قسنطينة القديمة خُرّبـت بروح الملح و خراطيم المياه!

تُعيد البروفيسور سامية بن عباس، نائبة رئيسة أكاديمية العلوم و التكنولوجيات، و الخبيرة المعمارية، فتح ملف ترميمات المدينة القديمة بقسنطينة، و تكشف عن أخطاء و تجاوزات تقول إنها ارتُكِبت في معالجة هذا الملف خلال العقود الماضية، و أدت إلى تخريب جزء كبير من هذا الموروث الحضاري و التاريخي، كما تتطرق عضو مجلس “كناس” و الأستاذة الجامعية، إلى مسائل أخرى تتعلق بالعمران في الجزائر و تصورها بخصوص معالجة أزمات السكن و غيرها من المواضيع، التي تطالعونها في هذا الحوار الذي أجرته معها النصر.
حاورتها: ياسمين بوالجدري
قررت السلطات المحلية بقسنطينة إعادة النظر في الدراسة الخاصة بمناطق الانزلاقات التي أجراها مكتب “سيميكسول” الفرنسي قبل عدة سنوات، و هو أمر سبق لك أن طالبت به، فقد تحدثت عن ارتكاب أخطاء في الدراسة، ما هي قراءتك لهذا القرار؟
مكتب «سيميسكول» اعتمد في عمله على نظرة شاملة لبلدية قسنطينة من خلال سلم 1 على 50 ألف، و تطبيقه جعل سمك خط القلم يعادل 20 إلى 25 مترا على أرض الواقع بما يفوق واجهة منزل فردي على سبيل المثال، و لهذا فإن ما قدمه كان تقريبيا.
أرفض مصطلح البلدية الفقيرة و يجب استحداث وزارة للموارد البشرية
و قد سبق للعالم الجيولوجي بن عيسى عبد القادر، أن أكد بأن هذه الدراسة لا تكفي وحدها بل يجب إدراج دراسات بسلم أكبر لأخذ الفروقات الموجودة بين الأرضيات من منطقة إلى أخرى ، لكن هذه الدراسات لم تأت ، فكانت النتيجة أن مواطنين لم يستطيعوا إنجاز بنايات في مناطق قال “سيميكسول” إنها حمراء على الورق، رغم أنها في الواقع ليست كذلك، على غرار ما حدث في حي الهضبة المصنف في خانة الانزلاقات، في حين أنه يوجد على أرضية تقع فوق الصخر.
بلدية قسنطينة أعلنت بأنها ستُعِدّ دراسة جديدة حول مناطق الانزلاق ، بصفتك خبيرة ما هي مقترحاتك في هذا الخصوص؟
يمكن الاستعانة بجامعيين لهم كفاءات، و بينهم الأستاذ بن عيسى عبد القادر و شوقي بن عباس و الأستاذ بن عزوز و كلهم سبق لهم العمل مع مكتب «سيميكسول»، هناك أيضا جيل جديد من المختصين في الفيزياء الجيولوجية، كما يمكن الاستعانة بأساتذة في كلية تهيئة الإقليم و بالبروفيسور مباركي عز الدين المختص في المياه، لأن انزلاق التربة مرتبط بتسربات المياه ما يتطلب متابعة حركتها.
من منظور التعمير، ما الذي يمكن أن يقدمه التقسيم الإداري الجديد المعلن عنه مؤخرا، للمدن الكبرى في الجزائر؟

لقد رحبت بهذا التقسيم، و هنا أشير إلى أنه بصفتي عضوا في مكتب المجلس الوطني الاقتصادي و الاجتماعي «كناس» كان لي شرف المشاركة في إعداد ملف حول المدينة سنة 2000، حيث تطرقنا من خلاله إلى أمور أخِذت بعين الاعتبار ، كما أن توجيهاته قابلة للتطبيق إلى اليوم، إذ أن التقسيمات الإدارية بالجزائر كانت تخضع لاعتبارات سياسية بحتة.
