كهف الحمام عرضة للإهمال بوسط مدينة قسنطينة
يجهل كثير من سكان مدينة قسنطينة وزوارها السائرون على الطريق المؤدية إلى جسر سيدي مسيد، بأنه من غير المستبعد أن تطأ أقدامهم نفس المكان الذي وضع فيه إنسان عصر ما قبل التاريخ رجله
أو جلس فيه، أو يلمس نفس الصخر الذي اتكأ عليه أجداده الأولون وتسلقوه لأغراض مختلفة، لأنه يضم كهف الحمام، الذي يعتبر واحدا من أهم المواقع الأثرية في شمال إفريقيا بتاريخ يمتد إلى أكثر من ستة آلاف سنة. ويعرف الموقع اليوم وضعية سيئة، حيث تحول إلى ملاذ للمنحرفين، تتكدس على مدخله عبوات الجعة وقارورات النبيذ الفارغة، كما لم تُعلق فيه لافتة تدل على وجوده، ما جعله مهملا ولا يزوره أي شخص، ما يهدد بأن يصبح في طي النسيان في المستقبل أو يبقى مجرد أسطورة، يتداولها المختصون فقط فيما بينهم.
روبورتــاج: سامي حباطي
ويمر المئات من أصحاب السيارات والراجلين يوميا على كهف الحمام، الواقع بشارع الهاوية، المسمى حاليا بشارع زيغود يوسف، أسفل جسر صغيرة أنشئت في العهد الاستعماري بين الأنفاق المحفورة في الصخر على الجهة المطلة على الهواء من حي القصبة. والتقينا ونحن في طريقنا إلى المكان بأجانب يلتقطون صورا للطريق المعروفة لدى السكان بـ”البولفار”، حيث تحدثنا إلى سائحتين باللغة الانجليزية وأخبرتانا بأنهما يابانيتان، معبرتين عن انبهارهما بالموقع العالي للمدينة وجمال المناظر والصخور. وتصادفنا خلال مرورنا بسياح آخرين، بالإضافة إلى أشخاص قادمين من ولايات مختلفة زاروا المكان للتأكد مما سمعوا عنه من وصف لجماليته.
موقع أثري بسلالم مغلقة و بدون لافتة
لكن أغلبية الذين التقينا بهم، وحتى أبناء المدينة، يجهلون كهف الحمام، لانعدام أية لافتة تدل عليه، حيث يتوقفون لمشاهدة مدخله والسلالم الحجرية المؤدية إليه، دون علمهم بما يمثله أو بالقيمة الأثرية للموقع. ووجدنا بأن السلالم المؤدية إليه مغلقة بسياج حديدي ممتد بين صخرتين كبيرتين، في حين يظهر جدار حجري مغروس في الصخرة المقابلة.
وزرنا كهف الحمام مرتين، حيث لم نتمكن في المرة الأولى من النزول إليه، بعد أن وجدنا مجموعة من السكارى يتحركون بمحيطه، في حين سمعنا نباح كلاب من داخل الكهف في المرة الثانية التي عدنا فيها، ما ثنى عزيمتنا عن النزول، كما أن الوصول إلى السلالم الحجرية لا يخلو من المخاطرة، لأنه يستدعي تسلق السياج الحديدي للوقوف على السلالم الضيقة، وفي حال تعثر قدم الشخص فإنه يمكن أن يجد نفسه في الهاوية السحيقة، لأن الأرضية المحيطة بالكهف منحدرة ومُتربة، كما أنها تنتهي مباشرة إلى الوقوع في الهواء إلى غاية وادي الرمال في جزئه الذي يقطع حي سيدي مسيد.
ملاذ للسكارى و للمنحرفين
أما في مدخل الكهف، فلاحظنا بركة من المياه الراكدة، يبدو بأن مصدرها يعود إلى المياه الجوفية المتسربة عبر شقوق صنعتها ملايين السنين، أو يمكن أن يتعلق الأمر بتسرب مائي من إحدى القنوات، في حين تكدست أكوام من عبوات الجعة وقارورات النبيذ على أحد جانبي المدخل، إذ تعود إلى مرتاديه من السكارى وغيرهم من المنحرفين، الذين حولوا المكان إلى وكر لممارسات غير أخلاقية. وقد وجدنا في زيارتنا الأولى للموقع أحد السكارى يقوم بتكديس مجموعة من قارورات الخمر فوق بعضها، في حين أوضح لنا مواطنون بأنهم يخشون المرور بالموقع في الساعات المتأخرة من المساء خوفا من التعرض لاعتداءات من المنحرفين الذين يختبئون داخل الكهف.
عبرنا الطريق إلى الضفة الثانية من الجسر حيث شاهدنا أسفل المكان بعض الأشجار الصغيرة، والنباتات التي نمت في حافة المنحدر، في حين يقابل الواقف في الجسر نصب الأموات وآلهة النصر بجناحيها المفتوحين فوقه. ويمكن رؤية كهف الحمام أيضا من عدة أماكن على غرار طريق الكورنيش صعودا من حي بكيرة إلى وسط المدينة، أو من جسر سيدي مسيد أو من المستشفى الجامعي، فالجسر الصغير يبقى علامة الإشارة إلى وجوده خلفه.
