تمديد خط الميترو يحوّل ساحة الشهداء إلى قبلة سياحية
اكتست ساحة الشهداء بالجزائر العاصمة حلة جديدة، استعدادا لافتتاح محطة الميترو الجديدة، التي ستربط أهم بلديات العاصمة المعروفة بالاختناق المروري، بمركز المدينة، فالعمارات التي تعود إلى العهد الاستعماري لبست الثوب الأبيض، يعلوها جامع «كتشاوة» ببياضه الناصع ، ويقابله الجامع الكبير المطل على البحر، في انتظار اليوم الموعود، فالآثار المكتشفة بساحة الشهداء أو «جامع السيدة و بيت المال» أثارت حماس العاصميين وكل من يقصد المدينة،  لانطلاق خط الميترو.
روبورتـاج: لطيفة بلحاج
أشغال الحفر تكشف بالصدفة عن الكنز الخفي لمدينة بني مزغنة
لم يكن تمديد خط ميترو العاصمة، باتجاه وسط العاصمة، و بالضبط إلى ساحة الشهداء بالأمر العادي، عكس ما كان يظنه المسؤولون عند بداية الأشغال من أجل تنفيذ المشروع، حيث كان الغرض منه التقليص من الاكتظاظ وضمان انسيابية حركة المرور بالعاصمة، عن طريق ربط أهم أحيائها وبلدياتها بشبكة الميترو، و السبب هو اكتشاف موقع أثري في غاية الأهمية ، يعود إلى العهد العثماني، أسفل المحطة.
إن انطلاق عمليات الحفر ، مكنت من الوقوف على مدينة بكاملها تقع تحت ساحة الشهداء، تحمل كافة مواصفات وتفاصيل مدينة راقية ومتقدمة، مقارنة بعصرها ،  العهد العثماني، ورغم أنه لم يتبق من هذا الصرح المعماري التاريخي، إلا أجزاء من الأعمدة و الجدران المبنية بالحجارة، إلا أن ذلك كان كافيا لإثارة فضول أغلب من يزور المدينة، ومن يقصدون ساحة الشهداء، للاطلاع على الآثار التي دارت حولها روايات وحكايات، كل يسردها، حسبما سمعه من مسنين و سكان قدماء  بحي القصبة العتيق، استرجعوا عبق الماضي، فمن قال أن الجزائريين لا يكترثون لتاريخهم، ولا يهتمون بماضيهم المنير؟!

 تنسب البقايا الأثرية المكتشفة على مستوى محطة الميترو بساحة الشهداء، إلى العهد العثماني، وهي عبارة عن بقايا بيت المال، أو ما يعرف بمقر المالية أو الخزينة، ويعود تاريخه إلى سنة 1625/ 1626، حيث أظهرت الحفريات أن المبنى ينقسم إلى عدة غرف، فضلا عن ملحقات جانبية بسيطة، و مسقفة بأقواس، مع قاعتين واسعتين مبلطتين بالآجر، وبقايا أعمدة مزخرفة.
ومكنت الحفريات التي قام بها مختصون من التعرف على أسس منارة الجامع الحنفي، المعروف تحت تسمية جامع السيدة، وكان مخصصا للباشاوات إلى غاية سنة 1817، و يضم الجامع الذي كان معروفا بطابعه المعماري المتميز، كما أكد مؤرخون،  مدرسة قرآنية شيدت سنة 1703، و بعد تهديم الجامع من طرف المستعمر سنة 1836، أعيد استخدام أعمدته الرخامية و تيجانها ذات الزخارف النباتية، لتجميل الرواق الخارجي للجامع المرابطي الكبير، مما جعل محطة الميترو تتربع على مخزون حضاري و تاريخي، يروي ماضي العاصمة، ويعكس حقبة زمنية هامة، كانت خلالها الجزائر في أوج قوتها و ازدهارها، فكانت لؤلؤة البحر الأبيض المتوسط دون منازع.
  من محطة للحافلات
 إلى مزار للسياح
لم تكن الساحة التي اكتشفت بها الآثار العثمانية قبل سنتين، سوى محطة لنقل المسافرين، تتجمع بها عشرات حافلات النقل الحضري التي تربط ساحة الشهداء بمختلف أنحاء وضواحي العاصمة، كما كان المكان يعج بالمسافرين وتعلو به أصوات الناقلين، وكذا الباعة الذين كانوا يتخذون من أسفل العمارات الواقعة غير بعيد عن مسجد كتشاوة، الذي تمت تهيئته وترميمه من قبل مهندسين أتراك، سوقا شعبية يقصدها سكان العاصمة، لاقتناء الأقمشة والأدوات المنزلية، والألبسة التقليدية، والأواني النحاسية.