مكتب “سيميكسول” أخطأ بتصنيف حي الهضبة في المنطقة الحمراء
وجدنا في هذا الملف أن من بين 1541 بلدية المستحدثة ضمن التقسيم الإداري لسنة 1984 ، توجد أكثر من 800 بلدية فقيرة، و هذا أمر غير ممكن، حيث بقيت البلديات دائما اليد السفلى في الدولة ، في حين أن التنمية لا يمكن أن تحدث بهذه الطريقة. كنتُ عضوة في المجلس الشعبي الولائي بقسنطينة لثلاث عهدات ، و كانت هناك 6 بلديات فقيرة و هذا مفهوم رفضته في الأساس ، حيث طلبت الاستماع لمسيري هذه البلديات و معرفة ثرواتها ، لذلك فأنا أتمنى استحداث وزارة الموارد البشرية للاهتمام بهذا الجانب فقط.
ما هي مقاربتك الاقتصادية في هذا الشأن؟
يجب أن يخضع التقسيم الإداري لتقسيم اقتصادي ، و في أي مخطط جغرافي يجب أن تكون هناك كتلة جغرافية حية في قلبه ، قادرة و قابلة لإنشاء الثروات ، فكل بلدية تستطيع أن تعيش بشكل مستقل اقتصاديا ، و إذا أخذنا ولاية قسنطينة كمثال ، فإنه يمكن خلق تكامل بين بلدية عين عبيد الفلاحية و قسنطينة الخدمية ، كما لا يمكن أن نصنف ابن باديس على أنها فقيرة ، إذ باستطاعة البلديات الأخرى أن تقيم مشاريع على الأوعية العقارية المتوفرة بها ، و ليس فقط بمراكز المدن و قرب المطار و الترامواي و غيره.
لدينا عقدة في ما يخص مفهوم الجهة في الجزائر ، و لا زلنا نخلط بينها و بين الجهوية، إذ يمكننا في مناطق على غرار قالمة و سكيكدة و قسنطينة و ميلة و جيجل، خلق جهة يمكن أن تحقق ثروات تفوق التخيل ، لأن لكل ولاية ميزاتها.
أسعار الأراضي الفلاحية ستتضاعف بـ 800 مرة بمجرد إعادة تصنيفها
ماذا عن حالة المدينة الجديدة علي منجلي بقسنطينة، و ما الذي يمكن أن يضيفه قرار تحويلها إلى مقاطعة إدارية؟
المدينة الجديدة علي منجلي تعتبر لوحدها قطبا حضريا بامتياز ، لكن يجب هيكلتها، إذ تلزمها كفاءات و ليس التسيير وفق ذهنيات الماضي و ا\لإدارة الضعيفة التي تعيش وضعيات مزرية.. توجد طاقات شابة يجب أن نتعلم كيف نثق فيها.
بالنسبة لي، يُعتبر مشروع تمديد خط الترامواي نحو علي منجلي مشروع القرن ، لأنه سيحدث تغييرا بشكل كبير على هذه المدينة ، لكن يجب تغيير السلوكات بركن السيارات على جنب و استعمال وسائل النقل الجماعي لتقليص التلوث و الاكتظاظ و التوتر مع التنقل بأريحية أكثر.
في الجانب العمراني ، يجب إدخال العناصر الجمالية في المحيط و العودة إلى العمل الجواري ، فهناك فوضى عارمة بعلي منجلي التي أراها خطأ أو سمِّه كما شئتِ، لكنها درس و كتاب مفتوح يجب أن نتعلم منه.. هناك غياب كلي للعمران في الجزائر عموما ، رغم وجود وزارة اسمها وزارة السكن و العمران ، بحيث لم نعط لهذا الجانب مكانته ، من خلال عدم العناية بالفضاءات الخارجية و الواجهات من حيث الشكل و العلو و كذلك الألوان ، التي أرى أنها كارثية مثلما سجلناه بمدينة قسنطينة، و قد رأينا كيف تم طلاء أحجار تاريخية بألوان البهلوان ، و حتى الأشجار ليس لها وجود بمدينة كعلي منجلي.
