• الشركات المبدعة تتبنى فلسفة التجديد من أجل المساهمة في تغير الحياة البشرية

في هذا الحوار، يتحدّث الكاتب والباحث الأكاديمي الدكتور بلكبير بومدين، عن كتابه «الطّريق إلى الابتكار والريادية» الصادر عن دار «الوطن اليوم»، وعن أهم ما جاء في فصوله وأقسامه، ومنها التميّز وتفوق الأداء، والابتكار، والترتيبات التنظيمية التي تتفوق على التكنولوجيات والأفكار الذكية والاستراتيجيات البارعة في صنع التميّز والإبداع. كما يتطرق في ذات السياق لواقع المناخ المحرك للإبداع والأداء في المنظمات والشركات العربية. وعن شؤون أخرى ذات صلة بعالم الابتكار والريادية وإبداع وتفوق وتألق الأداء.
الدكتور بلكبير بومدين، للتذكير، كاتب وباحث جزائري، وأستاذ جامعي محاضر متحصل على شهادة الدكتوراه في تخصص علوم التسيير (التخصص الدقيق: الثقافة التنظيمية، إدارة التغيير، الابتكار). له العديد من الكتب، من بينها: «إدارة التغيير والأداء المتميز في المنظمات العربية»،   «عصر اقتصاد المعرفة»،   «دراسات ميدانية في إدارة الأعمال» وغيرها من المؤلفات.   
في كتابك «الطريق من الابتكار إلى الريادية»، تحدثت عن التميّز وتفوق الأداء، وقلت أنّ التكنولوجيا أو الأفكار الذكية، أو الإستراتيجية البارعة ليست وحدها ما يجعل الشركات متميزة أو الأداء متفوقا ومتألقا، إنّما الترتيبات التنظيمية. هل توضح للقارئ؟
بلكبير بومدين: تماما. وهذا ما جاء أيضا في دراسة الباحث «توم بيترز» حول «البحث عن التميّز»، لغرض تحديد نماذج يمكن محاكاتها والتعلم منها. وهي دراسة تتعرض إلى عدد أقل من المنظمات، ولكن بصورة أكثر عمقا، دون التركيز على وجهة نظر رجال الإدارة العليا فقط، فقد أمضى الباحث وقتا طويلا في محاولة فهم وجهة نظر كلّ من رجال الإدارة الوسطى وهؤلاء حسب الباحث يمثلون خط الإدارة الأوّل في قاعدة التنظيم، وقد تمّ التوصل إلى أنّ ما يجعل الشركات متميزة لا يمكن أن يرجع إلى أشياء مثل التكنولوجيا، أو الأفكار الذكية، أو الإستراتيجية البارعة، أو استعمال أدوات، فمثل هذه الأشياء متاحة حسب الباحث لأي شخص يبحث عنها. إنّما يرجع السبب الّذي يجعل أداء الشركات متميزاً وفي القمة، إلى الترتيبات التنظيمية، من خلال الوفاء باحتياجات العاملين على نحو أفضل، وجذب عاملين أفضل من العاملين الذين يعملون لدى منافسيهم، كما أنّ هؤلاء العاملين أكثر حماسا لإنجاز أعمالهم بصورة ممتازة للغاية، بصرف النظر عما يعملونه. كذلك من خلال الوفاء أيضا وعلى نحو أفضل باحتياجات العملاء لأنّ هذه الشركات إمّا أن تكون أكثر ابتكاراً في توقع احتياجات العملاء، أو أكثر مقدرة على الوفاء بتوقعات العميل، أو أفضل في تسليم منتجها أو خدمتها على نحو أرخص من غيرها، هذه الشركات تتمتع بتوليفة من كلّ ذلك. كما يوصي الباحث بأنّ تأكيده على استخدام نماذج يُقتدى بها من الشركات المتميزة في أدائها لا يقصد به تقليدها تقليدا أعمى، لأنّ الثقافة السائدة والأسلوب الّذي تتبعه مختلفان عما هو موجود لديهم، ولكن الهدف من وراء ذلك هو توضيح وإبراز أمثلة كافية تستطيع أن تستخلص منها عدة أفكار يمكن أن تتبناها ثمّ تطوعها حتى تلائم بحثك المستمر عن التميز والتفوق في الإدارة.


