسرة تكون في الغالب غير كافية بمستشفى يشهد ضغطا كبيرا، بما يحتم على الأطباء توجيه المرضى إلى المؤسسات الصحية الأخرى التي تضمن المعاينات الخارجية، أما العمل في الاستعجالات فيُعدّ الأكثر صعوبة، فالجميع يريد أن يمرّ دفعة واحدة و ترفض الغالبية انتظار دورها، بما ينجم عنه صدام بين المواطن و الطبيب المقيم، ينتهي أحيانا بالاعتداء الجسدي على هذا الأخير، و في الغالب بتعرضه للسب و الشتم بشكل يومي، ما يجعل الطبيب يعمل وسط قلق و توتر شديدين يزيد من حدّة الإجهاد الذي يصيبه، خاصة خلال المناوبات الليلية. و عبر الدكتور هوّام عن تأسفه لهذا الوضع، خاصة أن العديد من الأشخاص أصبحوا لا يترددون، مثلما قال، في التقليل من احترام الطبيب، فقد صار سماع عبارات مثل "ما عندكمش ضمير"، "راكم سالكين عليها" و "ماراكش اديرو فينا مزية" أمرا كثير الحدوث في الفترة الأخيرة، رغم أن الأطباء يبذلون أقصى ما يقدرون عليه لعلاج المرضى بمستشفى يؤكد محدثنا إنه يشهد ضغطا كبيرا و نقصا في الإمكانيات، بالنظر إلى العدد الهائل للمرضى الماكثين به و الذين يدخلونه يوميا، و أضاف ممثل الأطباء المقيمين أن النقائص المسجلة لا تقتصر على تعطل العتاد الطبي أو نقص الأمن فحسب، بل تشمل في بعض الأحيان انقطاع الماء و حتى الكهرباء، رغم كل ذلك يطالب المريض الجزائري بخدمات صحية كتلك التي يشاهدها في الدول المتقدمة، لكن الأطباء لا يمكنهم تقديمها رغم الكفاءات الكبيرة التي يتمتعون بها، حسب المصدر ذاته.

رئيس مصلحة التوليد بالمستشفى الجامعي
نتعرض لهجوم خطير و غير مسبوق
تُعدّ مصلحة أمراض النساء و التوليد بالمستشفى الجامعي ابن باديس بقسنطينة، من أكثر المصالح التي عانى طاقمها خلال فصل الصيف بسبب الضغط، غير أن أطباءها يقولون أن المشكلة لا تكمن في ظروف العمل الصعبة فحسب، بل في طريقة التعامل التي أصبح العديد من أهالي المريضات ينتهجونها اتجاه الأطباء، مُرجعين ذلك إلى الحملة التي يرون أنها تستهدفهم، خاصة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
النصر التقت بالبروفيسور منار لحمر الطبيب المسؤول بالمصلحة، و وجدته رفقة عدد من أفراد الطاقم الطبي في حالة انزعاج و قلق كبيرين لم نرها حتى في عزّ أزمة اختطاف رضيع من المصلحة قبل ثلاث سنوات، فقد قال إن قضية وفاة حامل و رضيعها بولاية الجلفة، ضاعفت الضغط على الأطباء و زادت من حالة التأجيج ضدهم بسبب ما أسماه بتأثير بعض وسائل الإعلام و "الفايسبوك". و ذكر البروفيسور لحمر أن البعض أصبحوا يتصيدون الطبيب داخل المستشفيات و يصورونه و هو يأكل، ثم ينشرون صوره على وسائل التواصل الاجتماعي على أنه يترك عمله، و كأن الطبيب، حسبه، ليس إنسانا و لا يحق له أخذ قسط من الراحة أو تناول وجبة الغذاء، و ذلك زيادة على الاعتداءات اللفظية المتكررة التي أكد أنها تؤثر على معنويات الأطباء، واصفا ما يحصل بالهجوم غير المسبوق و بالأمر الخطير.  