ماذا عن حالة مدينة قسنطينة؟

في الحقيقة، تعتبر قسنطينة مدينة قاطبة، لكنها ليست مدينة حاضرة «ميتروبول»، و الجزائر العاصمة هي «الميتروبول» الوحيد ببلادنا على اعتبار أنها عاصمة، فيما يتم التأسيس لأن تتجه وهران إلى هذا التنصيف الذي يتطلّب أن تكون المدينة المعنية، الأولى في مجالات ما، سواء افريقيّا أو مغاربيا أو على المستوى العربي أو مقارنة بدول حوض البحر الأبيض المتوسط. لكي تكون قسنطينة «ميتروبول»، يجب أن تجلب المستثمرين و تضمن سرعة تدفق اليد العاملة و شبكة بنوك و غير ذلك من الأمور.
مخطط التنمية و التعمير “بدو” بقسنطينة، في طور المصادقة عليه ، و هناك أراض فلاحية توجد في مناطق شبه حضرية ستتحول بموجبه إلى أراض عمرانية، لذلك يجب على السلطات المحلية أن تتصرف بذكاء لأخذ هذه الأوعية العقارية و شرائها، من خلال إجراءات نزع الملكية للمنفعة العامة، و أنا أؤكد أنه بمجرد المصادقة على المخطط، فسوف تقع بين عشية و ضحاها مضاربة في الأسعار تتعدى 800 مرة الثمن الحالي للعقار اليوم.
علي منجلي كانت خطأ علينا استخلاص الدروس منه
و سيسمح استرجاع الأراضي بخلق قطب “ميتروبول” الذي تحدثت عنه، و الذي لا يمكن استحداثه إلا في منطقة زواغي، و هنا سيحدث توسع للتجمعات الحضرية إلى الضواحي، عبر تلك الأراضي الشاغرة التي يجب حمايتها و تسييجها إلى حين استغلالها عندما تكون البلاد في أريحية مالية.
سبق لك أن صرحت بأن تدهور المحيط العمراني سببه غياب مختصين في التسيير و نقص خريجي معاهد التعمير القليلة عبر الوطن، هل تغيرت المعطيات اليوم؟
/تصمت للحظات ثم تضيف و قد اغرورقت  عيناها /  لدي 30 سنة من التدريس في التعليم العالي ، و أنا أتأسف كثيرا عندما أرى اليوم شبابا تخرجوا على يدي في تخصص التعمير، و هم يبيعون الخضر في الشارع .. أؤكد أن 80 بالمئة على الأقل من هؤلاء المتخرجين هم اليوم بطالون أو يعملون في غير تخصصهم بسبب عدم إدراج شهاداتهم في عمليات التوظيف، حتى أنهم منِعوا من فتح مكاتب دراسات في العمران، رغم أنهم قادرون على إعطاء حلول. لقد ضيّعنا طاقات، و أصبحنا لا نستفيد سوى من 5 بالمئة مما علّمناه في الجامعة.
تقولين إن إغفال جانب العمران أثّر على طريقة التعاطي مع أزمة السكن ، كيف ذلك؟
أتحدى كل جزائري يقول إننا نعاني من أزمة سكن ، و بقسنطينة تحديدا ، فهي أصبحت غير موجودة منذ أن كان وزير الداخلية الحالي نور الدين بدوي ، والٍ على قسنطينة، فما بالك اليوم مع المشاريع السكنية التي تمت إقامتها و التي تفوق الطلب.. لقد وقع تحايل و هناك من أخذوا أكثر مما يحتاجونه، لكن توجد إشكالية برنامج إعانات السكن الريفي الذي أدى إلى ترييف المدينة لأنه خلق تكتلات حضرية جديدة ليس لديها معايير الحضر، لقد شوهنا الريف بطريقة قانونية و حولناه إلى تكتلات حضرية خلقت طلبات جديدة لإنجاز الطرقات و الربط بالغاز و الكهرباء و الماء، و لو أدخلنا جانب العمران في هذا الجانب، لما وصلنا إلى هذه الحالة.
التقسيمات الإدارية كانت تخضع لاعتبارات سياسية
ما الحل للخروج من هذه الوضعية؟
كان باستطاعتنا البناء على نفس الأرضية التي كانت فوقها المنازل القديمة ، أو في تجمعات ثانوية ، و المختصون في التعمير المتخرجون من جامعاتنا ، يمكنهم إعادة هيكلتها بالعمل مع المهندسين المعماريين وفق مخطط عام.. المشكلة في التسيير و غياب نظرة مستقبلية.
