مدينة علي منجلي تتحوّل إلى عيادة مفتوحة
تسجل المدينة الجديدة علي منجلي بقسنطينة، خلال السنوات الأخيرة، انتشارا غير مسبوق لعيادات الأطباء الخواص في جميع التخصصات و حتى من خارج الولاية، فضلا عن مخابر التحاليل الطبية، في ظاهرة جديدة قد تخل بالخريطة الصحية لشرق البلاد عامة وقسنطينة خاصة، بحسب ما يؤكده مختصون، فيما يرى آخرون بأن هذا التوجه قد يخفف الضغط عن المرافق العمومية التي أضحت غير قادرة على استيعاب المرضى، وهو السبب الرئيسي في «نزيف حاد» للكفاءات، وزحفها إلى القطاع الخاص.
روبورتاج: لقمان قوادري
قبل 7 سنوات فقط يذكر سكان المدينة الجديدة، بأنه كان من النادر أن تجد طبيبا عاما أو مختصا، حيث كان عددهم يعد على أصابع اليد الواحدة، لكن سرعان ما انتشرت العيادات الطبية كالفطريات بعد التحولات العمرانية السريعة التي عرفتها علي منجلي، حيث أغلق العديد من الأطباء عياداتهم بوسط مدينة قسنطينة وحتى الخروب وولايات مجاورة، وقصدوا «مدينة المستقبل» التي يتجاوز عدد سكانها ربع مليون نسمة قصد تعويض الفراغ الصحي بهذا التجمع الضخم، الذي يفتقر إلى المرافق الصحية العمومية.
15 مختصا في أمراض النساء مقابل صفر في المؤسسات العمومية!
و أصبحت المدينة اليوم تتوفر على عدد معتبر من الأطباء الأخصائيين الذين قلما ما تجدهم في المؤسسات العمومية، فأينما تولي وجهك يقابلك مختص في أمراض النساء والتوليد في ولاية تعرف أزمة خانقة في عياداتها العمومية ولا يتجاوز عدد المختصين بها سقف العشرين عبر مختلف البلديات، فيما تتوفر علي منجلي لوحدها على أزيد من 15 مختصا، مقابل انعدامهم في المؤسسات العمومية بالمدينة، وهو ما يطرح علامة استفهام حول نزيف الكفاءات من القطاع العام باتجاه القطاع الخاص.
وما يلاحظ أيضا ، وعبر مختلف الأحياء بالوحدات الجوارية، هو الإنزال الكبير وتزايد عدد العيادات من شهر إلى آخر ، فكثيرا ما تجد بالمدينة إعلانا معلقا بداخل مخابر التحليل أو الصيدليات وحتى المحلات العادية، عن فتح عيادة طبية جديدة، حيث أصبحت المدينة مقصدا أولا للمرضى ومن مختلف ولايات الشرق الجزائري لاسيما في تخصصات أمراض القلب و الشرايين و الحساسية و الطب الداخلي و الأعصاب ، فضلا عن الأمراض الجلدية و جراحة العظام ، و الكلى المسالك البولية، وكذلك طب الأطفال و طب العيون، و الأمراض النفسية والعصبية  و جراحة الأسنان و  غيرها من المجالات.
مطالب باستحداث أحياء طبية
والتقت النصر بأحد الأطباء الأخصائيين، الذي يمتلك عيادة صغيرة تتكون من ثلاث غرف بالوحدة الجوارية 5، حيث ذكر بأنه اشتغل لسنوات بمستشفى عمومي قبل أن يقرر العمل لوحده، و قد صادفته في البداية عراقيل ميدانية كبيرة لاسيما فيما يتعلق بالاعتماد، كما قال بأنه قدم طلبا للحصول على قطعة أرضية لتجسيد عيادة بمعايير جيدة، غير أنه لم يتمكن من الحصول على مطلبه، حيث يرى بأنه لابد من تنظيم عمل الأخصائيين، من خلال إنشاء أحياء طبية بمواصفات صحية محترمة، والتي تسهل التنسيق مع السلطات و مسيري العيادات وبالتالي تحقق مبدأ التكامل بين القطاعين.
وأشار المتحدث، إلى أنه و في دولة تونس المجاورة على سبيل المثال، خصصت ترقيات عقارية بأكملها للأطباء ، وتم إنشاء نظام رقمي لتبادل المعلومات فيما بينهم من جهة ومع السلطات والوكالات السياحية من جهة أخرى، وهو ما ساهم في إنشاء ما يسمى بالسياحة الطبية، التي قال بأنها امتصت كثيرا البطالة وحسنت من نوعية الخدمات بسبب المنافسة، الأمر الذي استقطب المرضى الجزائريين الذي باتوا يفضلون العلاج بتونس على العلاج لدى الأخصائيين من أبناء بلدهم الذين يمتلكون كفاءة ومهارة جيدة ، لكنها لا تظهر بسبب الفوضى التي قال إنها مسجلة في هذا القطاع، كما لفت إلى أن الأمر تطور بالدولة المجاورة إلى إنشاء عيادات خاصة في مجال الاستعجالات الجراحية للتكفل  بالحالات الطارئة التي تحتاج إلى غرف عمليات متطورة، و طواقم طبية متكاملة.
