لا تزال البيوت العتيقة في المدينة القديمة بقسنطينة أو كما تعرف «بدار عرب» تحافظ على بعض خصوصياتها في شهر رمضان، رغم التغيير الذي شمل أغلب ملامح الحياة في المجتمع القسنطيني، إلا أنه تبقى لهذه البيوت هالتها الاجتماعية ووقعها الرمضاني الخاص الذي لم تطمسه ظروف الزمن، وامتزجت فيها ذكريات الماضي بما تبقى منها في خضم المتغيرات التي محت كثيرا من ملامحها، لتغدو الذاكرة الشاهد على وجودها في زمن مضى، فعند مرورك في أمسية رمضانية بالأحياء العتيقة كالسويقة، رحبة الصوف، سيدي الجليس، سيدي بوعنابة، السيدة، القصبة وغيرها يجذبك عبق خاص ممزوج برائحة الأكلات التقليدية.
زين العابدين فوغالي
وكانت للنصر زيارة لبيتين قديمين بالمدينة القديمة بسيدي بوعنابة والبطحة، لنقل الطقوس الرمضانية  التي بقيت هذه العائلات محافظة عليها رغم ما لحق بهذه البيوت من تغييرات بفعل الزمن.
الجدة «براكة» الدار و حلقة الوصل بين الماضي والحاضر
وتعتبر الجدة هي الركيزة الأساسية في «ديار عرب» وهي حلقة الوصل بين الماضي والحاضر، فأغلب البيوت العتيقة في قسنطينة التي فقدت «الجدة» فقدت  فيها أيضا موائد الإفطار طعمها، وخسرت السهرات العائلية دفئها، وتفرق شمل الأسرة، بالإضافة للترحيلات التي شملت سكان العديد من البيوت القديمة وتنقلهم لسكنات جديدة، وأثناء جولتنا دخلنا إلى واحد من أقدم البيوت بنهج ابن الشيخ لفقون بالبطحة أين استقبلتنا الحاجة فاطمة.ح (من مواليد 1932) وهي تسير بثبات رغم عامل السن تحدثت إلينا بحسرة وهي تتذكر رمضان أيام زمان وكيف كانت تقضيه أيام الطفولة مع أسرتها الكبيرة أو عندما أصبحت ربة أسرة قبل وفاة زوجها منذ 35 سنة وتفرق شمل أولادها التسعة في ظل زواج بناتها وتنقل أحد أبنائها للعيش في الخارج، واليوم هي تعيش رفقة ما تبقى من أبنائها و أحفادها، ورغم أن عامل السن والمرض أقعدها عن تحضير العديد من الأطباق التقليدية مثل السابق، إلا أنها تعطي لمتها الخاصة أو «البراكة» على حد وصف ابنتها.
 من جهته، حسن قادري أو «بابا حسن» كما يناديه سكان المنطقة وهو باحث في تاريخ المدينة، وأثناء استقباله للنصر ببيته العائلي بسيدي بوعنابة ضرب مثلا شعبيا حول أهمية تواجد الأم أو الجدة بالبيت العتيق وقال بهذا الخصوص:» الدار بلا كبير كي الجنان بلا بئر و اللي خطاه كبيرو خطاه دبيرو»، مضيفا أن والدته التي تجاوزت الثمانين، ورغم مرضها إلا أنها تشارك دائما كناتها في إعداد الفطور وتحضير «الكسرة» و»الجاري».
تفاصيل صغيرة تصنع الفارق بين الأمس واليوم
وقبل الحديث عن أجواء رمضان في ديار العرب لابد من التطرق إلى مرحلة التحضير الخاص لاستقبال الشهر الكريم، رغم أن أغلب هذه الطقوس بدأت تندثر مع مرور الزمن باستثناء بعض العائلات التي لا تزال محافظة عليها، ومن بينها إعادة تبييض النحاس والأواني، حيث يتم أخذ «الكروانة» و»الكافاتيرة» و»المحبس» و»الطفال»و»السينية» وباقي الأواني إلى مبيض النحاس، وكانت المدينة القديمة في الماضي  تعج بمبيضي النحاس ونذكر منهم أمين خوجة  بحي سيدي بوعنابة و «الزقوقو» الذي كان له محل صغير أمام الزاوية الطيبية بجوار ابتدائية مولود بلعابد، وعمي حسان بساباط البوشايبي و عمي محمد بن عبد الحفيظ بالرومبلي وهو آخ علاوة «الحمامصي» وغيرهم.
