دبي تحجــب الوجـه الحقيقي لمدينــة العلمــــة

يَجهل أغلب زوار مدينة العلمة الوجه القديم المختفي خلف أحد شوارعها، الذي تحول خلال عقدين من الزمن إلى سوق وطنية مفتوحة للاتجار في مختلف السلع ويقصدها مواطنون من مختلف الولايات، كما غيّر من ملامح المكان وفتح الباب أمام المئات من الأشخاص لتكوين ثروات طائلة وقضى على البطالة، لكنه يشكل في نفس الوقت نقمة على الكثيرين، بعد أن صار مصدرا لغلاء المعيشة ودفع بعدد كبير من السكان إلى البحث عن بديل للتسوق في أماكن أخرى. ويرفض سكان العلمة أيضا أن توصف مدينتهم بالسوق، حيث يحاولون إبراز وجهها الثقافي ومدنيتها، ودورها التاريخي في الثورة والحركة الوطنية وبعد الاستقلال، فضلا عن أصل النشاط التجاري فيها، قبل أن تأخذ شكلا مفرطا في التوسُّع، عنوانه البيع والشراء.
روبورتاج: سامي حباطي
ميزابيُّو شارع «السلام عليكم» أصلُ التجارة في العلمة
ويُؤكِّد السكان القدماء للعَلْمَة بأن الأصل الحقيقي لنشاط التجارة في المدينة يعود إلى الحيّ الذي يقطنه بنو ميزاب وتوجد فيه محلاتهم وأنشطتهم، وهو يشكل مربعا كبيرا من البنايات القديمة المُنْجزة أسقفها بالقِرميد. وكان يُسَمّى في الفترة الاستعمارية بحي التجارة، ثم تحول بعد الاستقلال إلى شارع بشير قَصّاب، إلا أن العَلْمِيِّين يفضلون اليوم تسميته بشارع «السّلام عليكم»، لأن المارَّ غالبا ما يسمع السكان يحيّون بعضهم بهذه التحية في هذا الشارع.
وقادنا مرشدانا رئيس جمعية عين تافتيكا الأشرف بوقارش ونائبُه عبد الكريم بشطوطي عبر الحيّ، حيث التقينا بمجموعة من التجار رحّبوا بنا واستقبلونا بحفاوة داخل متاجرهم، التي تراجعت فيها حركية الزبائن بشكل كبير بحسب ما أخبرونا به. وأوضح لنا أحد قدماء التجار والسكان بمدينة العلمة، ويدعى ناصر، بأنه عاش طيلة حياته بالمدينة، كما أن جدّه كان أول من قدِم إليها من عائلته في بدايات القرن العشرين، مشيرا إلى أن منازلهم كانت أماكنَ لاختباء المجاهدين وتوفير المَؤُونَة لهم.
وتمثل مستلزمات الأعراس والطرز والخياطة والملابس النسائيةُ وملابس الأطفال وبدلات الختان، السلعة الغالبة على محلات الميزابيين في المدينة القديمة بالعلمة، حيث أوضح لنا التجار بأن المواطنين يقصدونهم من كل مكان للحصول عليها، لأنهم ما زالوا ينفردون بتوفير ما يندُر منها في السوق، في حين لم ينف بعض منهم تأثر نشاطهم بسبب الأسواق الجديدة في المدينة وعلى رأسها سوق دبي.
ويوجد في نفس حي بني ميزاب المسجدُ الإباضيُّ، تحاذيه الحارة، حيث دخلنا إليها عبر درب ضيّق لنجد أمامنا ساحة تتوسط طابقين اثنين من المحلات المتخصصة في التصليح والخياطة وبعض الأنشطة الأخرى، كما رأينا شيوخا بملابس تقليدية في المكان الذي يعتبر من أقدم البنايات في المدينة.
