يؤكد الخبير الاقتصادي و وزير الاستشراف الأسبق بشير مصيطفى، بأن التبعات الاقتصادية للحراك الجزائري، لم تتجاوز إلى الآن مرحلة الانعكاسات النفسية، و أنها لم تؤثر فعليا على الواقع بالشكل الكبير و المخيف الذي يتصوره البعض، بالرغم من أننا نعيش، كما قال، حالة شبه ركود، أثرت على قيمة العملة الوطنية التي تراجعت بنسبة 10 بالمئة مقارنة بسعر الصرف، موضحا بأن الوضعية المالية التي تعيشها البلاد بفعل التضخم و تراجع القدرة الشرائية، هي نتاج قرارات سبقت الحراك بأشهر، على غرار الاستدانة الداخلية و حل وزراة الاستشراف و التبعية للمحروقات، فيما استبعد احتمال غلق المؤسسات التي يخضع ملاكها للتحقيق و المحاكمة أو إمكانية تسريح عمالها.
حاورته : هدى  طابي
الخــوف مـن الركــود أضعـــف العملـــة الوطنيـــة
 النصر:  تعيش الجزائر ظروفا استثنائية منذ بداية الحراك، ما هي الانعكاسات المباشرة و المستقبلية للأحداث الحالية على الاقتصاد الوطني؟
ـ بشير مصيطفى: إلى غاية الآن لا يوجد حديث عن تبعات اقتصادية و تجارية حقيقية، نظرا لطبيعة الحراك، فالمسيرات تنظم أيام الجمعة و هي أيام عطل، أما الوقفات الاحتجاجية التي تتخلل الأسبوع، فتكون متقطعة عموما، ولا تترتب عنها انعكاسات محسوسة على الواقع الاقتصادي، وعليه يمكن القول بأن التأثير هنا جزئي و مرتبط أساسا بإحساس أو شعور عام بوجود حالة ركود، مع أن ما هو حاصل حقيقة، لا يتعدى كونه شبه ركود، مع ذلك يبقى تطور الأمور رهين ترقب ما ستؤول إليه الأوضاع في الأيام المقبلة، خصوصا في ظل تراجع قيمة الدينار.
 وهنا لابد من التأكيد على أن التخوف من انهيار قيمة العملة الوطنية دفع بالكثير من حامليها إلى تحويلها إلى عملة صعبة، وهو ما أفرز سيولة كبيرة انجر عنها انخفاض في قيمة الدينار بنسبة 10 بالمئة، و ارتفاع قيمة العملة الصعبة بنفس النسبة، أي أن محاولات التخلص من الدينار أخلت بالتوازن  بين العرض و الطلب، وعليه يمكن القول عموما، بأن التأثيرات المحتملة في حال طال عمر الحراك، ستنقسم إلى قسمين، حسب اتجاهات التأثير الداخلية والخارجية.
كيف تفسرون إذن حالة الركود التجاري و الاقتصادي التي تعرفها الأسواق الجزائرية هذه الأيام؟
ـ ركود الأسواق لا علاقة له بالحراك الشعبي، بل هو راجع لضعف القدرة الشرائية للمواطن، و انخفاض قيمة الدينار، ما أثر بالسلب على القيمة الحقيقية للنقود، و بالتالي فرض على المواطن إلزامية إعادة ترتيب الأولويات،  حيث باتت اهتماماته محصورة في توفير المواد الغذائية، وهو واقع نعيشه منذ أشهر بسبب التضخم الحاصل الذي يقاس معدله برقمين في السوق، وهو واقع انجر عنه ارتفاع كبير في الأسعار، أثر على ميزانية العائلات و الحركية التجارية العامة، التي يشار إلى أنها متوقفة منذ حوالي 7 إلى 8 أشهر و تعد من بين تبعات قرار الاستدانة الداخلية.