لم تفصل السلطات بشكل واضح في مصير المدينة القديمة بقسنطينة بعد ترميمها، ما الذي تقترحينه بحكم اطلاعك على هذا الملف؟
بالفعل، لقد أعددت رسالة ماجستير لمدة 3 سنوات حول التراث و المحافظة على التراث بالمدينة القديمة و بعدها دكتوراه دولة لمدة 10 سنوات حول كيفية إعادة هيكلة المدن العتيقة بالمغرب العربي ، ثم نشرت كتابا عن مدينة قسنطينة و آخر مع الاتحاد الأوروبي حول نفس الموضوع ، و هو ما جعل بلدية قسنطينة تستعين بي وقتها في عهد “المير” الأسبق محمد الطاهر عرباوي كمستشارة.
قسنطينة مدينة قاطبة لكنها ليست “ميتروبول”
في تلك الفترة وجدت أن رخص هدم البنايات كانت تحرر بطريقة تعسفية ، و قد كان بعض السكان يتعمدون ترك خرطوم المياه يسرب الماء في أساسات المنازل طيلة الليل ، و انتظار انتفاخ الجدار من أجل تكسيره ، ثم طلب النجدة من البلدية في اليوم الموالي من أجل الترحيل. هناك حتى من كانوا يصبون روح الملح في جوانب الجدران لتتشقق ، و بعدها يأتي أشخاص آخرون ليعيشوا في المدينة القديمة لشهر و اثنين أو سنة و ربما اثنتين ، ثم يعيدون تخريب المنازل بنفس الطريقة ، و هو أمر تكرر خلال الثمانينيات و التسعينيات و أدى إلى ترحيل آلاف الأشخاص بالاستعانة بهذه الحيل.. المدينة القديمة استغلت كمكان للتحايل لأخذ مسكن جديد.
هكذا  شوهنا الريف 
بعد ذلك تم استحداث خلية المدينة القديمة وقد كنت عضوا فيها، ما العمل الذي قامت به هذه الخلية في تلك الفترة؟
لقد تم استحداث خلية المدينة القديمة سنة 1988، و واصلت العمل فيها إلى غاية 1993 عندما أصبحت عضوة في المجلس الولائي المُعيَّن ، و قد وجدت حينها أن 80 بالمئة من كل البنايات التي كانت موجودة في ذلك الوقت بالمدينة، آيلة للسقوط إذ لم تكن سوى 5 منها قابلة للعيش. في تلك الفترة نزعت تصنيف أهلية السقوط من هذه المباني، و أنشأت لها رخصا لتقويتها و إعادة هيكلتها ، و ذلك بشكل مفصل و حالة بحالة،  و بذلك أخرجناها من المنطقة الحمراء التي كانت ستُهدَم بموجبها.
أذكر أنه و بين عشية و ضحاها، و كان ذلك يوم جمعة، صدر قرار بتهديم 35 بناية في عهدة أحد الولاة السابقين ، رغم أن وضعياتها لم تكن تستدعي ذلك.. وقتها تمت الاستعانة بأساتذة  جامعيين وجدوا في هذا الأمر فرصة لتحقيق الربح السريع.. المدينة القديمة كانت دائما وسيلة للحصول على مسكن أو تحقيق الثراء ، حتى أن الترميمات التي أجريت في جزء من واجهة السويقة قبل سنوات لم تراع خصوصية المدينة القديمة بقسنطينة و اعتمدت على نمط بنايات غرداية، و أضيف هنا أن بعض هذه المنازل كانت تنهار أثناء ترمميها بسبب استعمال مواد غير مناسبة.
لم نعطِ لجانب العمران مكانته
هل بالإمكان استرجاع المدينة القديمة في شكلها السابق؟

إطلاقا ، فحاليا و بدون مبالغة، صار أكثر من 50 بالمئة من نسيج المدينة القديمة غير صالح، في حين أنه سبق وضع المخطط الدائم للحفاظ على المدينة القديمة، و صودق عليه في عهد الوالي الأسبق عبد المالك بوضياف و بطريقة كانت تقريبا بالإكراه،  فقد كانت عندي تحفظات كبيرة بخصوصه، و حتى المصادقة عليه اختيرت خلال التوقيت الذي كنت فيه خارج الوطن في إطار مهمة عمل مع المجلس الوطني الاقتصادي و الاجتماعي "كناس".. لقد كانت هناك أخطاء كبيرة في معالجة الملف.