وقال مرشدانا إنه توجد أيضا منازلُ فوق المحلات على الجهة المقابلة للطريق، فيما نبها لوجود أحياء أخرى يقطنها بنو ميزاب ويملكون فيها مجموعة أُخرى من المنازل المتجاورة ومعها المحلّات التجارية، لكنّها جميعا في قلب المدينة. وأرانا مرشدانا متْجرينِ مغلقين أكدا لنا بأن ملكيتهما تعود للشيخ إبراهيم بيوض عضو جمعية العلماء المسلمين.
ويوجد في إحدى زوايا الشارع مقهى يسميه السكان «قهوة الزعتر»، حيث تفوح منه رائحة نبات الزعتر، كما أن صاحبه متخصص في صناعة هذا المشروب وغالبا ما يقصده السكان وحتى المسافرون من أجل تناوله. والتقينا في المقهى المُخرج المُتخصص في سينما الهوّاة أحمد زير، حيث كان جالسا مع مجموعة من جيرانه من أبناء المدينة، وأخبرنا بأن هذا المقهى هو الأقدم في المدينة ويصل عمره إلى ما يقارب القرن.
أشجار التوت تحف طرقات المدينة
وتتميّز طرقات مدينة العلمة القديمة باتساعها وتصالُبِها، حيث توجد على مدّ البَصَرِ أشجار التوت على كلا جانبيها لكن كثيرا منها تم قطعها واستبدالُها، أخبرنا السكان بأن عمرها يعود إلى العهد الاستعماري، مشيرين إلى أنها كانت تدعى في السابق بمدينة التوت، لكن التسمية العُرفِيّة الأولى لها كانت عين تافتيكا، نسبة إلى منبع طبيعي سُمِّي تافتيكا، لكن الفرنسيين قاموا بردمه بعد ذلك، وأطلقوا على المدينة تسمية بلدية العلمة، ثم اسم سانت آرنو، قبل أن تستعيد اسم العلمة بعد الاستقلال. وأشار رئيس جمعية عين تافتيكا ونائبه إلى أن تسمية العلمة لا ترجع إلى الشيخ منصور العلمي مثلما هو شائع، لأن هذا الشخص قدم من بجاية، في حين كانت توجد مجموعة من المساجد القديمة تسمى بجوامع العلماء، وهي المكان المرجح بشكل أكبر أن أصل التسمية يرجع إليها، خصوصا وأن الفرنسيين كانوا يستعملونها في صيغة الجمع.
ويغلب الطابع العمراني الكولونيالي على المنازل القديمة في العلمة، حيث يبرز مقابل مقهى الزعتر فندق استعماري قديم، ما زالت على واجهته آثار كتابة «فندق العلمة» ولا يمكن رؤيتها بشكل جيد إلا عند هطول الأمطار، لكنه اليوم بناية مهجورة من طابقين. واستأنفنا طريقنا في المدينة، حيث مررنا بثانوية يطلق عليها السكان منذ العهد الاستعماري اسم «المدرسة الزرقاء»، نسبة إلى نوعية الحجارة التي بنيت بها، في حين أنجز مجمع مدرسي، يقع جزء منه فوق موقع عين تافتيكا، ويطالب السكان بوضع لافتة تدل عليها في المكان. أما خلف المُجَمّع الواقع بشارع الحرية فتوجد واجهة المدرسة الفرنسية القديمة –المسماة سانت آرنو سابقا- تحمل كتابة «مدرسة للبنات. مدرسة للذكور» باللغة الفرنسية، كما تقع مقابلها ساحة السوق القديمة.

مطالب بإطلاق اسم محمد بلموفق على المسرح الجهوي
ويتربع مسرح العلمة الجهوي على إحدى زوايا الساحة اليوم، بعد أن اقتطع الفرنسيون جزء من السوق القديمة –التي كانت في نفس الساحة- لإنجازه. ورأينا الكثير من الصور المعلقة داخل المسرح عند دخولنا إليه، كما تصادف وجودنا مع فرقة مسرحية تقوم بأداء التدريبات على الركح، في حين جرت عمليّة ترميم للبناء الذي شُيِّد في سنة 1934 على النمط الأوروبي، الذي يتجلى في كل زاوية منه، وخصوصا في الشرفات العالية الموجودة في قاعة الحفلات.