ومن بين عادات استقبال رمضان أيضا، إعادة طلاء جدران المنزل بدهان الجير أين يتم وضع الجير في برميل ويوضع فيه الملح و»النيلا»، وكانت في السابق ربة البيت هي من تقوم بنفسها بطلاء جدران «السقيفة» ووسط الدار وصولا إلى الغرف العلوية، وتعاد العملية كل سنة قبل حلول شهر رمضان.
و»الفريك» أيضا كان له تحضير خاص بعد جلبه من المطحنة، ومن بينها مطحنة «بلحي» بالشط لصاحبها عمي رابح رحمه الله، والتي افتتحت عام 1950 و أصبحت على مر السنين رمزا للمدينة، بالإضافة لشريفي وبن جغر اللذين كانا أيضا يطحنان الفريك في الماضي، وبعد اقتناء الفريك تقوم النساء بتنقيته ووضعه في الماء والملح، ثم ينشر لمدة أربعة أيام تحت أشعة الشمس، وبعد طحنه يتم غربلته للتخلص من النخالة والغبرة كمرحلة أخيرة قبل استعماله في «الجاري» الذي يعد الطبق الرمضاني الرئيسي للعائلات القسنطينية.
وعن أغلب هذه المراحل تقول «الحاجة فاطمة» أنها لم تعد في يومنا هذا تقريبا في»دار عرب» سواء بالنسبة لتبييض النحاس أو إعادة دهن البيوت وحتى الفريك أصبح يشترى جاهزا، بالإضافة لعادة أصبحت هي الأخرى من الماضي كذهاب نساء الدار برفقة جيرانهن إلى الحمام ليلة رمضان.
لكل ركن  قصة جميلة لا تنسى..
يرتبط كل ركن من أركان البيوت القسنطينية العتيقة بأسطورة جميلة تروي حكاية جميلة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، منذ أن تطرق» الطرطايبة» وهي اليد الحديدية الصغيرة التي يطرق بها الأبواب الخشبية، رغم أن الكثير من البيوت القديمة اليوم استبدلتها بأبواب حديدية في سنوات التسعينات، أما المنزل الذي زرناه في نهج ابن الشيخ الفقون فتم وضع باب حديدي مع الاحتفاظ بالباب القديم.
وعند الدخول إلى «السقيفة» تجذبك منذ الوهلة الأولى رائحة «الكسرة» و»الجاري»، أما «وسط الدار» فلديه الكثير من الحكايات، وتقول الحاجة فطيمة:» في الماضي لما كانت  العديد من العائلات تقطن بالدار كانت النسوة يجتمعن في «وسط الدار» حول سينية القهوة بعد ذهاب الرجال إلى صلاة التراويح».
وقبل الصعود إلى الأعلى يلفت انتباهك» الدهليز» أو كما يسميه البعض «الخربة»  أو «الدخشوشة» وهي عبارة عن غرفة توضع فيها كل الأدوات القديمة والمنتهية الصلاحية بالإضافة للفحم ومستلزمات أخرى، أما في بيوت أخرى فيوجد عندهم «دار الصابون» وهي غرفة كانت مخصصة لغسل الملابس قبل ظهور الآلات الحديثة، مع العلم أن بعض «ديار عرب» في قسنطينة كانت تحتوي على «الماجل» في وسط الدار وهو عبارة عن بئر صغيرة، أما بالنسبة «للدرابزي» فأخبرتنا صاحبة البيت أنه كان في السابق مصنوعا من الخشب قبل أن يستبدل هو الأخر بالحديد.
وعند صعود الدرج اخبرنا «بابا حسن» الذي يقطن ب»دار عرب» بسيدي بوعنابة أن الكثير من البيوت القديمة كانت تحتوي على الزلايج في الجدران والرخام في الدرج لكن مع مرور الزمن تدهورت حالته خصوصا أن الكثير من قاطني هذه البيوت وبالأخص في السويقة السفلى قاموا بتحطيمها للحصول على سكنات جديدة أو الاستفادة من ميزانية للترميم في وقت مضى كما تحدث بحسرة عن «ديار عرب « المشهورة في المدينة القديمة وذكر لنا دار خروطو، بن طرشة، بن الشيخ الفقون، بن حمادي(باشاغا مزيان)، بلبجاوي والتي تهدمت كليا، بلمعطي، بن تشيكو ودار بن خليل وغيرهم.