ما الذي قدمته مشاريع تظاهرة عاصمة الثقافة العربية للحفاظ على هذا الموروث؟
كنت ممن رأى في مشاريع تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، فرصة من ذهب لاسترجاع المدينة القديمة ، فتم اختيار المساجد و الزوايا و بعض الدروب و الأزقة لترميمها ، لكن ذلك لم يحدث لليوم،  و هنا أشير إلى أن الجزائر تعرف نقصا في المختصين في الترميم ، و أنا شخصيا خبيرة في الترميم و أحمل التنصيف 40، لكن لم يتم يوما طلب خدماتي رغم أني ابنة قسنطينة و أعرف المدينة القديمة جيدا. في هذه المشاريع استُعين بمكاتب دراسات محلية جديدة ، أما الأجانب فأدخلوهم بفيزا سياحية،  في حين كان يفترض أن يكون الديوان الوطني لاستغلال و تسيير الممتلكات الثقافية المحمية العين الساهرة على تلك المشاريع عندما كان مشرفا عليها.
أقترح فتح استغلال المدينة القديمة للخواص 
لا تزال الرؤية غير واضحة بخصوص مصير المدينة القديمة بقسنطينة بعد إنهاء الترحيلات منها، هل لديك تصور معين في هذا الشأن؟
يجب على البلدية أن تلعب دورها الرئيسي هنا، لأن مخطط الحفاظ على المدينة القديمة، التي أصبحت اليوم حيا ذا بعد تاريخي و ليس مدينة، لم يقترح سوى الترميم أو التجديد.. المفروض هو استغلال البنايات حسب المتطلبات، و ما أخشاه هو أن المنازل التي وقّع أصحابها على تنازلات للسلطات، بعد الحصول على سكنات جديدة، سيعاد احتلالها مجددا بشكل رسمي أو تحت الطاولة.
يجب إدخال البعد الجمالي بعلي منجلي
أقترح من الناحية الهيكلية أن ترمم بنايات المدينة القديمة، كما أنه لا يمكن تفريغ مدينة من السكان و جلب آخرين، فسكانها أولى بها في هذه الحالة، لذلك فقد كنت ضد الترحيلات الجماعية برمتها، و قد سبق لي اقتراح إخلاء المساكن المنهارة و ترميمها، وفق برنامج يضم تحويلها لدروب سياحية و منازل تستعمل كفنادق تضم «دار عرب» بجميع تفاصليها، مثل ما هو موجود في المغرب و في تونس بشكل أقل ، إذ لا يمكن تركها شاغرة.
ليس على الدولة أن تتكفل بالترميم ، لكن ما يتوجب عليها هو ممارسة الرقابة و التوجيه، إذ يمكن فتح الفرصة للخواص عبر المزايدة العلنية، لكن وفق دفتر شروط تفرضه السلطات، سواء تعلق الأمر بتحويل البنايات إلى مرافق ثقافية أو سياحية.
هل ترين أن مقترحك بفتح استغلال المدينة القديمة للخواص قابل للتطبيق فعليا؟
أجل، هذا ممكن ، لكن بشرط الصرامة في الرقابة و الدراسة،  و إعادة النظر في مخطط الحفاظ على المدينة القديمة.. هناك من اقترح إنجاز واجهة معمارية في السويقة السفلى، لكن هناك أولويات أخرى كفتح مناصب شغل ، عوض إنجاز واجهة لا تسمن و لا تغني من جوع و لا تصلح إلا للتفرج.