ظلت ساحة الشهداء مغلقة ومحاطة بسياج من صفائح معدنية لمدة قاربت السنتين، لم تتوقف خلالها الأشغال ليلا و نهارا، ولم تهدأ آلات الحفر لاستلام المشروع في موعده، إلى غاية أن وقف المكلفون بالأشغال على كنز ثمين ظل لقرون مردوما تحت الأرض، بإرادة مبيتة من المستعمر الفرنسي الذي سعى إلى طمس كل ما يرمز إلى تاريخ الجزائر العميق، ما جعل سكان «المحروسة» ، كما يحلو للمختصين في تاريخ العاصمة تسميتها، ينبهرون ويصابون بالدهشة والذهول وهم يقفون على آثار الأجداد، وعلى حضارة عريقة، نظرا لما تحمله الآثار المكتشفة من معالم ثمينة، وهندسة معمارية في غاية الدقة و التطور.
الحلة الجديدة التي ارتدتها ساحة الشهداء جعلتها محطة يقصدها يوميا كل من يزور العاصمة، سواء من البلديات المجاورة أو من خارج الولاية، فالكل أضحى يستمتع وهو يجلس على كراس وضعت خصيصا لضمان راحة الزوار، للاستمتاع بصفاء السماء المتناغم مع لون البحر المائل إلى الأزرق اللامع، و كذا الجامع الكبير المطل على خليج العاصمة، ويقابله جامع كتشاوة الذي تحول من آثار عثمانية كانت توشك على الانهيار، إلى تحفة تاريخية تولى مهندسون أتراك إعادة ترميميها، بالاعتماد على طرق علمية للمحافظة على الطابع الأصلي للمسجد.

ويحيط بالساحة فضاء أخضر زين بالنباتات والأزهار ذات الألوان المختلفة، يحرص عمال مختصون على سقيها والاعتناء بها لتحافظ على نضارتها و رونقها، في حين يواصل عمال بلدية القصبة وكذا الشركات المختصة في الصيانة، تهيئة المكان استعدادا لإعطاء الضوء الأخضر لانطلاق مترو العاصمة، باتجاه ساحة الشهداء.
علما بأن الساحة تتوسط أهم الأحياء العتيقة للعاصمة، وهي القصبة و باب الوادي ووادي قريش وباب عزون، وتعد القصبة من أهم المعالم التاريخية التي لا تزال تحافظ على طابعها، رغم مرور السنين، ويسعى المهتمون بتاريخها للحفاظ على نمطها الأصيل، وينسقون مع السلطات المحلية لعدم المساس بالهندسة المعمارية للقصبة خلال أشغال الترميم، على غرار الشاب جمال الذي عرفنا عليه أحد  الموظفين ب»دار عزيزة» وهي قصر عتيق يقع بالقرب من مسجد كتشاوة، يحتضن حاليا مقر المؤسسة المكلفة بترميم «جامع السيدة»، المكتشف حديثا بساحة الشهداء.
 يؤدي الشاب جمال حاليا مهمة الدليل السياحي، وهو يرافق السياح الأجانب المهتمين باكتشاف القصبة، ليعرفهم على أزقتها وبناياتها المعروفة بتسمية «الدويرة»، علما بأن التخطيط الهندسي للقصبة، له شكل  هرمي، يجعل من المستحيل على الغرباء عن المدينة التجوال بداخلها، دون دليل سياحي، يدرك جيدا مداخل ومخارج مختلف أزقتها.
قال جمال بأن المعلومات التي جمعها عن تاريخ القصبة، بفضل احتكاكه بالشيوخ و قدماء الحي، مؤكدا حرصه شخصيا على متابعة تسييج الآثار المكتشفة بساحة الشهداء، و قد  حز في نفسه كثيرا استعمال بعض الحجارة المكتشفة في تشييد ما يشبه الأدراج من قبل المؤسسة المكلفة بالأشغال، و كذا تعرض بعضها إلى الكسر والتخريب من قبل مجهولين، ظنا منهم أنها تحتوي على المال.