محدثنا قال إن الطبيب يبقى إنسانا يمكن أنه يصيب أو يخطئ، و ما يجب فهمه أنه "ليس آلة"، فهو يوظف المعارف التي تعلمها خلال سنوات الدراسة الطويلة، و يعمل بما وسعه لإنقاذ الأشخاص، مضيفا أنه لا يوجد طبيب يتعمد وفاة المريض، لكن قد يكون ربما مرهقا أو يعاني من نقص في التركيز، كما أنه يتأثر كثيرا عندما تموت مريضة بين يديه، معلقا بالقول "لا يوجد طبيب مهمل أو يقتل الآخرين، هناك طبيب تعب ربما". و عن ظروف العمل بمصلحة التوليد التي تستقبل مريضات من أغلب ولايات الشرق الجزائري، أوضح البروفيسور لحمر أن عددا كبيرا منهن يأتين في نفس الوقت، لذلك فمن المستحيل أن يجدن العدد نفسه من الأطباء في استقبالهن، غير أن الجميع يريدون المرور بسرعة و في أقرب وقت، و يتهمون الأطباء و القابلات بالتماطل و أحيانا بالإهمال إذا حدثت مضاعفات، في حين أن الكثير من الوافدات تصلن دون ملفات طبية أو تتأخرن في القدوم، فيما تتعرض بعضهن لمخاطر صحية أثناء التنقل بالسيارة لمسافات بعيدة، رغم كل هذه يتم إنقاذ عدد كبير من الحوامل يوميا بعد بذل جهود كبيرة تستهلك طاقة الطبيب، حسب محدثنا.
و تأسف مسؤول المصلحة للتصرفات التي قال إن أهالي و أزواج المريضات يقومون بها، فعوض انتظار دورهن بهدوء و ترك الوقت للأخصائي من أجل فحص الحوامل الأخريات بالشكل المطلوب، يبدأ هؤلاء في الصراخ من غرفة الانتظار و المطالبة بالمرور، و كثيرا ما يتدخلون في عمل الطبيب و يطلبون منه أن يسرع، و هي سلوكات تزيد من توتر الأخصائي و الحامل معا.

رئيس عمادة الأطباء الجزائريين الدكتور بقاط بركاني
الطبيب تحوّل إلى ضحية تتحمّل محن القطاع لوحدها
يرى الدكتور محمد بقاط بركاني رئيس عمادة الأطباء، أن النظام الصحي بالجزائر يعاني من مشاكل عديدة، لكن ذلك لا يعطي للمواطنين الحق في إهانة الطبيب الذي تحوّل إلى "ضحية"، في وقت يلقى زملاؤه في بلدان تعاني الحروب، الاحترام المطلوب، داعيا إلى عقد جلسات وطنية للخروج بحلول.
و في تعليقه على ما أصبح الأطباء يتعرضون له داخل المستشفيات العمومية، قال بركاني "في الواقع المواطن الجزائري قد يكون مخطئا، عن قصد أو عن غير قصد بسبب نقص الخدمات الطبية، فالمنظومة الصحية تعاني من جميع الجوانب، سواء من حيث العتاد و الأدوية و الموارد البشرية"، و أضاف الدكتور أن المشكلة تكمن في تحديد المسؤوليات، و السؤال الذي يجب أن يُطرح، بحسبه، هو "من المسؤول عن المستشفيات من حيث النظافة و الإمكانيات؟".
و ذكر بركاني أن هذا الوضع جعل المريض يعاني خاصة في المستشفيات الجامعية، لكنه لا يجد في الواجهة سوى الطبيب و جعله  مسؤولا عن جميع "المحن" و "المشاكل الكبيرة" التي يمر بها قطاع الصحة ببلادنا، و هو اعتقاد خاطئ لا يبرر للمريض أو لعائلته أو مرافقيه الاعتداء اللفظي أو الجسدي على الطبيب الذي أصبح هو "الضحية"، مضيفا أن مثل هذه السلوكات غير مقبولة تماما، و لا تُسجل حتى في البلدان التي تعيش حروبا، حيث يحظى أطباؤها بالاحترام اللازم، مبديا استياءه لارتفاع حالات الاعتداء ضد الأطباء في الأشهر الأخيرة.
