في شارع صغير وسط مدينة قالمة القديمة لا يزال الناس يحنون إلى الماضي البعيد و يقصدون المكان باستمرار، لاسترجاع ذكريات الأجداد الذين مروا من هنا و تركوا تاريخا عريقا، لم تنل منه السنوات المتعاقبة و لم تنقص من شأنه، هنا في زنقة اليهود، قرب شارع عنونة الشهير، لا تزال المحلات  التجارية العريقة تقاوم الحداثة بقوة ، و ترفض غلق أبوابها الخشبية العتيقة، متحدية الأقطاب التجارية الجديدة التي تحاول أن تسرق منها الشهرة و الأصالة، و تحيلها إلى متحف التاريخ الذي يحتفظ بالكثير من أسرار كالاما العريقة، التي تعاقبت عليها حضارات كثيرة منذ فجر التاريخ و تركت آثارها صامدة إلى اليوم.  
فريد.غ   
و تعد مخبزة محمود الجيجلي من أبرز المعالم القديمة بزنقة اليهود ،وسط مدينة قالمة، يقصدها الناس من كل مكان للاستمتاع ببقايا التاريخ و الوقوف على مآثر الأجداد الذين تحدوا الاستعمار و أثبتوا قدرتهم على الصمود على كل الجبهات، في التعليم و التجارة و الزراعة و البناء.  
في كل رمضان تتحول «كوشة الجيجلي» كما يسميها القالميون منذ القدم، إلى مزار يومي للصائمين القادمين من داخل الولاية و من خارجها، هؤلاء الباحثون عن نكهة رمضان الحقيقية و شواهد الزمن الجميل الماثلة هنا، في المخبزة التقليدية العريقة التي أسرت قلوب الفقراء و الأغنياء، و صارت علامة مسجلة في قلب المدينة، هنا حيث السعادة في أسمى معانيها و البساطة و التاريخ، و الأطباق التقليدية التي تطهى بعيدا عن النار الحارقة و الصفائح المعدنية و الكهرباء.  
النصر دخلت كوشة محمود الجيجلي في يوم رمضاني بارد ممطر، و عاشت لحظات جميلة دافئة قرب الفرن الحجري العريق، و نقلت لقرائها قصة أقدم مخبزة بمدينة قالمة، و السر الذي أبقاها صامدة على مدى نصف قرن من الزمن، متحدية المخابز الكهربائية المتطورة التي انتشرت في أرجاء المدينة الكبيرة الباحثة عن مزيد من الغذاء لسد حاجيات الآلاف من السكان المنتشرين بالأحياء القديمة و الضواحي الجديدة الآخذة في الابتعاد عن قلب المدينة، حيث بقايا الحضارات القديمة و الأسواق الشعبية العريقة و مقاه ومخابز لها تاريخ و شهرة تخطت حدود الوطن.  
  تحفة هندسية نادرة  
أخيرا كشفنا السر الدفين الذي جعل كوشة محمود الجيجلي قبلة الصائمين في رمضان و مقصدا للسياح و كبار الشخصيات التي تزور الولاية من حين إلى حين، هنا تعد أطباق كبار الضيوف و تخرج بنكهة التاريخ و كأنها تحفة نادرة أبدعت يد الإنسان في تشكيلها ببراعة و اقتدار. الفرن الحجري هو القلب النابض للمخبزة العريقة، هنا تنضج أشهى الأطباق بعيدا عن النار.  
الفرن الذي بناه الشيخ محمود شباطة قبل نصف قرن مكون من تجويف كبير من الآجر المقاوم للحرارة و سقف مغطى بالرمل، و باب حديدي سميك يعود إلى 200 سنة تقريبا مزود بمفتاح غليظ يحكم إغلاقه حتى لا تضيع الحرارة و تبقى مخزنة دخل الفراغ الكبير المحاط بقطع الآجر السميك.  
يقول جمال أحد أبناء محمود الجيجلي السبعة الذين ورثوا صناعة الخبز و الحلويات عن والدهم الذي توفي عن عمر ناهز الثمانين سنة « في ساعة مبكرة من الصباح نشعل موقد الغاز الطبيعي و نترك الحرارة ترتفع تدريجيا حتى تبلغ 350 درجة خلال مدة محددة ثم نغلق موقع الغاز لنبدأ عملية إدخال الأطباق إلى الفرن الساخن لتنضج تحت تأثير الحرارة فقط و بدون نار، حيث تبقى الحرارة مخزنة داخل الفرن أكثر من 5 ساعات، و هي مدة كافية لإعداد اكبر كمية ممكنة من الأطباق و تلبية طلبات اكبر عدد ممكن من الزبائن الذين تربطهم بالمخبزة علاقة حب و وفاء و احترام منذ سنوات طويلة، كل الأطباق التي نعدها هنا داخل الفرن الحجري لها مميزات عن بقية الأطباق التي تحضر داخل الأفران الكهربائية و أفران الغاز، ما نحضره هنا له مذاق لا يقاوم سواء كان لحما، أو مكسرات و حلويات، نعمل ساعات طويلة في رمضان لان عدد الزبائن يرتفع كما ترون، الناس هنا يعدون العديد من أطباق الفطور داخل الفرن الحجري لأنهم تعودوا على هذا منذ سنوات طويلة، هم يقولون بان نكهة رمضان بمدينة قالمة موجودة هنا بكوشة محمود الجيجلي، هم يضعون ثقة كبيرة في ما نقدمه لهم و علينا أن نحافظ على هذه الثقة رغم صعوبة المهمة و العمل الشاق ساعات طويلة من النهار و أحيانا حتى الليل، عندما نتلقى طلبات لطهي أطباق خاصة بكبار الضيوف الذين يزورون الولاية، إلى جانب أطباق الأعراس و المناسبات الأخرى، الناس هنا يفضلون إعداد أشهى الأطباق داخل الفرن الحجري حتى لا تفقد مذاقها و تحافظ على مكوناتها الغذائية كما هي لأنها تنضج تحت تأثير الحرارة فقط، و هذه الميزة تعطي نكهة خاصة، لو كنا في غير رمضان لأعطيتك من هذا الطبق (رؤوس مشوية) و سترى الفرق بين أطباق الفرن الحجري و أطباق الأفران الأخرى، حتى الحلويات و المكسرات والقهوة التي تعد هنا مختلفة تماما».  

