جيش التحرير خطّط لقتل وزير فرنسي في قلب قسنطينة

يروي لنا المجاهد السّعيد ساحلي في هذه الشهادة التي يدلي بها للنصر في أول حديث له مع الصحافة، تفاصيل العملية التي كان سيقوم فيها بقتل الوزير الفرنسي الأسبق جورج بيدو في قلب مدينة قسنطينة، كما يحدثنا عن فراره من السجن عدة مرات، فضلا عن محطات أخرى في مساره الثوري المسلح ضد الجيش الاستعماري، شهد فيها وقائع مأساوية تعرض لها الجزائريون على يد قوات الجيش الفرنسي في الجبال والمدن.
النصر التقت بالسعيد ساحلي، الذي يناديه سكان مدينته بعمي السعيد، صدفةً في مقر جمعية عين تافتيكا الثقافية بالعلمة التي يزور القائمين عليها كل صباح لتحيتهم وفي يده كوب من الشاي، حيث أكد لنا بأنه لم يسبق له أبدا أن تحدث مع الصحافة عن مساهمته في ثورة التحرير.
نزول الحلفاء بالعلمة يوقف دراسة عمي السعيد
ويقودك عمي السعيد المعروف باسم «ليكيي»، الذي يناهز عمره التسعين ربيعا، في مسالك متشعبة عندما يعيد عليك سرد وقائع مشاركته في الثورة، حتى أن السامع غالبا ما يتيه ويجد صعوبة في تذكر النقطة التي انطلق منها. وقد استمرت دردشتنا معه لما يقارب الثلاث ساعات والنصف، حدثنا فيها عن تفاصيل التحاقه بالثورة، حيث أخبرنا بأنه تلقى تعليمه الابتدائي في المدرسة الفرنسية على غرار باقي أبناء العلمة من الجزائريين، قبل أن يضطر إلى التوقف خلال الحرب العالمية الثانية، عندما نزلت قوات الحلفاء في مدينة «سانت آرنو» وحولت السلطاتُ الاستعمارية المدرسة التي كان يرتادها إلى مقر لهم.
وأضاف محدثنا بأن السلطات الاستعمارية سمحت لأولياء التلاميذ من الفرنسيين واليهود بنقل أبنائهم إلى مدرسة أخرى في المدينة، كان يرتادها الفرنسيون، بينما وجد أبناء الجزائريين من أمثال عمي السعيد أنفسهم خارج مقاعد الدراسة. وأكد المجاهد في حديثه عدة مرات، على أنه كان يحب المدرسة ويجتهد في التعلم، لولا أن الظروف لم تسمح له بالمواصلة. انتقل عمي السعيد بعد هذه الحادثة إلى تعلم حرفة، حيث درس ميكانيك السيارات، ليعود بشهادة تقني، وعمل في ورشة تصليح يملكها أحد الفرنسيين في مدينة العلمة، كما يقول إنه عاش بينهم في منزلهم العائلي وأكل من طعامهم ونشأت علاقة وطيدة بين عائلته والأسرة الفرنسية، حتى أن الأم الفرنسية تطوعت لإرضاع شقيقته عندما كانت طفلة صغيرة.
وتمكن عمي السعيد بعد فترة من العمل من فتح ورشته الخاصة بمساعدة الفرنسيين، حيث صار في سعة من أمره ويوظف عمالا في ورشته لتصليح المركبات، مشيرا إلى أن تلك الفترة تزامنت مع بدايات العمل الثوري في الجبال، حيث قال «إننا كنا نسمع في البداية عن عمليات مختلفة، وكان يتردد صداها بين الجزائريين في المقاهي ومحطّات النقل».


من ميكانيكي إلى مهندس للعمليات السرية
ووجد عمي السعيد نفسه في عام 1955، بحسب ما رواه لنا، في صفوف الثوار، حيث تم الاتصال به ووافق على خوض العمل المسلح معهم، ويؤكد لنا بأنه كان يملك من المال ما يكفي لمساعدة الثورة والتنقل بين عدة مناطق بأريحية بسيارته الفاخرة «سيتروان 15/6» التي اقتناها آنذاك، دون إثارة شكوك القوات الاستعمارية، خصوصا وأنه عاش في كنفهم وكان وديعا في حياته اليومية. ويقول عمي السعيد في هذا الشأن «لم يكن أي من الفرنسيين أو الأوروبيين يفكر في أن أكون بين صفوف الثوار أو أنني أتعاون معهم، كما أنهم لم يصدقوا بأنني مع جيش التحرير عندما كُشف أمري».