ورغم تقدمها في السن مازلت الحاجة فاطيمة إلى يومنا هذا تعد «الكسرة» بالطريقة التقليدية أين تجلس في الكوزينة على «طابوري» صغير وهو مقعد خشبي بدون مسند وتعد»الكسرة «على الطابونة يوميا، كما تساهم أيضا في إعداد «الجاري بالفريك» و»الحميص» أما الأطباق الأخرى فلم تعد قادرة على إعدادها بحكم السن(85 سنة)، وهو نفس الشيء تقريبا بالنسبة لوالدة حسن قادري التي تبلغ من العمر 83 سنة لكنها لا تزال تعد الكسرة والجاري.
أما باقي أركان «دار عرب» فهي الأخرى كانت تحمل العديد من الذكريات وبالأخص في شهر رمضان أين كانت تجتمع العائلات والضيوف بالمجلس الذي يحتوي على «دكانة»، أما «السرايا» في دار عرب فهي تعادل الصالون في السكنات الحديثة، ويتم فيها أيضا استقبال الضيوف والتجمع في سهرات رمضان حول سينية القهوة والحلويات التقليدية، واليوم تتحسر»ما فطيمة» كما يناديها الجيران على تلك الأيام بعد أن أصبح اليوم كل واحد منشغل بحاله وانقطعت الزيارات إلا نادرا.

رائحة الأكلات التقليدية لا تزال تعبق  المدينة
ورغم كل التغيرات التي طرأت على المدينة القديمة وهجرة نسبة معتبرة من سكانها وتدهور حالة الكثير من البيوت وتهدم أخرى، إلا أن المتجول في رمضان في تلك الأحياء يعيش «نوستالجيا» خاصة تعيد له الحنين إلى الماضي، وما يميزها أكثر هي رائحة الأكلات الشعبية التي لا يزال سكان»دار عرب» محافظين عليها وحتى على تقاليد تقديمها، مثل»شباح الصفرة» التي تعد في بداية رمضان وفي نهايته أما باقي الأيام فيفضل الكثيرون» طاجين العين»، بالإضافة للبوراك أو البريك رغم أن الحاجة عبلة(73 سنة) والتي تقطن بالسويقة انتقدت بشدة طاولات إعداد البوراك في الشوارع في ظل عجز الكثيرات من بنات هذا الجيل على حد قولها على إعداد الأطباق التقليدية.
كما لا تخلو أيضا مائدة الإفطار في بيوت المدينة القديمة من الأطباق التقليدية الأخرى التي تكون كطبق ثالث بعد الجاري والبوراك و «الحميص» وغيرها أما سينية القهوة فهي الأخرى لا تخلو من  «حلوى الترك» و»النوغا»  و «الجوزية» و»الزلابية» وهذا قبل الدخول القوي  «للهريسة الحلوة» أواخر الثمانينات.
عادات اندثرت وأخرى مهددة بالزوال
ولا شك أن كبار السن  من سكان المدينة القديمة بدون استثناء يتذكرون العادات والتقاليد التي كانت تتميز بها تلك الأحياء في رمضان رغم اندثار الكثير منها مدفع رمضان الذي كان متواجدا في منطقة المنصورة، بالإضافة «لبوطبيلة» والمعروف عند سكان المشرق العربي بالمسحراتي، وكان يجوب الأزقة القديمة منادياً أهل الحي الواحد تلو الآخر قائلا «نوض تتسحر يا فلان» كما كان يستعمل الدف، وكانت العائلات تقدم له الحلويات ومبلغا من المال يوم العيد.
ومن بين العادات القديمة أيضا هي السهرات الموسيقية في المقاهي، أين كان يجتمع شيوخ المالوف في مقاهي المدينة القديمة في السهرات الرمضانية كمقهى ولد العيد، مقهى الجمة أو «القفلة»»وهو الاسم المستعار للحاج خوجة لعجابي، مقهى الشوافنية، مقهى بن يمينة، مقهى بولقمح أو كما تسمى مقهى عيسى الفرطاس وغيرها.
التقاليد المتبقية يرى الكثيرون أن مصيرها الزوال مع مرور الوقت في ظل تسارع عجلة التكنولوجيا ونفور الأجيال الجديدة عن كل ما هو تقليدي، بالإضافة لقرب ترحيل عدد كبير من سكان «ديار عرب» نحو سكنات جديدة.
ف.ز

الرجوع إلى الأعلى