أما طبيبة مختصة أخرى ، فترى بأن المختص لا يتوفر على الإمكانيات في بداية مشواره ويكتفي بفتح عيادة في شقة داخل عمارة، حيث تكون ظروف العمل بها لائقة ومطابقة للمعايير المعمول بها، فهي تتوفر على قاعتين للإنتظار واحدة للرجال وأخرى للنساء، فضلا عن غرفة الفحص ومختلف التجهيزات الضرورية لأمن وصحة المرضى.

«هروب جماعي»  من القطاع العام
ويشير مسير مؤسسة صحية عمومية بقسنطينة، إلى أن غالبية المرضى يتوجهون بقوة نحو العيادات الخاصة بسبب الضغط الكبير على المؤسسات الإستشفائية العمومية التي تعاني من هروب للكفاءات المتخصصة، وحتى الأطباء العامين، رغم المحاولات المبذولة من طرف الدولة لتوفير الظروف الملائمة لهم قصد تشجيعهم على البقاء بقطاع الصحة العمومية.
و أضاف المسؤول أن نزيف الأخصائيين في تزايد مستمر و السبب ، بحسبه، مادي محض، فعلى سبيل المثال فإن مختصا في التوليد يبدأ مشواره بأجر يقدر بستة ملايين سنتيم، وهو مبلغ، مثلما أكد ، لا يليق به، فهو يشرف على فحص الحوامل ومتابعة حالاتهن فضلا عن إجراء العمليات الجراحية، في الوقت الذي يتحصل على هذا الأجر عند فتحه لعيادة خاصة في يومين فقط أو في ليلة عند إجرائه لعملية قيصرية واحدة بعيادة خاصة.
ويؤكد محدثنا، بأن الكثير من أطباء القلب الأمراض الداخلية و العظام و التوليد وغيرها، غادروا المستشفيات العمومية المحلية ، و استقروا بعيادات خاصة بالمدينة الجديدة علي منجلي، التي تعد أرضا خصبة ومن شأنها أن تتحول إلى قطب صحي مكمل للقطاع العام في حال تم التخطيط للأمر.
وعلى عكس ما كان متوقعا فقد أكد ذات المصدر بأنه لم يسجل أي تراجع للضغط على مستشفيات قسنطينة العمومية، و أرجع الأمر إلى غياب تنسيق وسياسة فعالة في هذا المجال، مشيرا إلى أنه وفي حال استمرار هذا النزيف فإن الخريطة الصحية للشرق الجزائري، ستختل وستتصحر طبيا العديد من المناطق، حيث ذكر بأنه من غير المعقول أن لا تتوفر ولاية كخنشلة على طبيب قلب واحد، في حين أن علي منجلي يوجد بها قرابة 10 أخصائيين.
طوابير سيارات أمام «أطباء نجوم»
وما يلاحظ بعلي منجلي، العشوائية في توزيع الأطباء وهو ما خلق فوضى كبيرة بالمدينة، كما  سبق وأن قامت السلطات بإطلاق حملة لإزالة اللافتات التوجيهية العشوائية لكنها عادت تدريجيا إلى الظهور مؤخرا، كما لجأ العديد منهم إلى الكتابة على الجدران لتوجيه المرضى، فلطالما تجد مكتوبا على جدار عمارة عبارة “طبيب أخصائي» على بعد 150 مترا أو في العمارة المقابلة أو الخلفية، في مظاهر قدمت صورة سلبية عن هذه المهنة.
وقد تحول العديد من الأطباء إلى نجوم يقصدهم المرضى من مختلف الولايات، إلى درجة أن شركة خاصة لسيارات الأجرة “راديو”، تضع أزيد من 10 سيارات يوميا أمام العيادة طيلة فترات اليوم، وهو وضع وقفنا عليه، أما البعض من الأطباء فقد اختاروا مواقع معروفة بحركيتها على غرار الوحدة الجوارية 2 بالقرب من مركز تجاري، بينما يفضل آخرون التموقع أمام مخابر التحاليل.كما وقفنا أيضا على وجود العديد من الأطباء الذين كانوا يمتلكون عيادات في ولايات مجاورة على غرار أم البواقي وميلة، حيث ذكر لنا أحد المرضى من عين مليلة، بأنه اضطر إلى اللحاق بطبيبة لكونها مطلعة على حالته الصحية منذ أزيد من خمس سنوات، في حين وجدنا بالعديد من الأحياء بأن عدة دكاترة من تخصص واحد يتمركزون في محيط ضيق جدا أو في عمارتين متجاورتين.
