فندق الزيت .. مركز الخياطة التجارية و السينمائية مهدد بالانهيار
تقف صامدة بأعمدتها التي لم يهزمها الزمن، وسط أزقة مدينة قسنطينة الضيقة بنهج تليلي السعيد، الشهير بزنقة البرادعة، و لا تزال تحافظ على نمطها العمراني الإسلامي الذي لم يستطع المستعمر طمسه ، لتشكل ذاكرة المدينة العتيقة ، إنها «دار عرب» التي تعرف باسم فندق الزيت، فبعد أن احتضنت عديد العائلات القسنطينية، تم تحويل غرفها إلى محلات للخياطة و الطرز، لتصبح مركزا للخياطة التقليدية و السينمائية  يهدده الانهيار و الزوال .

هندستها و زخرفتها الإسلامية ترفض الزوال
يعتقد الكثيرون أن هناك فضاء تجاري واحد بقسنطينة، يطلق عليه اسم  فندق الزيت، مشهور ببيع ألبسة الختان و الحج، غير أن أغلبهم لا يعرفون بأن هناك مكان آخر يحمل نفس الاسم، يقع على بعد عشرات الأمتار منه ، و كان يزود «الفندق « الأول بتلك الملابس ، و يضم أكثر من 20 محلا متخصصا في خياطة الألبسة الكلاسيكية الرجالية ، إلى جانب الأزياء التقليدية و غيرها من أنواع الألبسة.
سلكنا نهج البرادعة الضيق، المعروف ببيع الأعشاب الطبية و  محلات الشواء و الإسكافيين، و مررنا بحي الرصيف، متجهين إلى فندق الزيت، و هو عبارة عن «دار عرب» عمرها تجاوز قرنين من الزمن، فقد شيدت في العهد العثماني، و هندستها المميزة و زخرفتها الإسلامية ، تعكس طابعا معماريا يرفض الزوال، و لا تزال صامدة  بنقوشها و ألوان موادها كمرجعية معمارية ضاربة في الأصالة و القدم، إنها لا تزال محافظة على فنائها المضيء و أسقف غرفها المصنوعة من خشب العرعار ، و سلالمها المبنية بالحجارة، فتعتبر إرثا يشكل ذاكرة المدينة بكل مكوناتها الثقافية و الاجتماعية و الحضارية. 
دهليز البناية ينفر زائريها ووضعها من الداخل يندى له الجبين
في بداية استطلاعنا حاولنا البحث عن الاسم القديم للنهج الذي يقع فيه الفندق ، الذي لا يزال محافظا على هندسته القديمة، و لا تزال الدكاكين الصغيرة التي توجد به مبنية بالحجارة و العرعار ، فأخبرنا عدد من الباعة الذي ينشطون بالمنطقة منذ زمن طويل ، بأن هذا النهج كان يعرف باسم زنقة «البرادعة» قبل غزو الاستعمار الفرنسي لقسنطينة، باعتباره كان فضاء للتجار المختصين في صناعة السروج ، كما كانت تجارة الغرابيل جمع (جمع غربال)»سياير» و زيت الزيتون منتعشة به ، أما «دار عرب» الموجودة بالنهج فتعتبر من أقدم و أعرق بنايات قسنطينة و أطلق عليها ، حسبهم، اسم فندق الزيت، لأن تجارة زيت الزيتون كانت مزدهرة قرب مدخلها.
في حين يعاني هذا التراث المعماري، من وضع كارثي، فبمجرد أن وطأت أقدامنا دهليز المبنى، لاحظنا  جدرانه الهش  المهدد بالسقوط و انتشار أنواع النفايات و الطاولات المهترئة، و كأن المكان مهجور، و عندما اجتزنا المدخل وجدنا حركية تجارية كبيرة، فقد تم تحويل غرف «دار عرب» العتيقة إلى محلات تنشط في مجال خياطة الألبسة التقليدية و العصرية للرجال و النساء، لا تزال تحافظ على جمالها من الداخل لكونها تخضع للتهيئة من قبل مالكيها، غير أن  أبوابها الخشبية القديمة طالتها يد الإنسان فاستبدلت بأخرى حديدية ، و الملفت أن أغلب التجار تخلوا عن نشاطهم هناك، حيث وجدنا حوالي 10 محلات فقط مفتوحة ، من بين أكثر من 22 محلا.  