شعرت برغبة لا تقاوم في مداعبة طبق الرؤوس الساخنة و هي تخرج من الفرن العريق، ربما سأعود يوما إلى كوشة الجيجلي عندما ينقضي شهر الصيام لأتذوق من كل طبق يخرج من بين قطع الآجر الأحمر الذي ظل يقاوم الحرارة القوية على مدى نصف قرن دون أن يتأثر أو يفقد من قدرته على إطعام الجياع المتلهفين لأجود أطباق الفرن العريق.  
كل شيء هنا يحيل إلى الزمن الجميل
مسعود البالغ من العمر 59 سنة احد أبناء محمود الجيجلي الساهرين على المخبزة العريقة، حدثنا عن الإرث التاريخي الذي تركه والدهم هنا وسط مدينة قالمة و مازال قائما إلى اليوم، حتى انه تحول إلى معلم من معالم قالمة القديمة» جاء جدنا إلى قالمة قادما من جيجل، موطن الخبز و الحلويات و العجائن، سنة 1888 و اتخذ من الزنقة الضيقة موطنا جديدا له، و ورث عنه والدي محمود صناعة الخبز و الحلويات، و كانت البداية بكوشة صغيرة بالزنقة الضيقة، قبل أن ينتقل إلى زنقة اليهود و بنى هذه المخبزة التقليدية بمساعدة حرفي ماهر من جيجل، متخصص في بناء الأفران الحجرية، كان العمل هنا صعبا لأن الكوشة كانت تعمل بالحطب في بداية الأمر ثم انتقلنا إلى فرن المازوت قبل أن يدخل الغاز الطبيعي إلى مدينة قالمة، اليوم المخبزة تعمل بالغاز و مهمتنا أصبحت سهلة لكن المحافظة على سمعة المخبزة تتطلب المزيد من الصبر و التضحية، يجب أن نبقى أوفياء لجدنا و والدنا محمود الذي تعب من أجلنا و ترك لنا كنزا ثمينا سنحافظ عليه و نحث أبناءنا على مواصلة المسيرة من بعدنا».   
و ليس الفرن الحجري فقط ما يميز كوشة الجيجلي بمدينة قالمة  حتى الميزان و مطاحن القهوة و الفريك و الروينة تعود إلى زمن بعيد، و الأدراج القديمة مازالت محافظة على هندستها العريقة، لا شيء تغير هنا بكوشة الجيجلي، هذا المعلم الجميل لم يتأثر بما يجري حوله من متغيرات و مستجدات و عادات جديدة تكاد تأتي على ما تبقى من مآثر الماضي البعيد، البعض من السياح القادمين من أوروبا و من داخل الوطن يأتون هنا لأخذ صور تذكارية مع الفرن الحجري و الميزان التقليدي و المطاحن الصغيرة التي مر عليها زمن طويل و مازالت صامدة تروي قصص الأجيال المتعاقبة على كالاما، مدينة الرومان و الحضارات الإنسانية الضاربة في أعماق التاريخ البعيد.  
يقول المصور الحرفي الشهير بمدينة قالمة وليد رهدون الذي وجدناه بكوشة الجيجلي متحدثا للنصر « هذا معلم تاريخي نادر، لا يقل أهمية بالنسبة لي عن المسرح الروماني و المسرح البلدي و مواقع أثرية أخرى بقالمة القديمة، كل رمضان أقصد كوشة الجيجلي لتحضير أطباق الفطور، اعرف المكان منذ أن كان عمي محمود على قيد الحياة، لقد أخذت له صورة و هو أمام الفرن و على رأسه الطربوش الأحمر، كان رجلا محترما و محبا للعمل، مازال أبناؤه يواصلون المهمة بجد و احترام للزبائن، هذه المخبزة العريقة مكسب لمدينة قالمة».  
الرؤوس و الكباش المشوية  أشهر أطباق الفرن
و من أشهر الأطباق التي تعد هنا داخل الفرن الحجري الشهير الكباش المشوية التي تقدم لكبار الضيوف و طبق الرؤوس و أطباق الدجاج و الكفتة و الحلويات التقليدية، و لكل طبق درجة حرارة يعرفها القائمون على المخبزة بدقة حتى يحافظوا على جودة الطبق و الثقة التي تربطهم مع الزبائن بمن فيهم أصحاب كبار المؤسسات الاقتصادية و المنتجعات السياحية الذين يستنجدون بالفرن الحجري لإعداد أجود الأطباق لكبار الضيوف و المدعوين.          
ف.غ

الرجوع إلى الأعلى