 الاستدانة الداخلية أفرزت التضخم و أضعفت القدرة الشرائية
يعاب عليكم كونكم ممن ثمنوا قرار اللجوء إلى التمويل غير التقليدي ما ردكم على ذلك، و هل تبرئة بنك الجزائر للذمة من هذا الإجراء دليل على خطورته؟
ـ للتوضيح أنا لم أثمن القرار ولم أزكيه، بل حاولت أن أقدم أمثلة تحليلية عن الحالات التي يمكن خلالها اللجوء إلى الاستدانة الداخلية، قلت إن هنالك بعض الدول، كانت قد لجأت إلى صك النقود و طرح سندات الخزينة على البنك المركزي، لأن اقتصادياتها متينة ، على غرار ما فعلته اليابان سنة 1992، لكنني أوضحت كذلك أن هذا الإجراء لا يتناسب مع النموذج الاقتصادي الجزائري الضعيف. وشددت على أن اللجوء إلى قرض من البنك المركزي سيفرز التضخم  الاقتصادي، وهو ما حدث فعلا، إذ انخفضت قيمة الدينار بشكل كبير، و انخفضت معها القدرة الشرائية للمواطن، وذلك لأن اقتصادنا لم يتحمل طبع النقود في ظل انعدام مقابل من الناتج الداخلي  الخام، ما جعل السيولة في السوق تتفوق على القيم الحقيقية للبضائع، بمعنى أن القيم الاسمية للنقود، أكبر من القيم الحقيقية للسلع و الخدمات، وهو تحديدا ما يعرف اقتصاديا بالتضخم.
 و هنا لابد من التأكيد على أن الانعكاسات التي أفرزها القرار هي نتاج لاستفاقة متأخرة، خصوصا و أن الاستجابة لهذا النوع من التدابير، لا تكون فورية عادة، بل تظهر بعض سنوات و هو ما حدث في بلادنا خلال السنتين الأخيرتين.
تصنيفات الدولة ستحدد مستقبل الاستثمار الخارجي في الجزائر
 ماذا عن الانعكاسات الدولية التي ستترتب عن تعطيل الآلة الاقتصادية وهل بالفعل هناك مؤسسات بترولية وشركات سحبت استثماراتها من الجزائر؟
ـ هنا يمكننا العودة للحديث عن اتجاهات التأثير الخارجية سالفة الذكر، و التي تمس المستثمرين الأجانب الذين لديهم نية في الاستثمار في بلادنا،  وأظن أنهم لن  يغامروا بخوض التجربة إلى غاية صدور التصنيفات الدولية لمناخ الاستثمار الخارجي في الربع الأول من 2019، و هي تصنيفات مرجعية موثوقة تصدر عادة عن وكالات عالمية مثل الوكالتين الفرنسيتين  موديتش و كوفاس، اللتين تحددان درجة المخاطرة في الاستثمار و التجارة في الدول.
كما أن أية نية أجنبية لدخول السوق الجزائرية ستتحد بناء على تقارير صندوق النقد الدولي و البنك العالمي للسداسي الأول من 2019، والتي يمكن أن تحمل مؤشرات تحذر من حالة شبه الركود الحاصلة، مع ذلك فإن التصنيفات العالمية الحالية لم تدرج الجزائر بعد في أي خانة وذلك راجع إلى أن تأثير الحراك خفيف و غير محسوس.
إضافة إلى ذلك فإن مستقبل الاستثمارات الأجنبية يحدد حسب مواقف الدول « قوة أو ضعف»، و موقف الجزائر لا يزال قويا وكل المؤشرات ثابتة، لأن كبريات مؤسسات الدولة لم تتوقف، وبالتالي فلا حديث عن أي خطر قد يطال الاستثمارات، أو يؤثر على عقود الشراكة الأجنبية.