وأضاف المجاهد بأن نشاطه في البداية في هذه المرحلة كان يقوم على تدبير الهجمات السرية، مثل عمليات التخريب ضد المعمرين والمنشآت التابعة للفرنسيين، مثل حرق المزارع وتحطيم خطوط السكة الحديدية وأعمدة الهاتف، بالإضافة إلى عمليات اغتيال الفرنسيين الذين يقفون ضد الثورة والوشاة من الخونة والحركى. وروى محدثنا لنا قصة طريفة بشأن سيارته، حيث قال إنه كان يسميها «النهر الذي لا يعود»، وهي العبارة التي علقها أعلى زجاجها الأمامي، لأن من يركب فيها من الذين ترد فيهم أوامر بالقتل لا يعود بعد ذلك أبدا.
وقام محدثنا بنشاطات أخرى لصالح الثورة، مثل تعبئة سكان القرى في عدة مدن، مثل قالمة والبرج وسطيف، أين كان يقول لهم «حاربوا بأي سلاح يمكن لأيديكم الوصول إليه، كالخناجر أو العصي أو شيء آخر»، بالإضافة إلى جمعه المال لصالح الثورة من الجزائريين الأثرياء آنذاك، لكنه أكد لنا بأنه كان يراعي دائما وضعية الجزائريين الصعبة وحالة الفقر التي يعيشون فيها، فلا يقسو عليهم، خصوصا عند التخطيط لعمليات حرق مزارع المعمرين، حيث كان ينتظر انقضاء موسم الحصاد وجني المحاصيل ليقوم بالعملية حتى لا ينتقم المعمرون من العمال الجزائريين بعدم الدفع لهم، بحسب ما أكده لنا.
«عين تافتيكا» ..  الكلمة السرية  في الجبل
خلال فترة نشاط عمي السعيد في العلمة، اكتشفت القوات الاستعمارية أمره ما جعله يلتحق بالجبل، حيث فر إلى مرتفعات العوانة بمنطقة جيجل، وهناك كان على رأس خلية مستقلة، أوضح لنا بأنها كانت تنشط في مناطق مختلفة، وتتنقل إلى أي مكان تكون فيه الثورة بحاجة إلى عناصرها، بحسب ما يرد إليهم من أوامر. ويضيف عمي السعيد بأنه تلقى عندما كان في هذه المنطقة في سنة 1958، رسالة من مجاهدي العلمة، نقلت إليه بشكل سري في ورقة صغيرة خُبئت داخل مقود دراجة هوائية وورد فيها بأنه تم اغتيال مسؤول الجيش في العلمة، ما أدى إلى وقوع خسارة بشرية فادحة. وأشار محدثنا إلى أن الرسالة تتحدث عن اغتيال الفرنسيين لحوالي خمسمائة جزائري من سكان المدينة انتقاما من العملية التي قام بها الثوار، وما زال يحتفظ بها إلى اليوم.
وروى لنا نفس المصدر بأن عبارة «عين تافتيكا»، وهي الاسم الجزائري القديم لمدينة العلمة، كانت تستعمل ككلمة سرية بين المجاهدين، حيث يشير إلى أنه في حال العثور على شخص يتجول في الجبل ولا يتقنها، فإنه سيتم الإجهاز عليه مباشرة، لذلك لم يكن مسموحا بالتجول بعيدا داخل الغابة. ويضيف محدثنا، بعبارات حزن مرتسمة على وجهه، بأنه ما يزال يتذكر تنقله إلى إحدى القرى في جبال العوانة من أجل الاطلاع على حالة سكانها، حيث يقول «لقد وجدت شيخ تلك القرية وسكانها في حالة فقر مدقع، فملابس الأطفال لم تكن تغطي كامل أجسادهم، بينما تغزو رداء أحسنهم حالا الرقع من كل جانب، حيث أخبروني بأنهم لم يكونوا قادرين على العمل لأن الفرنسيين سيقبضون عليهم في حال نزولهم، فقدمت لشيخ القرية حزمة من الأوراق النقدية ليقتنوا ملابس للأطفال وطعاما، لكنه فاجأني بأنهم لم يروا الأوراق النقدية من قبل، ولا يعرفون إلا القطع المعدنية».
هذه هي خطة قتل الوزير الفرنسي الأسبق جورج بيدو في قسنطينة
وفي سنة 1960، تلقت خلية المجاهد السعيد ساحلي أمرا بقتل الفرنسي جورج بيدو، الذي استوزر عدة مرات في الجمهورية الرابعة والخامسة، حيث عين كوزير للخارجية على عدة مراحل، كما أنه من كبار الشخصيات السياسية التي عرفتها فرنسا منذ فترة العشرينيات إلى غاية وفاته في عام 1983، وهو من مؤسسي الحزب اليميني الفرنسي المسمى بالجبهة الوطنية. وقد كان من المبرمج أن يزور جورج بيدو قسنطينة يوم الحادثة من أجل تنشيط لقاء مع المعمرين في قسنطينة في إطار حملته مع مجموعة من السياسيين للدعوة إلى مشروع «الجزائر فرنسية»، بعد أن لمسوا في ديغول ميلا نحو الرضوخ لمطلب الشعب الجزائري بالاستقلال، كما أن بيدو تحول بعد ذلك إلى داعمي المنظمة المسلحة السرية، وانتقل إلى النشاط غير القانوني.

ويقول عمي السعيد أن رفاقه من المجاهدين ودعوه وصلوا عليه صلاة الجنازة عند مغادرته وهم موقنون بأنه لن يعود حيا أبدا بعد هذه العملية الكبيرة، حيث حمله شيخ كبير على بغلة معه من منطقة جميلة بسطيف، متنكرا برداء «قايد» يحمل ألوان العلم الفرنسي، وفي الطريق استوقفهم عساكر فرنسا لكنهم لم يتفطنوا للأمر، كما يؤكد محدثنا بأنه كان يحمل معه تحت سترته، مسدسا رشاشا أمريكيا صغيرا من نوع 11/49، ولكنه لم يخبر الشيخ الذي نقله بذلك ولا بالعملية التي كان سيقوم بها، مشيرا إلى أنه التزم بالسرية التامة.
وبعد مسيرة أودعه مرافقه في سيارة ودفع لسائقها القادم من منطقة العلمة من أجل أن ينقله إلى قسنطينة، حيث يسرد لنا بأنهما توقفا في مقهى بالطريق على مستوى منطقة شلغوم العيد، وعند مغادرته المحل اقتنى جريدة «لا ديباش دو كونستونتين» فقرأ في الصفحة الأولى عنوانا كبيرا ورد فيه بأن رحلة جورج بيدو إلى الجزائر قد ألغيت. ويضيف محدثنا بأنه وصل صباحا حوالي الساعة الثامنة، ولم يثنه هذا الخبر عن الاستمرار في العملية، فوجد العشرات من المعمرين قد اجتمعوا في ساحة «لابريش» ومنهم فتيات يحملن الورود لاستقبال جورج بيدو، بالإضافة إلى تواجد أمني كثيف، حيث أخبر السائق بأن يركن في حظيرة المركبات المحاذية لمقر ورشة سيارات «سيتروان»، التي أصحبت اليوم دار الثقافة محمد العيد الخليفة».
وأشار محدثنا إلى أنه شعر يومها بأن شابتين فرنسيتين توجستا منه، حيث سمع إحداهما تقول «ما الذي يحضر له هذا الشخص»، رغم أنه كان يحمل معه بطاقة تعريف فرنسية، ليتنقل بعد ذلك إلى الساحة التي كان مزمعا تنظيم التجمع فيها، كما قال إنه لاحظ استعداد عناصر الشرطة الفرنسية لأي هجوم من المجاهدين، فقد كانت أجربة مسدساتهم مفتوحة لكي يخرجوها بسرعة في حال وقوع أي طارئ، لكن عمي السعيد استطاع الإفلات من المكان والعودة إلى رفاقه المجاهدين، حاملا معه الجريدة التي ورد فيها خبر إلغاء رحلة الوزير الأسبق المذكور. وقد كانت هذه العملية ستصبح تاريخية في مسار الثورة لو تمت في ذلك اليوم، حيث لم يستبعد عمي السعيد أن تكون مصالح الشرطة قد تلقت معلومات بنية جيش التحرير باغتيال جورج بيدو، أو ربما تكون، بحسبه، قد قدرت المخاطر التي تحيط بزيارته للمدينة في ذلك اليوم.
وقد قرأنا في سيرة جورج بيدو بأن السلطات الفرنسية أصدرت في حقه أمرا بمنعه من التنقل إلى الجزائر في شهر جانفي من سنة 1960، بعد أعمال الشغب الكبيرة التي عرفتها العاصمة آنذاك وسميت بـ»أسبوع المتاريس»، حيث خرج الآلاف من الأقدام السوداء مدافعين عن قضية الجزائر فرنسية، ووقعت مواجهات مع الشرطة، بعد أن أغلق محتجون مسلحون حيين بالمتاريس، ما أوقع قتلى في صفوف الطرفين.