وطرحت جمعية عين تافتيكا ومجموعة من الفاعلين في المجال الثقافي بالمدينة عدة مرات مطالب بإطلاق اسم الشيخ محمد بلموفق على المسرح الجهوي للمدينة، الذي تحول خلال مرحلة الثورة التحريرية إلى مركز لتعذيب المجاهدين. وقد لاحظنا صور الشيخ في بهو المسرح بالإضافة إلى مجموعة أخرى من المُمثّلين والفنانين الذين مروا بالمكان. وأفاد رئيس جمعية تافتيكا بأن محمد بلموفق قدِم من مدينة قسنطينة إلى العلمة ليشغل منصب «باش عدل» خلال الفترة الفرنسية، لكنه كان عنصرا فاعلا في الحركة الوطنية وقام بعدة نشاطات، من بينها تأسيس أول فرقة مسرحية وتأسيس مجموعة موسيقية، وتنظيم العديد من التظاهرات، ما أزعج السلطات الاستعمارية وجعلها تقوم بطرده من المدينة.
وقامت جمعية عين تافتيكا بتوثيق وجمع الكثير من الروايات حوله، من كبار السن والأشخاص الذين يتذكروه، حيث اعتبروا بأن أفضل تكريم لروحه سيكون بإطلاق اسمه على المسرح الجهوي، الذي يحتضن العديد من الأعمال المسرحية المُعَدَّةِ بولايات أخرى.
وقادنا مرشدانا بعد المسرح إلى متوسطة إحياء العلوم الإسلامية المجاورة للمسجد العتيق، حيث كانت في السَّابق مدرسة ابتدائية، ما تزال بنايتها القديمة موجودة فيما أُلحِقَ بها جزءٌ جديدٌ، لكن مُحَدِّثَيْنا أكّدا بأن الشيخ بلموفق المولود عام 1889 بقسنطينة هو من قام بتأسيسها عام 1919 وكوَّن فيها أول فرقة موسيقية ومسرحية إلى أن غادر المدينة في سنة 1935. وقد ورد في اللوح التذكاري الذي أنجز تكريما له بأن مجلة الشهاب كتبت عنه في عام 1929، حيث توفي الرجل في السادس من مارس من عام 1979 بمدينة قالمة.
أما مقابل مدرسة إحياء العلوم فتوجد نقطة تجميع الحبوب، التي كانت مستعملة منذ  العهد الاستعماري، حيث روى لنا نائب رئيس الجمعية عبد الكريم بشطوطي، بأنه ما زال يتذكّر إلى اليوم سنوات دراسته الابتدائية في المدرسة خلال الثّورة، أين كانوا ينشدون النشيد الوطني الجزائري صباحا قبل الدخول إلى قاعة التدريس، لكن زوجين فرنسيين كانا يقطنان مقابل البناية، وما إن يظهر أحدهما في النافذة حتى يتوقف التلاميذ ويغيروا النشيد لكي لا يُكتشف أمرهم.
مسعود زقار ومحمد لمين دباغين رمزا العلمة
وخلال تجوالنا بشوارع المدينة توقفنا بمقهى، أخبرنا السكان بأن صاحبه من كبار محبي بطل الثورة الجزائرية، مسعود زقار، حيث وجدنا بأن جدران محله قد زُيّنت جميعها بصوره في المدينة وخارجها، بالإضافة إلى صور قادة آخرين للثورة الجزائرية، على غرار محمد لمين دباغين. وأكد لنا صاحب المقهى بأن مسعود زقار ولمين دباغين يعتبران رمزا للمدينة، وهما من أبنائها، لأن الأول ولد فيها والثاني عاش فيها فترة طويلة.