ما الّذي يمكن أن تقوله عن واقع المناخ المُحرِك للإبداع، وللأداء المُتميّز في المنظمات والشركات العربية؟
بلكبير بومدين: من المعروف أنّ المُناخ التنظيمي يساهم بدرجة كبيرة في نجاح المنظمات وتفوقها، كما يساهم في الوقت ذاته وبالدرجة نفسها في فشلها وتعثرها. لهذا يمكننا أن نتساءل عن تأثير الثقافة السائدة في المنظمات والشركات العربية على تحقيق الإبداع والابتكار والتفوق في الأداء؟ لقد أُثير هذا السؤال مراراً وتكرارا،ً من قِبل كثير من الباحثين والمختصين وحتى الممارسين، ونال الكثير من الاهتمام. فنجد أنّ الباحث (Minwir A. Shammari,)، قد حاول دراسة عامل الثقافة التنظيمية في الشركات الأردنية الصناعية، ومعرفة علاقتها مع الأداء، حيث توصل إلى أنّ هناك مستوىً مرتفعاً من المكافأة، والمخاطرة، وقبول الاختلاف، وأنّ هناك مستوى منخفضاً من الهيكلة، والمسؤولية، والدفء في العلاقات، والدعم للأفراد، ومعايير الأداء والانتماء للمؤسسة، واستنتج وجود علاقة سلبية ذات دلالة بين بعدين من أبعاد الثقافة التنظيمية (المسؤولية والدعم للأفراد) والنمو في المبيعات. وأمّا فيما يتصل بقيم العمل عند المديرين فيوضحها الجزائري الدكتور عبد الحفيظ مقدم، في أنّ القيم الثلاث الأولى التي تحتل الأهمية عند المديرين في المنظمات والشركات، هي المسؤولية والشعور بالتحصيل والأمن والاستقرار، أمّا القيم التي تحتل المراتب الأخيرة فهي الترقية، واحترام الآخرين والجو الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية. أمّا الدكتور غيات بوفلجة، فيعتبر تنظيمات الدول العربية ودول العالم الثالث عموما، تتواجد في مجتمعات نامية، إذ هناك انتشار الأمية وحداثة هجرة كثير من العمال من الوسط الريفي إلى المدن وضواحيها، والتحوّل من الأعمال الفلاحية إلى الأعمال الصناعية. كلّ ذلك أدى إلى ظهور بعض القيم والعادات داخل المجتمع، من ذلك الولاء للقبيلة، والميل إلى الكسل وعدم إعطاء الوقت حقه من الاهتمام، وعدم التعوّد على العمل تحت إشراف «مسؤول» والانصياع لأوامره.
كما أنّ هناك موقفا ميّالا لعدم عمل المرأة، والشك في علاقات المرأة العاملة، وميل كثير من أفراد المجتمع إلى القناعة والإتكالية والخمول تجاه العمل الجدي، نتيجة طول مدة الاستعمار والتخلف، وقد تمخض عن هذا المحيط مجموعة من القيم التقليدية داخل التنظيمات تعوق الأداء المتميّز.
هل يمكن الحديث عن فلسفة الابتكار والتجديد من أجل تغيير الحياة جذريا؟
بلكبير بومدين: إنّ الشركات التي تتبنى فلسفة الابتكار والتجديد، من أجل المساهمة في تغير الحياة البشرية جذريا، هي شركات مبدعة، مبتكرة ومتميزة في أغلب الأحيان، ولتأكيد ذلك قدم الباحث (Howard Rothman,) دراسته (50 Companies that Changed the World)، حيث اختصر فيها بعد سنوات عديدة من البحث والملاحظة تجربة 50 شركة كبيرة وصغيرة تميّزت بالتجديد والابتكار، وشكلّت مسار المشروعات الحديثة المتميزة في عالم الأعمال، كما عملت على تغيير الحياة تغييرا جذريا وبشكل دائم، من خلال نضال بعض الأفراد داخل هذه الشركات، ممن يتمتعون برؤية غير عادية وبالشجاعة والالتزام من أجل تحقيق أفكارهم ودفع شركاتهم للنجاح. حيث إنّ الهدف الأساسي هو البحث عن الوسائل المختلفة التي جعلت هذه الشركات متميزة بالتغيير، مع البحث بتمعن في الشركات التي حققت أهدافها المرجوة بنجاح برغم التحديات والتهديدات التي واجهتها.