حكم عليه بالإعدام وهرب أياما قبل التنفيذ
وقبض عناصر الجيش الفرنسي على عمي السعيد عندما كان في جبال البابور مع مجموعة من المجاهدين، حيث وقع اشتباك معهم بعد أن طوقت قوات الاستعمار المنطقة، لتخترق رصاصة جسد محدثنا، فوقع أرضا وظل على حاله، إلى أن حمله الفرنسيون وقاموا بنقله إلى مدينة سطيف وبعد عدة معاينات وتماثله للشفاء نقل إلى السجن، حيث رفض تقديم اعترافات وادعى الجهل باللغة الفرنسية، ما جعل من الصعب عليهم اكتشاف دوره الحقيقي في صفوف الثورة والمهام التي كان يقوم بها، كما أنه ادعى بأنه كان يرعى مجموعة من الأبقار عندما وجد نفسه في قلب الاشتباك.
وتمكن عمي السعيد، الذي توحي نظرته الحادة بنباهة وذكاء عاليين، في المرة الأولى من الفرار من معتقل «قصر الطير» بمخادعة الجنود المكلفين بحراسة المكان، بعد أن حاول القيام بذلك في مرة أولى بالتعاون مع مجموعة من المعتقلين لكن العملية لم تنجح، ليستعين به الحراس ذات ليلة من أجل تصليح عمود كهربائي فظل يسير إلى الأمام متحججا بالبحث عن العطب، قبل أن يباغتهم ويلقي بنفسه في الوادي الجاري من سبخة مياه مالحة. وقد روى لنا بأنه خرج من الوادي مصابا بجروح وظل يركض، حتى أنه صار يتخيل جنودا فرنسيا يلاحقونه من شدة الخوف.
وأضاف عمي السعيد، الذي يقهقه ضاحكا أحيانا وهو يستذكر بعض المحطات الطريفة في مساره، بأنه كان يتقدم في البراري مرتديا بدلة المعتقل التي دون عليها ترقيمه والحرفان الأولان من كلمتي «معتقل داخلي»، حيث اتجه صوب منطقة عين أزال، التي يعرف بها عددا من المجاهدين القادرين على مساعدته. وعند بلوغ عمي السعيد طريق السيارات، وقف على قارعته من أجل استيقاف مركبة وهو يعاني من التعب الشديد والجوع، فتفاجأ بشاحنة عسكرية كانت فرنسا تخصصها للحركى تتوقف أمامه، حيث اقتادوه معهم إلى المركز العسكري بعد أن ركلوه وجرحوا رأسه، ليعاد بعد ذلك إلى المعتقل.
لكن محدثنا أكد بأنه لم يفقد الأمل في الفرار والعودة إلى الجبال، حيث نُقل إلى السجن المدني في العلمة بعد محاكمته، واستطاع هناك تحريض مجموعة من المساجين ممن كانوا معه على فكرة الفرار، حيث تمكنوا من إحداث ثقب كبير في الجدار هربوا من خلاله. وقال نفس المصدر إن بعض المساجين تراجعوا عن الفرار بسبب الخوف، في حين أكد لنا بأن محكمة سطيف قد قضت عليه بالإعدام في سنة 1960، أين ركبت السلطات الاستعمارية المقصلة في ساحة مدينة العلمة، وأضاف بأنه كان من المبرمج أن يُقطع رأسه بعد أيام من حادثة الفرار. وأخبرنا عمي السعيد أيضا بأن الخوف شل أحد الذين فروا معه، وكان ينوي العودة إلى السجن، لولا أنه ثناه عن ذلك، واصطحبه معه.


حراس السجن حقنوا مجاهدين بمواد تسبب العقم
واسترجع المجاهد السعيد ساحلي العديد من ذكريات معتقل قصر الطير، حيث أخبرنا في شهادته عن وضع مأساوي تسبب فيه القائمون على المعتقل آنذاك في حق العشرات من المحكومين في قضايا لها علاقة بالتعاون مع ثورة التحرير. وأخبرنا محدثنا بأنه في أحد الأيام أعلنت إدارة المعتقل بأن المعتقلين من الصنف المذكور سيخضعون لأخذ عينات من دمهم من أجل إجراء تحديد الزمرة الدموية، لكن الشك انتاب محدثنا من هذا الأمر وظل يسأل الجنود عن سبب هذا الإجراء، فرفضوا في البداية أن يفصحوا له عن أي معلومات، قبل أن يخبره أحدهم بأنهم سيحقنونهم بمادة تسبب العقم ونصحه بعدم تلقي الحقنة.