جامع كتشاوة يستعيد بريقه
استمرت عملية ترميم  مسجد كتشاوة و معناه  باللغة التركية «ساحة الماعز»، أزيد من ثلاث سنوات، إذ انطلقت الأشغال سنة 2014، بموجب اتفاقية تم التوقيع عليها سنة 2013  بين وكالة التعاون والتنسيق التركية والوزير الأول التركي، ممثلا للجمهورية التركية و وزارة السكن والعمران والمدينة، ممثلة للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وتعتبر العملية هبة من طرف الجمهورية التركية، و شملت ترميم الأحجار الداخلية لكل قبة من قبب المسجد، وإنشاء قنوات صرف المياه، وإعادة إنشاء مراحيض جديدة وأماكن الاغتسال، أي الوضوء للنساء والرجال، ولم تخل عملية الترميم من المفاجآت، نظرا لثراء حي القصبة بالآثار القديمة، منها ما يعود إلى العهد الروماني و أخرى للعهد العثماني، حيث تم العثور على بعض الاكتشافات غير المتوقعة أثناء الأشغال الإعدادية والترميم، من بينها لوحات جدارية تعود إلى العهد الاستعماري، وبقايا من الفترة العثمانية، و كذا الجدار الخارجي للمسجد الأصلي، و بئر بعمق 6.5 أمتار.
مسجد كتشاوة الذي تحده شمالا دار السلطان التي لا تزال تخضع لإعادة الترميم، زارته مؤخرا السيدة أمينة أردوغان، زوجة الرئيس التركي، و الوفد المرافق لها، و التقطت العديد من الصور التذكارية في هذا الصرح العمراني العريق.
و الملفت أن كل من يمر أمامه  من   زوار و سياح  يلتقطون  صورا  تذكارية للمكان الذي كان إلى وقت قريب بناية آيلة للسقوط، يتجمع حولها باعة الأرصفة.

من التدابير الجديدة التي اتخذتها مصالح ولاية الجزائر، بغرض إعطاء وسط العاصمة مكانتها وجمالها اللائق بها، إزاحة الباعة المتجولين الذين سيطروا على المكان ضمن ما كان يعرف بسوق الجمعة، خلال الفترة التي استغرقتها أشغال بناء محطة الميترو التي تقع على عمق 7 أمتار عن سطح البحر، وهم يتمركزون حاليا قرب السوق الشعبية المغطاة، غير بعيد عن جامع كتشاوة، ويقصد هذه السوق أغلب سكان العاصمة، نظرا لما تعرضه من سلع ذات نوعية و بأسعار معقولة، كما سهرت ذات السلطات على ترميم وطلاء كافة العمارات المطلة على ساحة الشهداء باللون الأبيض،  الذي أضفى جمالا على الجامع الكبير الذي يؤدي فيه رئيس الجمهورية صلاة العيدين، كما يحتضن سنويا الاحتفالات الرسمية الخاصة بالمسابقة الدولية لحفظة القرآن الكريم، إلى جانب إحياء ليلة القدر، وغير بعيد عن هذا المسجد العتيق ترتفع صومعة مسجد علي بتشين، ثم «زوج عيون» ، المعروفة بحي باب الوادي.
الآثار العثمانية مصدر فخر واعتزاز العاصميين
تروي سيدات متقدمات في السن من قاطني حي القصبة العريق الذي شهد فصول حرب الجزائر، إبان الثورة التحريرية، تفاصيل عن الحياة في مدينة «بني مزغنة»، إبان القرون الماضية، وكيف بلغت أوج تقدمها، بدليل قطع «الزليج» التي توجد بجامع السيدة، وفق اعتقاد سيدة مسنة اقتربنا منها ، و كانت تتحدث مع نسوة جاءوا من أحياء مجاورة لساحة الشهداء عن الآثار المكتشفة، وعن تفاصيلها  وما تجسده  من معالم تاريخية، في حين اصطف عشرات المواطنين وراء السياج الذي أحيطت به المساحة الأثرية، في محاولة للاطلاع على هندستها و خصائصها، و انهمك  آخرون في التقاط صور تذكارية، و أسرع الكثير من الزوار لقراءة البطاقة الفنية التي وضعت خصيصا للتعريف «بجامع السيدة وبيت المال».
في حين ظل الأعوان التابعين لبلدية القصبة أمام مدخل البناية الأثرية لمنع تسلل الغرباء، باستثناء العمال المكلفين بأشغال التهيئة والترميم، مؤكدين للنصر،  أن دخول المكان ممنوع، و بعد إلحاح منا سمحوا لنا بالتقاط صور بالداخل، مؤكدين أن عشرات المواطنين يلحون عليهم للاطلاع على الآثار عن قرب، غير أن تعليمات صارمة من قبل مديرية الآثار بوزارة الثقافة ،منعتهم من المساس بالمكان، خشية إتلاف بقايا الأعمدة والأسوار.               
ل. ب

الرجوع إلى الأعلى