و للخروج من هذا الوضع، يقترح رئيس عمادة الأطباء و عضو المجلس الوطني لحقوق الإنسان، عقد لقاءات تجمع إطارات الوزارة بممثلي النقابات و جميع فئات الأطباء، سواء كانوا مقيمين أو أساتذة أو رؤساء مصالح، مع تنظيم جلسات وطنية للصحة، قصد الخروج بحلول "توافقية" تكون على الأقل ظرفية، و تختلف حسب خصوصية كل ولاية.

الأمينة الولائية لنقابة الإستشفائيين الجامعيين الدكتورة بن شريف إيمان
وسائل التواصل الاجتماعي جعلت المريض يكرهنا
استغربت الدكتورة بن شريف إيمان، الأمينة الولائية للنقابة الوطنية للأساتذة الباحثين الإستشفائيين الجامعيين بقسنطينة، تزايد الاعتداءات ضد الأطباء في الفترة الأخيرة، و ذكرت أن الخطير في الأمر هو أن هذه السلوكات صارت تصدر حتى من أشخاص يُفترض أنهم مثقفون و حتى من الأطفال، وضع تقول الدكتورة إنه سيكون محّل تحركات ستقوم بها النقابة الوطنية خلال أيام.
"لم نفهم ما الذي يحصل و قد أثر ذلك فينا لأننا نعطي كثيرا رغم نقص الإمكانيات و العتاد"، هكذا علقت الدكتورة بن شريف على ظروف العمل التي عاشها الأطباء خلال الأشهر الأخيرة بالمستشفى الجامعي، و أضافت رئيسة مصلحة أمراض الروماتيزم بالنيابة، أن المريض الجزائري تغيّر تماما، مُرجعة ذلك إلى تأثره بـ "الحملة" التي شُنت ضد الأطباء ببعض وسائل الإعلام و على شبكات التواصل الاجتماعي، و هو ما أنتج، برأيها، "الكثير من الكره و الاحتقار" ضد الطبيب.
و قالت الدكتورة بن شريف إن البعض يتهمون الطبيب بأنه لا يعامل المريض "كما يجب"، لكنهم لا يأخذون بعين الاعتبار أن هذا الطبيب يعمل حسب الإمكانيات المتوفرة لديه و وفقا للطاقات البشرية المُتاحة، مُقدّمة مثالا عن مصلحة أمراض الروماتيزم بالمستشفى الجامعي، و التي لا تتوفر سوى على طبيبين أخصائيين، لكنها تضم 40 سريرا و تستقبل مرضى جميع الولايات الشرقية، رغم ذلك يبذل الأطباء أقصى جهودهم ثم يُقابلون بالسب و الإهانة، إلى درجة أن طبيبة تعرّضت خلال مناوبتها يومي عيد الأضحى الفارط، إلى الشتم من طرف طفل لا يتعدى عمره 12 سنة، و الخطير في الأمر، تضيف الدكتورة، أن "مثقفين" صاروا يتحدثون بقلة أدب مع الطبيب.
و للخروج من هذه الوضعية، تدعو رئيسة نقابة الأطباء الاستشفائيين الجامعيين بقسنطينة، إلى تحسين ظروف عمل الأطباء الذين يسعون، مثلما أكدت، إلى تقديم الأحسن للبلاد لأن غالبيتهم يعملون بجدّ كبير، كاشفة بأن رئيسة المكتب الوطني للنقابة طلبت لقاء في هذا الشأن مع وزير القطاع، في انتظار "التحرك" خلال الأيام المقبلة.
ي. ب

الرجوع إلى الأعلى