فندق الزيت من مكان ممنوع على النساء إلى فضائهن المفضل
قالت الخياطة سامية للنصر بأنها تعتبر أول امرأة تشتغل بالفندق، بعد أن كان حكرا على الرجال ، و ذلك بعد أن أصبح النسوة يقصدن محلاته لترقيع الألبسة و خياطتها، و أضافت بأن الفندق، كان قبل الاستعمار الفرنسي، عبارة عن منزل تقطنه عديد العائلات، ليتحول إبان الحقبة الاستعمارية إلى فندق لإيواء الفرنسيين.  و بعد الاستقلال أصبح، حسبها، عبارة عن زاوية لبني ميزاب تسمى زاوية أبو عمران ، لتنقل بعد ذلك ملكيته لشخص آخر يدعى عيسى نغلوفي قام ببيع غرف الزاوية  للتجار، مستندة إلى روايات كبار السن و أعيان المدينة  .
أما زميلتها الخياطة نورة  فقالت لنا  بأن المالك الأصلي لفندق الزيت عربي الأصل، و ليس أمازيغيا كما هو شائع، مؤكدة بأن أحد كبار أعيان المدينة، كان يقطن بنزل مجاور للدار بزنقة البرادعة، أخبرها بذلك و أكد لها بأن البناية شيدت في العهد العثماني،  بالتزامن مع بناء قصر الحاج أحمد باي، و قد كانت في فترة ما زاوية يقصدها الكثيرون من أبناء المدينة، إلى أن توفي مالكها و تم دفنه بالطابق السفلي للدار ، و قادتنا إلى مكان يقع بالجهة اليمنى للبناية ، و قالت لنا بأنه دفن فيه و بني جدار بين قبره و بقية الغرف ، مضيفة بأن البناية، و بعد وفاة مالكها ظلت مغلقة إلى غاية سنة 1985 ، حيث تم ترحيل سكان عوينة الفول «حي الأمير عبد القادر» إليها بعد الزلزال الذي ضرب المدينة، في أكتوبر من ذات السنة، و  استولى عليها شخص من منطقة وادي ميزاب، حسبها .
الفندق كان زاوية لأبي عمران و ضريح وليها موجود به
 استأجرت نورة المختصة في الخياطة و الطرز محلا في الطابق الأرضي  للفندق، و قالت للنصر بأنها تشتغل بالتنسيق مع المحلات المختصة في بيع الألبسة التقليدية الجاهزة ، و مع زبوناتها، مشيرة إلى أنها كانت تشغل في محل للخياطة بحي السويقة، لكن نظرا لتراجع الحركية به ، لجأت لكراء  محل بالفندق مقابل 10 آلاف و 200 دينار الشهر، باعتباره قبلة للمهتمين بالخياطة من قسنطينة و خارجها، و هدفها كسب أكبر عدد من الزبائن ، سواء من النساء أو أصحاب المحلات، و قد لمست انتعاشا في بداية نشاطها به، غير أنه و خلال  السنوات الثلاث الأخيرة، لمست ركودا تجاريا كبيرا، إذ لم تعد باستطاعتها حتى تسديد الكراء السنوي .
البناية برمجت للترميم في تظاهرة قسنطينة عاصمة للثقافة العربية
 تحدثنا لصاحب محل بالطابق الثاني للبناية ، فقال بأن المتجر الذي يعمل به هو عبارة عن غرفة من غرف الدار، اقتناه والده منذ أكثر من 40 سنة من شخص يلقب «لمزابي» ، مشيرا إلى أن والده حدثه عن هذه الدار، و قال بأنها كانت تأوي عددا كبيرا من العائلات القسنطينية، التي تم ترحيلها لتصبح ملكا لشخص يدعى «لمزابي»، مؤكدا بأنهم لا يحوزون عقود ملكية ، و منح لهم هذا الشخص وثيقة تشبه الاعتراف بالدين.
و عن الوضع الكارثي الذي آلت إليه البناية، قال المتحدث بأنها كانت مبرمجة للترميم في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة للثقافة العربية، و قد تفقدت الجهات المعنية البناية حينها ، و تفاوضت مع التجار ، بشأن الترميم، و طلبت منهم إخلاء البناية لفترة معينة ، لترميمها ، ليواصلوا نشاطهم بها  بعد انتهاء العملية، غير أنهم رفضوا لكون أشغال الترميم توقف نشاطهم التجاري الذي يعتبر المصدر الوحيد لرزقهم، كما أنهم تخوفوا من انتزاع البناية منهم، لكونهم لا يحوزون على عقود ملكية.
و قال ذات المتحدث بأن الفندق كان حكرا على الرجال فقط، و لا تطأه النساء ، لكونه كان مختصا في الألبسة التقليدية الرجالية و كذا الكلاسيكية، كالسروال العربي المعروف باسم السروال «المدور» و  القندورة و القشابية و القبعة و غيرها، مؤكدا بأن كل الألبسة التي كانت تخاط بالفندق، توزع على كل المحلات المختصة في بيع الألبسة الرجالية ، مشيرا إلى أن الفندق كان يعرف اكتظاظا كبيرا بالزبائن و التجار  ، و الحركية التجارية به تدوم لساعة متأخرة من الليل، عكس ما هو عليه الآن .