تراجع في نسبة الحجوزات نحو الجزائر بنسبة 3.7 بالمئة
 بلغة الأرقام ما تقييمكم للخسائر التي تحصيها الجزائر يوميا بسبب الاضطرابات الخاصة؟
ـ رسميا لا توجد أرقام يمكن تداولها، وذلك كما ذكرت راجع إلى أن تأثير الأحداث الحالية هامشي، ولم يتعد الجانب النفسي، نظرا لحصر المسيرات في أيام العطل الأسبوعية، الأرقام الوحيدة المسجلة إلى غاية الآن تخص تراجع حجوزات السفر نحو الجزائر بنسبة 3.7  في المئة  خلال الأربعة أشهر الأخيرة، حيث أن هناك أجانب ألغوا حجوزاتهم وآخرون أجلوها.
 اقتصاديا يمكن أيضا الحديث عن تبعات احتجاجات المعلمين على الأقل في التعليم الأساسي، و التي يمكن اختزالها في حجم ساعي قدره 17 يوما من التأخير، ستكون لها انعكاسات سلبية على رواتب المعلمين.
الفائض في الميزان  التجاري مؤشر اقتصادي صحي
 لكن هناك حديث متكرر أن سنة 2019 ستشهد انهيارا حقيقا للاقتصاد الجزائري، ما رأيكم في هذا الطرح، وكيف يمكن تفادي حدوثه؟
ـ هو حكم مبالغ فيه، وضعية الاقتصاد الوطني لا تزال متماسكة واحتياطي الصرف لا يزال محترما «في حدود 81 مليار دولار»، و هي ميزانية كافية لسد نفقات الاستيراد لقرابة ثلاث سنوات، وبالتالي نسبة الخطورة في توازنات ميزان المدفوعات ضعيفة، ولو أن هناك نقصا في ما يتعلق بموازنة الحكومة التي تعاني العجز، وهو وضع مطروح منذ سنوات.
 عكس ذلك، فإن الميزان التجاري قد حقق هذه السنة ولأول مرة منذ أربع سنوات، ارتفاعا محسوسا و سجل فائضا في الثلاثي الأول من السنة، قدره 300 مليون دولار، وهو مؤشر ملفت للنظر، يبين بأن الأوضاع الاقتصادية تسير نحو التحسن.
أما بخصوص الحلول الممكنة لدفع الاقتصاد الوطني إلى الأمام، و حمايته من الانهيار، فلا يوجد بديل عن تحسين مناخ الاستثمار، العمومي و الخاص، و تحديدا القطاع الخاص عن طرق تبسيط الإدارة و تشجيع التصدير لأن هذا القطاع يتوفر على طاقات هائلة، عكس القطاع العمومي المتوقف منذ سنوات بفعل البيروقراطية، بالمقابل فإن الخواص في حال سمح لهم بالتوسع، قادرون على خلق الإنتاج، حسب الاحتياجات المحلية و الخارجية ، شريطة أن توفر الحكومة المرافقة و تعيد النظر في سوق الصرف و في  آليات منح القروض.
 محاسبة رجال الأعمال لا يعني الندرة أو تسريح العمال
تحرك العدالة و جر رجال أعمال و مستثمرين كبار إلى المساءلة و المحاسبة، هل سيفرز غلقا محتملا للشركات الخاصة و تسريحا جماعيا أو ندرة في السلع؟
ـ صحيح أن التحقيقات جارية بالنسبة لرجال المال و الأعمال، لكن هذا لا يعني توقف شركاتهم الاقتصادية، لأن هذه المؤسسات لا تسير عن طريقهم مباشرة، بل يعتمدون في تسييرها على مدراء تنفيذيين، وبالتالي فإن المحاسبة لا تعني توقف المشاريع.
 مثلا « سيفيتال» لا تزال تسير بشكل عادي، رغم التحقيقات التي طالت صاحبها، بدليل أن مادتي الزيت و السكر لا تزالان متوفرتين و لا أعتقد أنهما ستنقصان، كوننا نتحدث هنا عن شركات ناشطة ذات أسهم و رؤوس أموال ضخمة.