ومررنا في الشارع بالمسجد الذي قام ببنائه المرحوم مسعود زقار لفائدة سكان المدينة، حيث شُيّد على النمط النيومورسكي، على غرار القصر الذي بناه لوالدته غير بعيد عن المسجد، حيث يشُدّ انتباه من يمر بالمكان. وشدد مرافقانا على أن مدينة العلمة كانت حاضنة للحركة الوطنية قبل اندلاع الثورة، حيث أريانا إحدى المنازل التي زارها العديد من قادة الثورة على غرار حسين آيت أحمد ومحمد بوضياف، مُشيرَيْن إلى أن نفس المنزل كان مهدا لميلاد الحركة الكشْفية بالمدينة وهو يقع غير بعيد عن المسجد العتيق.
أما السجن المدني، الذي اقتادت إليه فرنسا الاستعمارية الكثير من المجاهدين الجزائريين وسكان العلمة المقاومين فقد تحول اليوم إلى سكن يشغله أحد المواطنين، ولم نتمكن من الإطلاع عليه لأنه محاط بسور كبير، في حين توجد مقابله دار الطفولة المُسعفة التي كانت في الماضي عبارة عن قصر لأحد الإقطاعيين الاستعماريين يدعى شارل قيرو، حيث ما زال الحرفان الأولان من اسمه ولقبه يَسِمان البوّابة الحديدية الخلفية للمركز. وتعرف الكثير من البنايات القديمة تدهورا لواجهاتها الخارجية وشكلها العام.
السعيد قوطالي.. فلاح تحدى عنصرية فرنسا بفتح سينما  
ولا يوحي مظهر سينما الأطلس اليوم، بقصة النضال الكبيرة التي تخفيها خلفها، حيث لا يعلمها إلا سكان المدينة. وقد وقفنا أمامها ووجدناها مغلقة، كما تظهر آثار تدهور على بوابتها، فضلا عن تكدُّس الغبار والأتربة على أرضيتها، في حين ما زال شُبَّاكُ التذاكر موجودا لكنه مغلق بخشبة. وأخبرنا رئيس جمعية تافتيكا ونائبه بأن تاريخ إنشاء هذه البناية يعود إلى سنة 1950، بعدما منع المستعمرون الجزائريين من الدخول إلى السينما خلال يومي العطلة الأسبوعية، ما جعل الفلاح المدعو السعيد قوطالي يثور ويقرر بناء سينما خاصة بالجزائريين، حيث قام بإنجاز البناية كاملة في قلب المدينة، ثم توجه إلى مصالح البلدية آنذاك، لكن العمدة رفض منحه الرخصة، فلجأ إلى معارفه حتى وصل إلى حاكم قسنطينة.
لكن العراقيل لم تتوقف أمام الرجل، حيث توجه إلى شركة في الجزائر العاصمة من أجل اقتناء شاشة سينمائية ضخمة، لكنهم امتنعوا عن بيعها له لكون عدد السكان في العلمة قليل، لكنه أصرّ على الأمر، فوجهوه إلى مديرهم العام، حيث اضطرّ إلى التنقل إلى غاية باريس بحثا عنه من أجل شراء الشاشة، وفي النهاية تمكن من الوصول إليه واقتناء الشاشة، لكن المُدير تمسّك برفض بيعه شاشة ضخمة، فهي لم تكن موجودة حينها إلا في الجزائر العاصمة وعنّابة. وتمكن السعيد قوطالي من إقناعه بالقبول بعد أن دفع ما يقارب نصف مليون فرنك فرنسي، وقد كان مبلغا ضخما آنذاك.

وأغلقت السينما أبوابها منذ حوالي عشرين سنة، في حين أكد محدثانا بأن أصحاب دور سينما فرنسيين آنذاك جاؤوا لمقابلة الرجل ومعرفة صاحب السينما الضخمة في مدينة صغيرة، حيث تفاجأوا عندما وجدوه في الحقل يقوم بأعمال الزراعة. وقد توفي السعيد قوطالي قبل ثلاث سنوات بحسب السكان، حيث شددت نفس المصادر على أنه كان صاحب دور كبير في الحركة الإصلاحية والسياسية بمدينة العلمة، فقد حُكم عليه من طرف المستعمرين بالإعدام خلال الثورة انتقاما من لجوئه إلى حاكم قسنطينة في قضية السينما، ففر إلى تونس وفتح فيها مقهى، اشتَهر بتحويل الفرنك الفرنسي إلى الدينار التونسي وسمي بمقهى دينار، ثم تحول إلى مركز لقاءات للثوار الجزائريين، ليعود بعد الاستقلال ويقوم بفتح مقهى في الجزائر العاصمة حمل نفس الاسم.