الفندق قبلة للمنتجين السينمائيين  
يعتبر سمير من أمهر المختصين في خياطة اللباس التقليدي  بالفندق، و قد ورث الحرفة عن عمه الذي كان مشهورا بخياطة اللباس العروبي و القشابية و ألبسة الحج الرجالية، و سروال «الحوكة» ،الذي هو نوع من أنواع السراويل التقليدية الرجالية.
قال لنا سمير بأنه يملك 18 سنة خبرة في مجال  الخياطة، و كان منذ الصغر  يعشق الخياطة و تصميم الألبسة التقليدية ، مضيفا بأنه يتعامل كثيرا مع المنتجين السينمائيين، حيث يقصدونه لخياطة أزياء تقليدية تناسب أعمالهم ،  و من بين الأعمال التي تكفل بها من جانب اللباس ، فيلم «ساعي البريد» لمهدي عبد الحق إلى جانب أفلام دينية و ثورية عديدة لا يتذكر عناوينها، موضحا بأن المنتجين تعودوا عليه ، لكونه كان مرافقا دائما لعمه المختص في المجال و الذي تعلم منه  الكثير.  
تجار أغلقوا محلاتهم به لتراجع النشاط التجاري
عند ولوجنا المدخل الرئيسي للدار، صادفنا عمي أحمد ، في السبعينات من العمر، يهم بالخروج منه، فقال بأن يملك محلا بالدار، اقتناه سنة 1972 من شخص يدعى « المزابي»  هو مالك البناية،  مضيفا بأن النشاط التجاري بالفندق كان جد منتعش ، فقد كان مركزا تجاريا يضم كل المحلات التي تبيع الألبسة الكلاسيكية و اللباس العروبي و ألبسة الحج و غيرها بقسنطينة قديما، كما أنه كان قبلة لأبناء المدينة، لترقيع الألبسة. محدثنا قال بأن الحركية التجارية التي كان يشهدها الفندق لا مثيل لها، اذ لا يوجد شخص يقطن بالمدينة لا يعرف فندق الزيت الذي كان يضم أمهر الرجال الناشطين في مجال خياطة الألبسة الكلاسيكية و التقليدية، مضيفا بأن الحركية التي كان يشهدها اختفت تماما، فمعظم التجار توقفوا عن النشاط بسبب الركود الذي يشهده، بعد أن هجره الزبائن الذين أقبلوا على كل ما هو مستورد، موضحا بأن العدد القليل للمحلات الناشطة به الآن مختصة في الترقيع فقط أو ألبسة العرائس،  مضيفا بأنه اضطر لغلق محله الذي كان مختصا في خياطة اللباس التقليدي الرجالي.            

ربورتاج أسماء بوقرن

الرجوع إلى الأعلى