مدينة قسنطينة متفردة باحتوائها على آثار ما قبل التاريخ

وذكر مدير المركز الوطني للبحوث في علم الآثار فرع عين مليلة، الدكتور حسين طاوطاو للنصر، بأن كهف الحمام يعود إلى فترة ما قبل التاريخ، مشيرا إلى أن مدينة قسنطينة لا تضم إلا عددا قليلا من هذه المواقع، إذ يوجد أيضا كهف الأروى وكهف الدببة، في حين أكد لنا بأنه من النادر إيجاد مواقع تعود لما قبل التاريخ داخل مركز المدينة في الولايات الأخرى. وأضاف نفس المصدر بأن الحياة في المدينة قامت على هذه الآثار في الحقب الموالية.
ويطرح وجود كنوز تاريخية في المدينة العديد من التساؤلات حول أسباب التأخر عن استغلالها لجذب السياح و في التنمية المحلية للمدينة، حيث سألنا بعض المواطنين المهتمين بالآثار عن المكان، فقال أحدهم «إن الأمر يعود إلى نقص اهتمام بها وعدم اطلاع على ما يمكن أن تعود به من عائدات مادية»، مضيفا أنه بالإمكان أيضا استغلالها في الاعتناء بنفس المواقع أو القيام بأبحاث جديدة حولها، في حين أبدى بعض من تحدثنا إليهم الخوف من أن تصبح حقيقة هذه الأماكن التاريخية أساطير بفعل إهمالها وتجاهُلها.
ولم يسعفنا البحث باللغة العربية عن تاريخ الموقع على شبكة الأنترنيت في إيجاد مادة مهمة، حيث لم نجد إلا إشارات إليه في مقالات صحفية وبعض المدونات، في حين وجدنا تفاصيل قليلة جدا باللغة الفرنسية في مقالات صحفية أيضا تتطرق إلى ما تزخر به المدينة من آثار وكنوز أثرية، أو يتم فيها الحديث عن المقومات السياحية. وأوضح لنا مختصون بأن آخر الدراسات والحفريات التي أنجزت على المكان تعود إلى العهد الاستعماري، في حين لم يقم باحثون جزائريون بأية أبحاث معمقة حول الموقع، واكتفوا بالتدريس من خلال ما توصل إليه الباحثون الأوائل المذكورون، الذين اكتشفوا الكهف مع نهايات القرن التاسع عشر، في حين انتهت أبحاثهم في بدايات القرن العشرين.
أساطير نسجت لمئات السنين حول كهف الحمام
وعثرنا على تاريخ كهف الحمام في وثائق قديمة مصورة ومتاحة للمستخدمين بالأرشيف الرقمي لجامعة هايدلبرغ الألمانية، حيث اكتُشف الموقع خلال أشغال إنجاز طريق «البولفار» من طرف السلطات الاستعمارية، في حين قام بالأبحاث الأولى حوله الباحث آرثر ديبريج، أين قال إن سكان المدينة من الجزائريين نسجوا حول الكهف عدة أساطير، من بينها وجود خندق في نهايته ويمكن من تلك النقطة سماع صوت المياه وهي تتساقط، في حين كان يعتقد آخرون بأن الشموع تأبى أن تشتعل بداخله، كما أنه يحتوي على شبكة معقدة من الأنفاق تحت الأرضية التي تقود إلى مكان بعيد جدا.
وأكد الباحث، في الوثيقة التي نشرت ضمن تقارير الجمعية الأركيولوجية لمقاطعة قسنطينة في سنة 1916، بأن الكهف لم يستعمل يوما للسكن من طرف الإنسان، حيث استغل لعبادة الإله ميترا في فترة الرومان، بحسبه، كما أنه كان لوقت طويل مقبرة.
عظام بشرية تعود إلى ما قبل التاريخ
وتمكن نفس الباحث من استخراج العديد من الأشياء من الكهف، من بينها أجزاء من أواني فخارية تحمل رسومات مختلفة، وأوكلت مهمة دراستها لباحث فرنسي يدعى جورج مارسي، رجح بأنها تنتمي لحقب مختلفة تتراوح ما بين القرن الرابع والثاني قبل الميلاد، مؤكدا بأنها لا تختلف كثيرا عن الأواني الفخارية المستعملة من طرف النساء الجزائريات في بلاد القبائل وغيرها، كما اعتبرها دليلا على مدى قدم صناعة الفخار في الجزائر.وعُثر داخل المكان أيضا على بقايا عظام حيوانات منقرضة على غرار الأروى وغزالة الجبال، بحسب نفس الوثائق الاستعمارية، بالإضافة إلى عظام بشرية تعود إلى إنسان العصر الحجري الحديث «النيوليتيك»، حيث أكد الباحثون الذين درسوا الموقع على أهميته التاريخية البالغة، في حين نبه الباحث آرثر ديبريج بأن الجدار المبني بجانب كهف الحمام يخفي كهفا آخرا يضم آثارا في غاية الأهمية، وقد اعتبرها الفتحة الرئيسية للكهف ويمكن أن تساهم في معرفة كيف استطاع الرجل البدائي الوصول إلى الموقع، الذي يحمل قدسية بالنسبة إليه، كما أن طريقة الدفن التي انتهجها تمت وفق طقوس ومعتقدات المرحلة المذكورة.             
س.ح

الرجوع إلى الأعلى