وقال عمي السعيد إنه تحجج بالأشغال الموكلة إليه في المعتقل يومها ولم يتلق هذه الحقنة، في حين يؤكد بأنه شاهد حراس السجن يطرحون هؤلاء المعتقلين أرضا على وجوههم في الساحة الرئيسية، وكان أحد الأطباء يمر بينهم ويغرز حقنة في جسد كل واحد منهم، دون علمهم بماهيتها، فقد أوضح لنا نفس المصدر بأن أغلبية هؤلاء المعتقلين كانوا محدودي المعرفة ومنهم كثيرون أميون، لذلك لم يكن في وسعهم أن يفهموا سبب الإجراء أو نوعية المادة التي حقنت في أجسادهم.
واسترسل السعيد ساحلي في حديثه عن هذه القضية، حيث أكد لنا بأنه سعى إلى إعادة ربط الاتصال بعدد من الذين كانوا محبوسين معه خلال تلك الفترة في المعتقل المذكور، حيث التقى بأحدهم ذات مرة، ووجد بأنه يعاني فقرا مدقعا ويعيش في إحدى القرى النائية. وقد أشار محدثنا إلى أنه سأل هذا المجاهد عما إذا كان قد رزق بأطفال، فأجابه بالنفي، موضحا بأنه تبين من الملامح التي ارتسمت على وجهه بأن هذه المسألة قد أثرت على نفسيته كثيرا، دون أن يعلم بقضية الحقنة التي قدمت له في معتقل قصر الطير.


هكذا تم تبادل المهام مع قائد الشرطة الفرنسية
واستمر عمي السعيد في نشاطه الثوري إلى غاية استقلال الجزائر، حيث أوكلت إليه مهمة الإشراف على تبادل المهام مع قائد الشرطة الفرنسية في مدينة سطيف بعد التوقيع على اتفاقيات إيفيان وكان معه عشرون مجاهدا، وقد أخبرنا بأنه سهر على أن يغادر عناصر الشرطة الفرنسية المكان دون أن يحملوا معهم أي شيء من معداتهم والبدلات الرسمية، مشيرا إلى أن قائد الشرطة حاول أخذ بعض المعدات، لكنه منعه طالبا منه الالتزام بما جاء في المعاهدات بين الحكومة الجزائرية المؤقتة وفرنسا بشأن مغادرة القوات الاستعمارية لتراب الجزائر.
وحضر عملية التسليم بحسب عمي السعيد، صحفي من جريدة «لوموند»، حيث أخبره بأن يدون بأنه قال «يمنع على عناصر الشرطة الفرنسية أن يحملوا شيئا، باستثناء أشيائهم الخاصة، مثل ملابسهم وأموالهم وغيرها من الأدوات الشخصية»، كما أشرف على عملية استعادة سلاح الثورة ومعداتها من الجزائريين عبر العديد من القرى التابعة لمدينة سطيف والعلمة، بما فيها الخناجر. وقد عمل عمي السعيد بعد الاستقلال في صفوف الأمن الوطني إلى غاية إحالته على التقاعد، كما تنقل بين العديد من الولايات، ليعود إلى مدينته الأم في العلمة.
عمي السعيد يحيي أول نوفمبر
من كل عام بزي المجاهد
ويعرف سكان العلمة اليوم عمي السعيد كواحد من رموزها خلال الثورة، حيث يتحدث العديد منهم عن فراره من السجن خلال الثورة التحريرية والعديد من النشاطات الأخرى التي قام بها، في وقت ما يزال فيه عمي السعيد يرتدي بدلة جندي الثورة صباح كل أول نوفمبر ويتجه إلى مقبرة الشهداء بالمدينة ليؤدي التحية العسكرية ويقرأ الفاتحة على أرواح رفاقه الذين سقطوا بسبب مواجهتهم للقوات الاستعمارية. وقد أخبرنا بعض السكان بأن عمي السعيد كتوم بطبعه، ولا يعود كثيرا إلى ماضيه الثوري، مشيرين إلى أن من يراه للوهلة الأولى لا يستطيع تخمين حجم العمليات السرية التي قادها، ونشاطاته المتعددة في صفوف المجاهدين، حيث يقول عنه رفاقه بحسبهم، بأنه لم يكن يتراجع أبدا في أي عملية، كما كان يتميز بشجاعة كبيرة.    س.ح

حاوره : سامي حبّاطي/تصوير: الشريف قليب

الرجوع إلى الأعلى