دبي والإمارات وهونغ كونغ في مدينة سانت آرنو
وتبدأُ بنايات مدينة العلمة المشيّدة ما بعد الاستقلال من أحياء العمارات والبنايات التساهمية، حيث يطلق عليها السكان اسم «التساهمي»، لكن أعدادها لم تصل إلى النسبة الهائلة من البنايات الفردية الأخرى والترقيات العقارية التي انتشرت خلال العقدين الأخيرين، وأصبحت مدينة قائمة بذاتها، يتطلب سبر أغوارها أياما كاملة، حيث تمثل سوقا مفتوحة من المحلات والمراكز التجارية التي يعرض أصحابها مختلف أنواع السلع والخدمات.
وأخبرنا أعضاء جمعية عين تافتيكا، بأن سكان العلمة يطلقون اسم الشارع على ما يعرف لدى زوار المدينة باسم دبي، حيث يعود إلى أواخر سنوات التسعينيات، عندما أنشأت شركة «جيني سيدار» أول تحصيص بالمكان، وقد غير كثير من المستفيدين منه آنذاك رأيَهم وتنازلوا عن قطعهم الأرضية بسبب انعزال الموقع وبُعده عن المدينة، في حين انطلقت التجارة بحسب محدثينا بالشاحنات التي كانت تستورد السلع من تونس ومصر وليبيا وتقوم بعرضها في المكان، فيأتي الزبائن من المناطق المجاورة لشرائها بالجملة أو التجزئة. وأضاف محدثونا بأن التجار والمُسْتثمرِين من مختلف المناطق، وخصوصا من ولاية المسيلة، أخذوا يقصدون دبي ويشترون الأراضي ليُشيّدوا عليها بنايات كبيرة مُخصّصة للتجارة والسكن معا، ما جعل النشاط التجاري يزدهر بسرعة وحول العلمة إلى سوق وطنية.
بَلغْنا المكان المسمى دبي، حيث أوضح لنا أبناء العلمة بأنه الوجه الثاني للمدينة، وهو يختلف بشكل كلي عن وجها القديم، وقد لاحظنا فيه أن مئات المحلات تجاور بعضها وتعرض نفس النوعية من السلع في كل صف، على غرار محلات الأواني والملابس والهواتف النقالة والأجهزة الكهرومنزلية. واتخذت مختلف الماركات والشركات المصنعة للمنتجات الكهرومنزلية نقاط بيع خاصة بها على مستوى شارع دبي في العلمة.
وبحسب ما علمناه من السكان والتجار، فإن المكان مقسم إلى كل من سوق دبي وهونغ كونغ والإمارات، حيث يستندون في تقسيمهم إلى مصادر السلع المعروضة، لكن مع تراجع الاستيراد، بقيت تسمية دبي هي الغالبة على المكان، حتى أنها لتكاد تنسي تسمية العلمة بحسب السكان، الذين أكدوا بأن الوافدين عليهم قليلا ما يعرجون على مدينة العلمة، بالقدر الذي يتواجدون فيه في شارع دبي.
«قرية الليل» وقصص الأثرياء الجدد
كما يتداول السكان قصصا لأشخاص يعرفونهم انتقلوا من الفقر التام إلى الثراء الفاحش بفضل شارع دبي، حيث رَوُوا لنا قصة أحدهم ورث عن عائلته قطعة أرض في الشارع عندما كان خاليا، فشعر بالحزن وظنّ الجميع بأن ميراثه لم يعد عليه بشيء في النهاية، لكنه تحول اليوم إلى ملياردير يملك 27 محلا، يقوم بكرائها بمبالغ لا تقل عن 10 ملايين في الشهر للواحد منها، في حين أكدوا لنا بأنه توجد العديد من البنايات أُنجزت بشكل فوضوي واستفاد كثير من أصحابها من التسوية، على غرار قرية تدعى بـ»قرية الليل»، لأن بناياتها أنجزت بشكل غير شرعي خلال الليل.