قسنطينة القديمة تحوّلت إلى وسيلة للثراء و الحصول على سكن 
لكن هناك من يقول أن السويقة السفلى تحولت إلى أطلال و شُوِّهت بالفعل مدخل المدينة القديمة، ما رأيك؟
بين هذه الأطلال و بين السكنات المهددة بالوقوع، أرى أن الأولوية هي في الحفاظ على البنايات التي ما تزال قائمة ، و عند الانتهاء منها يمكن العودة إلى السويقة السفلى التي اندثرت و انتهى الأمر. ما يمكن القيام به، هو تنظفيها و إنجاز مشروع إنارة و مخطط توجيهي يتضمن مسارا يعرض فيه الشكل الأصلي للمباني، يمكن أيضا وضع لافتات إشهارية تبين كيف كانت المنطقة و ما الذي أصبحت عليه اليوم، لتركها في الذاكرة الجماعية.
بالموازاة مع ذلك يجب الإسراع في إصلاح ما لم يتم هدمه و الذي كان سيهدم،  و عندما ننهي هذه الأشغال و نكون في أريحية و نجد كذلك المستثمرين ، يمكن التوجه إلى السويقة السفلى و فتح ورشات للحفريات و التنقيب عن الآثار على مستواها، بإشراف  من المركز الوطني للبحوث الأثرية.
يجب تحصين الجهة العلوية من السويقة والقضاء على الانشقاقات و إعادة وضع مخطط توجيهي لكل بناية، وفق دفتر شروط يفتح للخواص ، بعد ذلك نفتح نقاشا مع المجتمع و سبرا للآراء يمكن القيام به حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمعرفة آراء المواطنين، ثم اعتماد مشروع قائم بذاته.. أي قرار بخصوص مستقبل المدينة القديمة يجب فتح نقاش حوله مع الجميع، و مهما أخذ من وقت.

متخرجون في العمران يبيعون الخضر بالشو ارع  
ماذا عن باقي المباني القديمة التي تقع خارج المدينة العتيقة؟
نعلم أن البناية التي أنجزت سنة 1962، على الأقل، صار عمرها اليوم 57 عاما، لذلك يجب العمل عليها بالقضاء على التشققات و مشاكل الفيضانات و الأقبية و الكتامة. رحبت بإقرار مشروع لترميم هذه البنايات خلال السنوات الماضية، فلقد بنت الدولة بما فيه الكفاية، و على الوزارة المعنية أن تعمل فقط على المباني القديمة، بالاستعانة بمكاتب الدراسات و مديرية التكوين المهني من خلال التكوين في حرف البناء لتخريج عمال أكفاء في طرق التدخل في هذا النوع من السكنات.
تراهن الجزائر على استحداث مدن ذكية في المستقبل، و هناك من يقولون إن المدينة الجديدة علي منجلي قادرة على بلوغ هذا التصنيف، هل توافقينهم؟
المدينة الذكية تعني أن كل ما يجري في المدينة، يمكن أن نستغني فيه عن العنصر البشري، و بأن كل شي ء يتم في عالم افتراضي ، و هذا ليس موجودا بعد ، إذ يلزم تحديث الإدارة و التسيير و العمل بنظام الإعلام الجغرافي ، و كذلك اعتماد أنظمة تعمل في الوقت الحقيقي عبر الحاسوب و الصورة و المعطيات الديمغرافية و المخططات، و ذلك بعد خلق بنوك معلومات رقمية و مفصلة عن المدينة، في أننا نفتقر اليوم حتى إلى طرقات صالحة!
أرفض الترحيلات الجماعية
و ماذا عن حالة مدينة سيدي عبد الله؟
سيدي عبد الله يُنظَر إليها من منظور آخر، فمن المفروض أنها ليست كباقي المدن، هي مدينة ناشئة، و يمكن أن تكون مدينة ذكية بشرط ألا يتم ملؤها فقط بالسكنات و الترحيل إليها في إطار السكن الاجتماعي، وقبل الحديث عن هذا المفهوم يجب الحديث عن الطاقة المتجددة التي يتعين على الجزائر اعتمادها و إعطاء المواطن حرية استعمالها في المنازل و في الساحات العمومية و غيرها.
