اليشير.. مدينة الشواء التي لا تنام  تنحني للأطباق التقليدية
استقبلتنا بلدية اليشير وغيوم الدخان تتصاعد من مشاوي مطاعمها، وسط حركية كثيفة بشارعها الرئيسي، وازدحام للمركبات المركونة بالحظائر والساحات المجاورة للمشاوي والمطاعم التي تتراص على طول الشارع المجاور للطريق الوطني رقم 05، فهذه المدينة الواقعة غرب ولاية برج بوعريريج،لا تزال تحتفظ بمكانة بارزة بين المدن الجزائرية، باعتبارها واحدة من بين المدن الشهيرة بمطاعمها وأطباقها، خاصة ما تعلق منها باللحوم والشواء، لدرجة أنها تستقطب كبار السياسيين ومشاهير الفن والرياضة والمسافرين العابرين لمحاور الطرقات الكبرى. بالرغم من افتتاح شطر الطريق السيار العابر بجوار هذه المدينة منذ سنوات، إلا أنها تحافظ على زبائنها القادمين من مختلف ولايات الوطن لتذوق أطباقها، رغم تكبّدهم لمشقة تحويل المسار من الطريق السيار إلى الطريق الوطني رقم 05.
روبورتاج و تصوير: عثمان بوعبدالله
يكتظ الطريق العابر وسط مدينة اليشير بحركة المسافرين، و تتراص مختلف المركبات مشكلة طوابير طويلة بجوار الطريق الوطني رقم 05، ليقصد ركابها المطاعم المنتشرة كالفطريات على طول الطريق، فيما ينتشر عشرات الشبان بجوار الطريق لجلب انتباه المسافرين والمارة والترحيب بهم، و دعوتهم للدخول إلى الساحات المجاورة لمطاعمهم، فلم تعد حرفة الشواء و فتح المطاعم كافية بهذه المدينة التي لا تنام، بل أصحبت بحاجة إلى ترويج و تنويع لتستقطب أكبر عدد من الزبائن.

النصر قصدت المدينة التي لا تزال تصارع من أجل البقاء كأيقونة جزائرية خالصة، متخصصة في خدمات الإطعام و استقبال المسافرين، رغم التغييرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة، على رأسها السيولة الكبيرة لحركة السير على الطريق السيار المحاذي لهذه المدينة، مقارنة بحالة الاكتظاظ و الزحام على الوطني رقم 05 في الجزء العابر بها.
الأطباق التقليدية تزاحم الشواء و تستقطب المسافرين
 إن الانتشار الكبير للمطاعم على طول الطريق، أفرز حالة من التنافس بين أصحابها، حيث لم تعد اليشير مدينة تشتهر بالشواء فقط، بل أصبحت تتنافس على تقديم ألذ الأطباق التقليدية والعصرية، بديكورات تجمع بين الأصالة والمعاصرة، لتوفير الظروف المناسبة لراحة المسافرين و قاصدي هذه المطاعم، فأصبح بإمكانك أن تجد في المحل الواحد، جناحا مخصصا للأطباق التقليدية بديكور تقليدي، يحتفظ بأدق تفاصيل أيام زمان، من الخيمة المنصوبة وسط المحلات، إلى الأدوات المستعملة في النسيج وتقديم المأكولات و المياه و الحليب ومشتقاتها، منها الأواني الفخارية والنحاسية و الأكواب و الصحون المصنوعة من الطين والملاعق الخشبية.
ناهيك عن تهيئة أجنحة أخرى عصرية، تحت شعار «كل شيء موجود» ، حتى الأطباق العصرية، فأصبحت المطاعم توفر مختلف الأطباق وأنواع اللحوم والفواكه، خلافا لما كانت عليه قبل سنوات، أين كان التركيز منصبا على شواء اللحم و تقديم الأطباق العادية.
إن زائر مطاعم اليشير حاليا، لا يكاد يخرج منها دون أن تلبى له جميع طلباته، بما فيها توفير  أنواع و أصناف مختلفة من اللحوم كلحوم الأرانب و السمان و البوزلوف والدجاج البلدي ولحم الماعز، ناهيك عن تنويع الأطباق تقليدية منها، ما هو محلي وأخرى من الولايات المجاورة ، على غرار أطباق الزفيطي و الشخشوخة التي تتميز بها منطقة بوسعادة بولاية المسيلة، فضلا عن الأطباق العصرية الأخرى.
إلى جانب المطاعم العصرية و طاولات الشواء التي تنتشر بكثرة في المدخل الغربي لمدينة اليشير، على طول الشارع الرئيسي، لاحظنا بـأن بعض أصحاب المطاعم، بحكم المنافسة الشديدة، و خوفا من الإفلاس، لجأوا إلى أساليب جديدة أكثر تميزا، كصاحب مطعم خيمة الأصالة الذي اهتدى إلى التركيز على الأطباق التقليدية و اعتماد ديكور تقليدي على شكل خيمة، داخل المطعم و بالفناء، ما جلب إليه اهتمام المسافرين العابرين عبر الوطني رقم 05 ، و خاصة  عشاق الأطباق التقليدية.
أكد لنا مسير المطعم استقبال الخيمة لمواطنين من مختلف ولايات الوطن وحتى من الخارج، ناهيك عن تعود وجوه سياسية بارزة و نجوم الفن والرياضة والإعلام، النزول بالخيمة خلال سفرياتهم، على غرار الفنانين الشاب كادير الجابوني،أمين تي جي في و الشاب خلاص و مقدم برامج المنوعات و الترفيه سفيان داني و اللاعب الدولي ايسعد بورحلي  و اللاعب الدولي السابق عصاد و  سرار عبد الحكيم و غيرهم، بالإضافة إلى الفرق الرياضية وفرق كرة القدم خلال تنقلها بلاعبيها و مسيريها، ناهيك عن المسؤولين والمشاهير الذين يقصدونها خلال تنقلاتهم عبر الطريق الوطني رقم 05.
إيريك.. سائح فرنسي يستهويه طبق «الزفيطي»  و الشيشة

تصادف تواجدنا بالخيمة بقدوم سائح فرنسي مع شاب مغترب، و خلال تحدثنا معهما ، أكد الفرنسي إيريك ديرايسو القادم من منطقة «ماكرون»، حوالي 10 كيلومتر عن ضاحية ليون بفرنسا ، في مهمة عمل بمصنع « أوكزو»، أنه انبهر بجمال الجزائر، التي تتوفر على مناظر و امكانيات سياحية هائلة ، تجمع فيها بين الساحل والصحراء وأجواء الربيع، مشيرا إلى تعوده منذ مجيئه على التنقل لبلدية اليشير لتناول وجبات العشاء، و وقع اختياره على خيمة الأصالة، لأنها تقدم أطباقا تقليدية مختلفة راقته، مثل الزفيطي  الشخشوخة، مضيفا بأن هذه الأطباق صحية و طبيعية، تبتعد في تحضيرها عن المصبرات و المواد الكيمائية،  ناهيك عن مذاقها الرائع، و زيادة على ذلك يوفر الديكور التقليدي للخيمة و الأواني النحاسية وأطباق الطين و الفخار، راحة نفسية وأجواء بديلة عن تلك التي توفرها المطاعم العصرية بفرنسا ، و حتى بالجزائر، مشيدا بحفاوة الاستقبال و إعجابه بالشيشية التي يختتم بها السهرة داخل الخيمة.
و قال مرافقه و هو شاب مغترب، بأنه سمع الكثير عن اليشير وعن اشتهارها بالشواء و مطاعمها، ما جعله يقصدها خلال فترة تواجده بولاية البرج في مهمة عمل، مضيفا بأن أصوله من ولاية البليدة التي تشتهر هي الأخرى بأطباقها التقليدية، غير أنه اكتشف المطبخ التقليدي لولاية البرج والمناطق المجاورة لها، خاصة ما تعلق منها بطبق الزفيطي الذي يبدو في الوهلة الأول أنه من الأطباق الحارة، غير أن تذوق الأكلة  والتعود عليها، يجعلك تتمتع بمذاقها و فوائدها الصحية .
كما وجدنا بالخيمة مجموعة من الشباب : الصالح، سعيد، حليم و غيرهم، و كذا عائلات،  قالوا لنا أنهم اختاروا هذه الخيمة، لأنها توفر لهم ميزة تغيير الأجواء و تبعدهم عن الروتين اليومي، و الجدران الملونة والمساحات المغلقة لتحتضنهم الخيم و الديكور التقليدي، مؤكدين أن الأطباق العصرية لم تعد تستهويهم، خاصة بالنسبة لمستعملي الطرق، لعدم معرفة مكوناتها و استعمال الزيوت ومواد غير صحية في تحضيرها، لكن الأطباق التقليدية يكون فيها صاحب المطعم مجبرا على استعمال المواد الطبيعية للحصول على المذاق المرغوب.
افتتاح شطر الطريق السيار منذ سنوات لم يطفئ نور المدينة
تعتبر مدينة اليشير من المدن الحيوية ليل نهار، حيث يشهد شارعها الرئيسي حركة دؤوب طوال فترات اليوم، و تبقى خدمات المطاعم والمقاهي بها متواصلة، حتى خلال ساعات الليل المتأخرة، ما يجعلها قبلة لأصحاب الحافلات و سيارات الأجرة و سائقي مركبات الوزن الثقيل، القادمين من مختلف ولايات الوطن.