ويشكّل أبناء العلمة النشطون بسوق دبي حوالي عشرين بالمائة فقط، مقابل غالبية قادمة من ولايات ومناطق مختلفة، بحسب ما أكدوه لنا، في حين لاحظنا بأن بعض الرجال يرتدون زيا إماراتيا فضلا عن نساء يرتدون النقاب الخليجي، حيث ظننا بأنهم أجانب، لكن التجار الذين حدثونا أكدوا لنا بأنهم جزائريون تأثروا بالثقافة الخليجية لأن العديد منهم مكثوا هناك لبضع سنوات، كما أن منهم من يملك عقارات ومنازل فيها.
كما تنتشر التجارة الفوضوية أيضا بشارع دبي، فأصحاب الطاولات يحتلون قوارع الطرقات ويعرضون سلعا تغلب عليها البضائع الخفيفة، مثل العطور وقطع الديكور الخفيفة والملابس، في حين وجد بعض الشباب وحتى كبار السن عملا مربحا، من خلال دفع عربات ينقلون بها السلع من مكان لآخر لفائدة أصحاب المحلات والزبائن، حيث تَدرُّ عليهم مبالغ مالية لا بأس بها تتجاوز خمسة آلاف دينار في اليوم الواحد، وقد أكد لنا السكان بأن نسبة البطالة شبه منعدمة في مدينة العلمة بفضل التجارة، فالذين لا يجدون عملا يمكنهم التوجه إلى السوق للقيام بأعمال مختلفة.
نقمة التجارة على حياة البسطاء !
لكن أبناء العلمة يعانون بسبب النشاط التجاري المكثف في المدينة أيضا، فقد أصبحوا يضطرون للتوجه إلى مدينة سطيف من أجل اقتناء حاجياتهم والتّبضُّع، بعد أن ارتفعت الأسعار كثيرا، حيث أخبرنا رئيس جمعية عين تافتيكا بأن أسعار مواد عادية كالخضر مرتفعة مقارنة بمدينة سطيف، في حين تكمن المشكلة الأكبر في ارتفاع أسعار الكراء والعقار، فالشقة الواحدة لا تقل عن مليار سنتيم، في حين تُقدر أسعار كراء المحلات بأكثر من عشرة ملايين سنتيم للشهر، ما جعل السكان القدماء يعيشون وضعية صعبة، رغم تأكيدهم على أن دبي جعل العلمة معروفة على المستوى الوطني وجعلها من الأسواق الكبرى في الجزائر.
وتفاجأنا بعد الزوال بساعتين من خلو الأحياء التي تعرف في الفترة الصباحية بكثرة الحركة التجارية وحركة المواطنين بها، بعد أن تغلق المحلات أبوابها، حيث أوضح لنا مرافقانا بأن جميع المحلات المغلقة والواقعة أسفل العمارات تعج بالحركة خلال الساعات الصباحية، لدرجة أن مستعمل السيارة قد لا يجد مكانا واحِدًا للرَّكْنِ.
التونسيون يُنْعشون «دبي» وبعضهم استقروا بالمدينة
وتشدّ السيارات الحاملة للوحات الترقيم التونسية انتباه المارة في شارع دبي، حيث تقربنا من أحدهم فاعتذر عن الحديث إلينا، في حين وجدناه يقوم باقتناء هاتف نقال مُقلد. وأخبرنا أحد التجار بأن التونسيين يتوافدون بالمئات على شارع دبي بمدينة العلمة، ويقومون باقتناء مختلف السلع، مشيرا إلى أنهم أنعشوا التجارة فهم يشترون حتى السلع القديمة المخزنة التي لم تعُد تُرضِ الزبائن في الجزائر نظرا لتوفرها، كما أخبرونا بأن كثيرا منهم يأتون إلى المكان مع عائلاتهم ويقومون بشحن سياراتهم عن آخرها ليعودوا بها إلى منازلهم.