وتمّ التوصل إلى ترتيب الشركات في قائمة تضم 50 شركة انطلاقا من درجة تأثيرها في إحداث التحوّل والتغيير الثقافي في محيطها، إذ ساهمت على سبيل المثال في كيفية تحوّل وسائل انتقالنا من استخدام القطارات والسيارات إلى استخدام الطائرات والصواريخ، وكذلك في انتقالنا من الصحف إلى الإذاعة والتلفزيون ثمّ إلى الفضاء الإلكتروني. وفي كيفية مرورنا بعملية التحوّل الاجتماعي، حيث يستنتج الباحث في هذا الصدّد أنّ كلّ ما سبق راجع بدرجة مهمة إلى التفاعل بين عالم الأعمال والمجتمع من خلال عدد محدود من الأفراد والقادة المتميزين ذوي البصيرة والنظرة الثاقبة، الذين يتم استنساخ أفضل أفكارهم وتعديلها وإدراجها في النهاية في نظام الحياة السائد، وهذه الصور توضح بجلاء كيف استطاعت هذه الشركات البارزة والمتميزة أن تنجح في البقاء على القمة في المتغيرات العالمية من خلال التركيز على محور واحد، مع تغيير الاتجاه كلّما لزم الأمر وظهرت أهمية ذلك التغيير.
كما أنّ الباحث ينقلنا في دراسته -باستخدام عامل الزمن- حول دورة حياة الشركات، فالشركة تتمتع بالنمو والازدهار ثمّ تقع بعد ذلك في الفشل، ولكنّها تعود أحيانا للصعود من جديد، لأنّه لا يوجد شيء ثابت إنّما الثابت هو التغيير، فلا توجد شركات ناجحة دائما كما لا توجد شركات فاشلة دوما، والجنون كما يقول المثل هو تكرار الأشياء نفسها وانتظار نتائج مغايرة. وقد سعى الباحث إلى تقديم أمثلة يمكن التعلم منها إلى حد ما، حيث يمكن أن يوجد فيها على الأقل بعض ملامح الخطأ والنجاح، فكلّ من انتقل من النكسات والأزمات وعاد من جديد إلى النجاح والتفوق، يمكن أن يعتبر من الشركات المتميزة، كشركة IBM، Airlines.
ويوصلنا الباحث في النهاية إلى أهمية تحليل الأخطاء، فينبغي سرعة تعرف الشركات على المشاكل، وتحديد أسباب ظهورها بأسرع ما يمكن، ليتم بعدها اتخاذ القرارات المناسبة قدر الإمكان. كما ينبهنا بأنّ النجاحات تستحق منا الكثير من التحليلات، تماما مثلما يجري مع الأخطاء، فيتعين التساؤل عن سبب النجاح ومدى تكراره، والسعي بعدها للإجابة عن هذه التساؤلات.
في كتابك أيضا «الطريق من الابتكار إلى الريادية»، تفصيلات تؤكد أنّه لا برنامج ولا نشاط يعمل بكفاءة طوال الوقت. فهل يعني هذا أنّ حالات الابتكار والتميّز والكفاءة تأتي من التغيير والتجريب دائما؟
بلكبير بومدين: هذا صحيح، وفي هذا الشأن يؤكد أبو الإدارة الحديثة بيتر دراكر على «وجوب أن تدرك جميع المنظمات أنّه لا يوجد بالفعل برنامج أو نشاط يعمل بكفاءة إلى وقت طويل دون تعديله أو إعادة تشكيله». فمن الجنون تكرار الأساليب نفسها والقيام بالأشياء نفسها طوال الوقت، مع انتظار نتائج مختلفة في كلّ مرّة. لأنّ التغيير سمّة أساسية في عصرنا الحالي. لذا يجب على منظماتنا وشركاتنا في الدول العربية والإسلامية، أن تعي وتفهم الأساليب التي تمكنها من زيادة قدراتها على التكيّف مع المتغيرات التي تفرضها البيئة التي تعمل فيها، ومن هنا تبرز الأهمية المتزايدة لإدارة الإبداع والابتكار، على أساس أنّها عمل مستمر الهدف منه هو زيادة قدرة المنظمة التنافسية، وحل المشاكل التي تواجهها باستمرار، وضمان بقائها واستمرارها في السوق. ولفهم ذلك أكثر تبرز أهمية التعرف على نماذج منظمات وشركات رائدة ولها أداء متميّز، دون الحاجة إلى تقليد نشاطاتها وأعمالها حرفيا، لسبب بسيط هو اختلاف وعدم تطابق الظروف والثقافة، وتباين الأساليب والأنماط السلوكية بين ما هو سائد في منظماتنا وشركاتنا وما هو موجود عندهم. وهناك العديد من النتائج التي من الممكن أن نخرج بها بعد الإطلاع على الرصيد الكبير من الدراسات والأبحاث التطبيقية والميدانية على هذه الشركات والمنظمات الرائدة في العالم، لأنّ هناك العديد من الأسباب التي تقف وراء تميّز الأداء والأعمال فيها، كتأثير القيادة داخلها على إثارة الموظفين والرفع من تحمسهم لتحقيق النتائج العظيمة، ودور تبني فلسفة التجديد والابتكار في ضمان نجاح التغييرات الّذي تقوم بها هذه المنظمات، كذلك دور القيم والمعتقدات القوية التي تؤمن بها، مع تأكيد أهمية التعلم من التجارب سواء كانت ناجحة أو فاشلة، والمشاركة في اتخاذ القرارات بين مختلف المستويات المعنية، إضافة إلى التحسين المستمر لأنّ هناك خيطاً رفيعاً جدا بين النجاح والفشل.