إنزال يرفع أسعار العقار
وذكر أحد الأطباء بأنه استأجر شقته المتكونة من ثلاث غرف، والتي تقع بالطابق الأول، بثلاثة ملايين سنتيم ونصف للشهر مع اشتراط دفع 5 سنوات مسبقا، وهو ما ساهم في ارتفاع أسعار العقار، ومن النادر أن تجد شقة في الطابق الأول معروضة للكراء، حيث أفاد صاحب وكالة عقارية بأن غالبية الملاك يعرضون سكناتهم للإيجار بشرط أن تؤجر إلى طبيب أو لأعمال حرة، طلبا للربح، كما يفرضون أسعار مبالغ فيها، حيث أشار إلى أن شقة متكونة من أربع غرف وفي موقع جيد تم كراؤها لجراح أسنان بخمسة ملايين سنتيم، كما أكد أيضا بأن العديد من العائلات أجرت شققها المتواجدة في مواقع جيدة وانتقلت إلى العيش إلى أخرى لكسب مداخيل مالية إضافية.

عضو المجلس الجهوي لأخلاقيات مهنة الطب عمر بوشاقور
يجب التنسيق بين القطاعين العام و الخاص بالمدينة
أفاد عضو المجلس الجهوي لأخلاقيات مهنة الطب بقسنطينة، الدكتور عمر بوشاقور، بأن تزايد عدد العيادات الخاصة بعلي منجلي، لن يؤثر على توزيع الخريطة الصحية، بل جاء هذا التوجه تماشيا مع النمو الديمغرافي الكبير، الذي تعرفه مدينة سيصل عدد سكانها إلى 400 ألف نسمة، ولهذا فإن فتح العيادات الخاصة، كما قال، من شأنه أن يلبي احتياجات سكان المنطقة، لكن الأمر سيؤثر على القطاع العام الذي يعرف تدهورا كبيرا خلال السنوات الأخيرة، من حيث المجالس الطبية التي لا تتوفر الآن على أية صلاحيات، أو من حيث الوسائل والتجهيزات فضلا عن ما وصفه بالتسيير البيروقراطي.
ويرى المتحدث، بأنه على الإدارة المركزية أن تعيد النظر في المنظومة الصحية، وفي حال استمرار الوضع القائم، فإن المستشفيات العمومية ستسجل مزيدا من النزيف في الكوادر والأخصائيين، باستثناء بعض الإختصاصات القاعدية على غرار الإنعاش وأمراض الدم والتشريح، مشيرا إلى أن الخواص دائما يطرحون سؤالا «ما جدوى بقائنا في القطاع العمومي دون وسائل؟»، وهو ما يدفعهم إلى خوض تجربة القطاع الخاص أملا في تقديم خدمات أفضل.
وأكد المتحدث بأن قوانين الخريطة الصحية تنص على أن يكون القطاع الخاص مكملا للعمومي، لكن نقص الخدمات والتجهيزات به أخل بالوضع، مشيرا إلى أنه كان من المفروض أن تتوفر المناطق التي توجد بها مستشفيات جامعية، على اختصاصات متعدد والعلاج بها ممتاز، وهو ما لم يتم.
أما من ناحية القوانين وأخلاقيات المهنة، فإنها بحسب الدكتور بوشاقور، لا تحدد عدد الأطباء بكل منطقة مقارنة بعدد السكان، غير أن المجلس يمنع أن يفتح طبيبان من نفس الإختصاص في عمارة واحدة، إلا بعد تفاهم الطرفين، لكن في نفس الحي، فهو أمر مسموح به.
 وبالنسبة للمطابقة، قال الدكتور بوشاقور بأن مديرية الصحة هي المسؤولة عن منح الإعتماد لكن المجلس يفرض على الأطباء أن تكون العيادة في الطابق الأرضي وفي أقصى الأحوال في الأول، مع توفير غرف انتظار للجنسين وقاعة فحص مستقلة، ليبقى الأساس، بحسبه، هو تقديم خدمات جيدة للمريض، مع وجود تنسيق بين العيادات الخاصة والقطاع العام، وفي حال لم يتم هذا الأمر فإن القطاعين سيفشلان في أداء مهامهما وهو ما حاصل حاليا، إذ لا يوجد أي تنسيق بين مديريات الصحة ووصل الأمر إلى درجة أن  الأطباء لا يعلمون بندرة أدوية في السوق أو  أي قرارات تصدر من الوزارة إلا من خلال وسائل الإعلام.
ل.ق

الرجوع إلى الأعلى