بالرغم من الفوائد العديدة لمشروع الطريق السيار، الذي مكن المسافرين من اختصار الوقت و المسافة من عاصمة الولاية، إلى حمام البيبان دون المرور بمدينة اليشير، في أقل من نصف ساعة، فضلا عن الانخفاض الملفت لحوادث المرور، و وجود صعوبة بالغة لمستعملي الطريق الوطني رقم 05، لاسيما بالشارع الرئيسي لمدينة اليشير المزدحم بحركة المرور، غير أنها لم تفقد حركيتها، وبقيت تحافظ على زوارها من مختلف أرجاء الوطن، حيث ساهم في ذلك اشتهارها بتجارة اللحوم ومطاعمها، خصوصا بعد انتباه أصحاب المطاعم إلى ضرورة التغيير و تحسين الخدمات، بعد مرورهم بفترة عصيبة استمرت لأشهر عقب افتتاح الطريق السيار قبل حوالي 08 سنوات، كادوا فيها أن يرفعوا الراية البيضاء و الاستسلام للأمر الواقع، بعد تدني مداخليهم، التي بقيت لا تغطي حجم المصاريف ، حسبهم لعدة أشهر، و تعتمد في خدماتها على زبائنها من داخل الولاية فقط.
حنين و علاقة حميمية تربط المسافرين و النجوم بمطاعم اليشير

هذه الوضعية لم تدم طويلا، حيث عاد الوهج لمدينة اليشير، بعودة الناقلين والمسافرين بالحافلات والزبائن الأوفياء من مستعملي الطريق، وهو ما لمسناه في حديثنا مع البعض منهم ،خاصة لدى العائلات وبعض العمال الذين ينحدر معظمهم من ولايات الشرق والعاصمة، المتعودين على السفر في كل أسبوع، حيث أكدوا على وجود علاقة حميمية تربطهم بهذه المدينة الصغيرة، و ذكريات تعود إلى سنوات لا يمكن فيها لمسافة قصيرة، أن تحرمهم من استحضارها، فضلا عن الخدمات المقدمة التي يستحسنها الكثير من الزوار، خصوصا من العائلات،  وهو ما لفت انتباهنا بالقرب من المطاعم الواقعة في المخرج الغربي لبلدية اليشير التي تزين واجهاتها بصور لنجوم الرياضة الذين قصدوها، على غرار المدرب الوطني السابق رابح سعدان و ثعلب المساحات اللاعب ايسعد بورحلي و الممثل الشهير عثمان عريوات، و وجوه فنية ورياضية كثيرة.
وأوضح أحد الزوار و هو من الجزائر العاصمة، كان مرفوقا بأفراد عائلته على متن مركبته الخاصة، بأنه تعود على دخول  بلدية الياشير عبر المحول القريب، للاستمتاع بالوجبات المقدمة في مطاعمها، خصوصا الشواء، إلى جانب أخذ قسطا من الراحة مع أولاده و أفراد عائلته، معتبرا أن  فتح الطريق السيار، زاد من تعلقه بهذه المطاعم، كون حركة السير أصبحت أكثر سهولة مما ساعد على تجنب شلل الحركة و الازدحام، و كذا اختصار الوقت بحوالي ثلاث ساعات كاملة، مقارنة بما كانت عليه، ما يعطيه أريحية في أخذ قسط من الراحة بالمطعم مع أفراد عائلته، قبل مواصلتهم الرحلة، كما يمنحه المكان فرصة لاستعادة أرشيف الذاكرة ، ليروي لأولاده وأفراد عائلته ذكريات نزوله بهذه المطاعم مع والديه وأصدقائه .
غادرنا بلدية اليشير في ساعة متأخرة من الليل وحركة المرور لا تزال تملأ شوارعها، و كأنها تبعث برسالة تتحدى فيها متغيرات الزمن، بأنها ستبقى ولا تزال وفية لتقاليدها، و ثرية  بخدماتها ومطاعمها للمسافرين وزوارها الأوفياء،  ممن تجمعهم بها ذكريات الصبا و سفريات العمر التي لا تنتهي و لا تحلو، إلا بالمرور بشارعها الرئيسي وتذوق أطباقها الشهيرة ومغادرتها جسدا، دون التفريط في رائحة شوائها، و تخليد ذكريات مرت عليها عقود و سنين.      
ع/ب

الرجوع إلى الأعلى