كما يمكن التنويه بدور بعض البرامج المتعلقة بدعم ومساعدة إدارة المنظمات والشركات في تحقيق مجموعة من المعايير التي تمكنها من دعم الإبداع والابتكار وبالتالي الوصول إلى التميّز في الأداء في ظل اشتداد المنافسة وسرعة التغير والتحوّل التكنولوجي، كالنموذج الأوروبي لإدارة التميز، ونموذج بولدرج (Baldrige) الأمريكي، والنموذج الياباني. وهو ما دفع بالكثير من الحكومات العربية وبعض الهيئات إلى تقديم مجموعة من البرامج التي تحفز وترعى الابتكار والإبداع والأداء المتميّز في المنظمات العربية، كبرنامج دبي للأداء الحكومي المتميّز، وجائزة الملك عبد الله الثاني للتميّز، والجائزة الوطنية للابتكار في الجزائر، لكن على الرغم من أهمية مثل هذه البرامج إلاّ أنّها غير كافية وشاملة، ولا زالت بعيدة عن التطلعات.
برأيك ما الّذي يجب من أجل تحقيق ثلاثية «الابتكار والريادية والأداء المتميز» في العالم العربي؟
بلكبير بومدين: المناخ الثقافي العربي متجانس إلى درجة كبيرة من حيث تشابه المظاهر الثقافية السائدة فيه، والتي تمثل في أغلب الأحيان أكبر عائق يقف أمام تحقيق الإبداع والابتكار، عدا بعض الحالات الشاذة والنادرة جدا، التي تعتبر استثناء. وهو ما يمكن استنتاجه من الدراسات التطبيقية التي أُجريت في العديد من المنظمات والشركات في الوطن العربي. وانطلاقا من النتائج المتوصل إليها تتأكد أهمية دعم المناخ التنظيمي السائد حاليا في المنظمات والشركات العربية، وتغيير القيم والسلوكيات السلبية المنتشرة فيه، حتى يساهم في تحقيق الإبداع والابتكار.
وعلى الرغم من الوضع المتردي في الكثير من منظماتنا وشركاتنا العربية والإسلامية، الناتج بدرجة كبيرة من بعض القيم والسلوكيات التي تعوق التغيير وتحقيق الابتكار والأداء المتميز، «كغياب روح الفريق، والابتعاد عن الموضوعية والعمل المؤسسي، وانتشار التوريث والتقديس وعدم المساءلة، إضافة إلى ضعف التداول على السلطة والمسؤولية، وإهدار الوقت وغياب الإتقان وحجب واحتكار المعلومات...»، كما يقول الدكتور صديق محمّد عفيفي، إلاّ أنّه هناك بعض النماذج والتجارب المشرفة التي يمكن الاقتداء بها والتعلم منها، لتشابه الظروف والسياق بدرجة كبيرة، ولأنّها حققت التميز والريادة والتفوق في المنطقة العربية، بل وهناك منها ما تفوق وتـميّز عالـميا. كحكومة دبي الإلكترونية.
ن/ل

الرجوع إلى الأعلى