تم اختيارك كعضو في الأكاديمية الجزائرية للعلوم و التكنولوجيات التي تأسست سنة 2015 بتعليمة من رئيس الجمهورية، ما الذي قدمته هذه الهيئة خلال الأربع سنوات الماضية، باعتبارها أعلى سلطة علمية في البلاد؟
افتخر بانتمائي إلى هذه الهيئة التي تضم خيرة علماء الأمة و في مجالات عدة، كما أن رئيستها هي أول امرأة عربية و أفريقية مختصة في الفيزياء النووية، لكن للأسف نحن نعاني اليوم من عدم تخصيص مقر و ميزانية للأكاديمية، و حتى قانونها الداخلي لم تتم المصادقة عليه، مع ذلك، أقمنا طيلة الأربع سنوات الماضية نشاطات علمية و نشرنا كتبا و أخذنا براءات اختراع و حتى جوائز وطنية و دولية.

أتحدى كل من يقول أن قسنطينة تعاني من أزمة سكن 
وضعنا أيضا خطة عمل بالتنسيق مع الجامعات و القطاعات الأخرى ، بغرض وضع العلم في خدمة التكنولوجيا، كما حضرنا برنامج تكوين، في المقابل، مكاتبنا اليوم موجودة داخل بناية قديمة كانت مقر المعهد الوطني للتجارة بالعاصمة، و هذا أمر مؤسف.
أين وصل مشروع تهيئة الموقع الأثري «تيديس» بقسنطينة، الذي تشرفين على الدراسة الخاصة به؟
بحكم أني مختصة في ترميم المواقع الأثرية، أسندت لي دراسة تيديس، بعد اجتياز مناقصة، و قد اقترحت أن أكون رئيسة مشروع مخطط الحفاظ على هذا الموقع، و ذلك في 2010، لأني كنت أستاذة جامعية لا أملك مكتب دراسات كاليوم، لذلك عملت مع مكتب الدراسات العمومي “أورباكو”، لكني لم أحصل على الأمر بانطلاق الخدمة إلا في 2012 بسبب الإجراءات الإدارية.
بعد ذلك أعددنا المرحلة الأولى من المشروع و سلمناها و تمت المصادقة عليها في 2014، ما ساعدنا على إنهاء إعداد المرحلة الثانية و تسليمها في جويلية 2015، حيث ضم العمل ملفا فيه حوالي 40 خريطة و 600 صفحة، تتضمن إحصاء طوبوغرافيا و أركيولوجيا لكل البقايا الموجودة في الموقع، لكن منذ ذلك الوقت و إلى اليوم، لم تبرمجنا الولاية لتقديم الدراسة و المصادقة عليها، رغم أنه كان بإمكاننا تسليم المشروع حتى قبل انطلاق تظاهرة عاصمة الثقافة العربية، بالمقابل تسجيل مشروع يضم إنجاز إحاطة خارجية و مراحيض، كلف 36 مليار سنتيم، في حين أن دراستنا مركونة على جنب.
لهذه الأسباب توقف مشروع حفريات الحضارة الفاطمية بموقع “تيديس” 
ما الذي ستقدمه دراستك لهذا الموقع؟
موقع «تيديس» سيعيد تأريخ الجزائر. هناك مناطق به اقترحنا القيام بحفريات على مستواها، لأن المعمر الفرنسي عندما دخل الجزائر بحث عن تاريخ أجداده و هم الرومان، و آندريه بيرتييه اكتفى بأن اكتشف أن تيديس موقع روماني، فتم هدم آثار العرب للوصول إلى آثار أجداده، رغم أنه و بعدهم، تعاقبت الحضارات الإسلامية على قسنطينة، لذلك فإننا وجدنا آثار للحضارة الفاطمية بالموقع.
على هذا الأساس ،  اقترحنا القيام بحفريات بالمكان ، كما وجدنا بمحاذاة الموقع تركيبات أسوار يمكن أن ترجع للقرن الثالث قبل الميلاد ، حيث اقترحنا تنظيفه و إنجاز مسارات سياحية للزوار ، مع تحويل بلدية بني حميدان إلى قطب سياحي وطني، أما في قرية الصفصافة الصغيرة و القريبة من المكان، فاقترحنا بناء منازل للصناعات التقليدية و مراقد تتماشى مع هذا المشروع السياحي و الثقافي بامتياز.                                
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى