الشيخ مصطفى المسامري.. رحيل ذاكرة الزجل بقسنطينة
انقضت أمس، سبعة أيام  كاملة،على رحيل أبرز شيوخ الزجل بقسنطينة، الشيخ مصطفى المسامري، قامة باسقة من قامات الموسيقى القسنطينية، عشق هذا الفن و كرس ذاكرته لحفظه، كما كرس جهده لجمع و تسجيل و توثيق 450 قصيدة زجلية وحوالي مئة مقام.
شيخ الزجل بقسنطينة، المعروف محليا باسم صطوفة   لم يدخر يوما جهدا لخدمة فن المدينة، فبعد تقاعده اتخذ لنفسه دكانا صغيرا بزنقة سيدي بومعزة، وحوله إلى ملتقى لفناني المدينة بمن فيهم الشيخ رحماني صالح و حمو رقاني و باجين و أماّ عتيقة، ابنة بابا عبيد شيخ الوصفان و آخرين، ليصبح هذا الفضاء التجاري الصغير مع مرور السنوات، محطة للراحة يتوقف عندها كل من أعياه التجوال في أزقة المدينة العتيقة و ديوانا للفنانين لا يعلو داخله صوت على صوت الفن و الموسيقى والأشعار.
 وقد كان هدف الشيخ صطوفة من وراء إعطاء طابع فني لدكانه، هو جمع الفنانين و النهل من معارفهم ليتمكن من توثيق كل صغيرة تخص قصائد الزجل   حتى أنه حلم خلال تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، بأن يسجلها جميعها و يقوم بطبعها و بتبويبها حفاظا عليها، تيمنا بما قام به في زمن آخر، قدوته الشاعر الثائر بلقاسم الحداد الرحموني، الذي نفاه صالح باي، من بايلك قسنطينة، فلجأ إلى زاوية الشيخ الزواوي بشطابة، وهي آخر محطة زارها رفقتنا الحاج صطوفة قبل وفاته، عندما رافقنا إلى هناك للوقوف على بقايا قبر الشاعر الثائر.
الحوار الأخير
خلال تلك الجولة التي قادتنا إلى أعالي جبل شطابة، جمعنا بالشيخ مصطفى المسامري حديث مطول، تطرق فيه إلى علاقته بالفن وكيف بدأه مع والده الذي قال، بأنه كان خماسا في فرقة عيساوية لمدة طويلة، وهو من علمه حب المدينة وموسيقاها وأشعارها، وفي عام 1968، تعلق قلبه بالزجل، فلم يتبع طريق والده العيساوي، واستقل بشخصيته الفنية، بعد أن زاد شغفه بالمالوف، فانتسب إلى فرقة هاوية خاض معها تجربته الخاصة.
بدأ رحلته كعازف على القيثارة وهو لا يزال يافعا، وفي عام 1972، انتسب إلى كلية الشعب، أين تعلم أسرار المالوف على يد الشيخ ابراهيم العموشي، وهو أحد  كبار أساتذة هذا الطابع الفني في قسنطينة، وقد ظل أستاذه إلى أن توفي سنوات الثمانينيات ، كما تعلم صطوفة ، في ذات الكلية ، العزف على العود و كيفية ضبطه والتحكم في أوتاره، وفي سنة 1974، التحق كعازف محترف بأول فرقة فنية حقيقية، ثم تعرف بعدها بسنة، على شيخه معمر بن راشي، ومعه بدأ في أداء الزجل و تحكم في إيقاعاته و أشعاره وبحوره، كما تعلم على يده الحوزي والمحجوز كذلك، و لقنه كل ما يعرفه وكل ما تعلمه من غيره من الشيوخ على غرار الشيخ كقواق و الشيخ بن كشكاش عبود، تلميذ الشيوخ بن شيغار وعبد الكريم  شيكارلي و محمد النسيم، فأخذ الراحل، على نفسه عهدا بمواصلة النهج وحمل المشعل، وهو التزام أخلاقي وهب له كل وقته كما قال.

أول تسجيل للمسامري، كان مع شيخه معمر بن راشي وكانت قصيدة زجلية تحمل عنوان « كل يوم ناري قوية»، للشاعر الأندلسي عبد المولى، الذي زار قسنطينة خلال نهاية القرن 15، ثم سجل قصيدة أخرى للشاعر عطروز، يعود تاريخها للقرن 17، كما اشتغل كثيرا مع الشيخ بن راشي، و لازمه إلى غاية وفاته سنة 1989 بعد أن تعلم منه كل أسرار الزجل، ليجمع في رصيده 95 مقاما و 450 قصيدة، لشعراء أندلسيين من أمثال عطروز و ابن عنتر و قاسم السراج و آخرين جزائريين أبرزهم الشاعر الخياري و بوشارب و بوالوذنين.
 «السفاين» مخطوط الزجل الذي لم يطبع
الراحل، أكد في حديثه إلينا، أنه لم يطبع معارفه يوما ولكنه ورثها للأجيال عن طريق المشافهة و حفظها في مخطوط قديم يعرف بـ» السفاين»، وهو مجلد مكتوب يدويا، حلم بأن يطبعه كديوان للزجل القسنطيني، خلال تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة، ليحمي هذا التراث اللامادي الضخم من الاندثار، لكن ذلك لم يحدث، غير أن المسامري، وحرصا منه على هذا الإرث الفني و الحضاري، سعى إلى نقل المشعل إلى الجيل الجديد من الفنانين الشباب، فلقن أسرار الزجل إلى تلميذه حمو رقاني، حفيد زواوي الفرقاني، الأخ الأصغر للحاج محمد الطاهر الفرقاني، و الذي تعهد بدوره  بحمل اللواء والسير على نهج شيوخ الزجل، ليحافظ على هذا اللون الموسيقي الشعري الذي حملته نسائم إشبيليا إلى قسنطينة ذات قرن.
ص. رضوان

الرجوع إلى الأعلى