 بخصوص التخوف العمالي من التسريح، أقول إنه محصور في الجانب النفسي و معزول عن الجانب الاقتصادي ، إذ لم نرصد حتى الآن أية مؤشرات  تنذر بغلق شركات أو تسريح العمال أو انقطاع التمويل بالسلع و غلاء في أسعارها، بمعنى أننا إلى الآن بعيدون عن الأسواق، وأن التخوف لم يتعد بعد الجانب النفسي.
 قبل أيام من رمضان، كيف تتوقعون واقع الأسواق وهل سيتمكن قرار الحكومة بتسقيف الأسعار من الصمود؟
ـ لا أعتقد أن قرار التسقيف سيصمد فعليا، لأنه اصطدم منذ البداية برد فعل قوي من قبل التجار، وهنا لا يمكننا أن ننفي بأن إمكانيات وزارة التجارة محدودة، و أنها لم تتمكن من التحكم في الأسواق خلال الظروف العادية، فما بلك بفترة استثنائية أين يكثر الطلب مثل رمضان، و بالتالي أتوقع بأن التجار سيتفوقون كالعادة على الحكومة، في ظل غياب آليات رقابة قوية، و سيكسرون قرار التسقيف و سيكون هناك ارتفاع في الأسعار.
 كنتم جزء من الحكومة الجزائرية في مرحلة  البحبوحة، لماذا لم تحذروا حينها من التبعية المطلقة للمحروقات، لماذا لم يقلع الاقتصاد الوطني رغم ثراء الخزينة آنذاك؟
ـ فك الارتباط بالمحروقات كانت أولوية القطاع الوزاري الاستشرافي الذي كنت أرأسه قبل سنوات، وقد أنجزنا تفعيلا لهذا المسعى،  ما يعرف برؤية الجزائر 2030، وهي عبارة عن خارطة طريق اقتصادية مبنية على التنوع، دعمناها بداية من 2012 بمخطط نموذج النمو 2013ـ2019، وباشرنا في إطاره بإنجاز 120 مشروعا تنمويا، لكن مع الأسف الشديد، تم حل الوزارة سنة2013، وبالتالي بقيت الرؤية و النموذج  بدون تطبيق، لغياب هيئة إشراف تتكفل بمتابعة ملفات المشاريع، لأن الأمر لا يتعلق بملف قطاعي، بل بملف اقتصادي عام، لا يمكن إتمامه في ظل انعدام قطاع كلي، فما هو متوفر حاليا هي عبارة عن قطاعات جزئية عمودية، والقطاع الأفقي الوحيد الذي يمكنه متابعة تنفيذ المخطط، هو التخطيط أو التنمية أو الاستشراف ، ولهذا بقيت الحلول حبرا على ورق.
 هل هذا يعني بأن التعامل مع وزارة الاستشراف لم يكن جديا؟
ـ المشكل هو تقني بحت، الوزارة حلت في ظل ظروف خاصة، فالجزائر كانت تتمتع بقوة مالية كبيرة جدا، حيث أن احتياطي الصرف بلغ حينها 198 مليار دولار، فيما وصل سعر برميل النفط إلى 123دولارا، بمعنى أن البحبوحة المالية ألغت الحاجة إلى الاستشراف، وهي خطوة غير مدروسة، لأن المؤشرات بدأت تتجه نحو الأحمر، بمجرد إنهاء الاعتماد عليه.
نموذج النمو الجديد كان قد تنبأ بالوضع الحالي، وكنا حينها قد ضبطناه باعتماد قيمة  70 دولارا للبرميل في آفاق 2019، وهو ما يحدث اليوم فعليا، ويؤكد أهمية الاستشراف، خصوصا وأن موازنة الدولة الجزائرية مبنية على العجز منذ سنوات، وعلى قانون المالية التكميلي، وهو إجراء راجع لانعدام مركزية الاستشراف التي لا يمكن لأي قطاع بديل عن الوزارة المحلة أن يتحكم في آلياته.
هـ/ط

الرجوع إلى الأعلى