وتوجد بدبي العديد من الفنادق من مختلف الدرجات والمستويات وبأسعار مختلفة، لكن أبناء العلمة أرشدونا إلى اثنين منها يتجمع فيهما التونسيون، يتنقلون عبر حافلات ولا يعودون إلى بلدهم إلا بعد أن يملؤوا حقائبهم بمختلف أنواع البضائع والمستلزمات، بما فيها المواد الغذائية، لكننا لم نجد عند ذهابنا إليها إلا مجموعة من سياراتهم دون أي أثر للحافلات. وقد التقينا بفتاتين تونسيتين اشتريتا مجموعة من أدوات التجميل من إحدى طاولات الباعة الفوضويين الموجودة بمحور شارع دبي، في حين قال لنا تاجر إن بعضا منهم اتخذوا لأنفسهم متاجر واشتروا منازل يعيشون فيها بالعلمة من أجل تسيير نشاطهم التجاري.
رئيس جمعية عين تافتيكا العلمة خسرت بنايات تاريخية

ويؤكد رئيس جمعية عين تافتيكا، الأشرف بوقارش، بأن الجمعية التي تأسست قبل خمس سنوات، تسعى إلى الحفاظ على بريق العلمة ومحاربة الصورة النمطية التي ألصقت بها جراء انتشار الأسواق بها، مشيرا إلى أن جمعيته ثقافية ولا تملك أي طابع سياسي أو اجتماعي. وأضاف محدثنا بأن المدينة خسرت الكثير من المباني التاريخية، بعد أن قامت السلطات بهدمها، ومن أبرزها أول مدرسة في المدينة تم تهديمها منذ سنوات رغم رفض السكان، بالإضافة إلى الكنيسة القديمة التي أزيلت في سنوات الثمانينيات.
وأشار محدثنا إلى أن الشيخ محمد بلموفق يعتبر الأب الروحي للمسرح في مدينة العلمة، مضيفا بأنه أسّس أول فرقة مسرح قبل قرنٍ ليقوم في سنة 1927 بتأسيس أول فرقة موسيقية في المدينة، ما يجعله يستحق تكريم وضع اسمه على المسرح الجهوي اليوم. ونبه نفس المصدر بأن الجمعية نظمت العديد من التظاهرات الثقافية المحلية والوطنية، من بينها تكريم أكثر من ستين صحافيا من أبناء العلمة وتنظيم مهرجان الفن التشكيلي الذي عرف مشاركة 35 فنانا من 11 ولاية.
وقال رئيس الجمعية إن الكثير من الفرنسيين لبثوا في المدينة بعد الاستقلال، مشيرا إلى أنها احتضنت واحدا من أقدم أستديوهات التسجيل في الجزائر، وكان يسمى «أفريك فونو»، حيث كان يقصده الشاب خالد سنوات السبعينيات من أجل تسجيل العديد من أغانيه التي اشتهر بها فيما بعد، كما كانت فرقة موسيقى البوب «حرية» من أوائل المجموعات التي أحيت حفلا في روسيا سنوات الستينيات وأعضاؤها من العلمة.
والتقينا في مكتب الجمعية برئيسها الشرفي، محمد حناط، حيث كان من أوائل الصحفيين في جريدة النصر سنوات السبعينيات، كما أنه أصدر كتابا تحدث فيه عن الشخصيات الثقافية والثورية للمدينة، في حين يعتبر من قدماء المعلمين بالعلمة فقد تعلم المئات على يديه بمدرسة إحياء العلوم الإسلامية التي تخرج منها، كما أنه من أكثر عناصر جمعية عين تافتيكا نشاطا رغم كبر سنه، بحسب ما أكده لنا أعضاؤها.
س.ح

الرجوع إلى الأعلى