يكشف الدبلوماسي السابق والمجاهد عبد المجيد صانع في هذا البورتريه، الذي يتصادف مع اليوم الوطني للدبلوماسية، الكثير من التفاصيل الخفية حول مساره النضالي، الذي ساقه بعناية تدافع الأشياء، من حي الفوبور  الشعبي بقسنطينة ومنظمتها الثورية إلى أن صار ملحقا بالجناح الدبلوماسي للثورة في سويسرا، ثم إلى تأسيس وزارة الخارجية وتكليفه بفتح السفارات وتنسيق الجهود لترميم العلاقات بين الجزائر والولايات المتحدة ومحطات كثيرة رافق فيها كبار السياسيين التاريخيين لجزائر الثورة وما بعد الاستقلال، فضلا عن مجموعة واسعة من الشخصيات المؤثرة، كما يقدم لنا في خضم ذلك شهادته عن نقاط فارقة لا تزال مجهولة في تاريخ الثورة مثل عملية “لابلويت” ونشاط المنظمات السرية المعادية للجزائر من زاوية ذاكرته الشخصية.
التقــــاه: سامي حبّاطي
استقبلنا عمي عبد المجيد، بحفاوة، في منزله بحي الأمير عبد القادر بقسنطينة، حيث جالسنا وبادلنا الحديث عن مساره خلال الثورة وبعد الاستقلال لحوالي خمس ساعات، سعى فيها إلى اختزال ما عايشه من أحداث وما كان شاهدا عليه دون التعمق كثيرا في الحديث عن نفسه وبطولاته، انطلاقا من قناعته أن الثورة قامت على الجهد الجماعي لمختلف أفراد الشعب.  
فرحات عباس و أول لقاء مع علم الجزائر
ويخبرنا عبد المجيد صانع، الذي لم يستبد النسيان بذاكرته رغم أنه يبلغ من العمر 82 سنة، أن أفكار الحركة الوطنية كانت تطرق عقله منذ طفولته المبكرة في المنزل العائلي القديم بحي سيدي مبروك السفلي، فوالده كان صديقا لفرحات عباس وشريكا له في التجارة، كما كانا معا في النضال. ويضيف محدثنا أن فرحات عباس يمثل بالنسبة لعبد المجيد الطفل ضيفا سخيا كان يضع في يده مجموعة من القطع النقدية كلما قدم لزيارة والده خلال الأعوام الأولى الأربعينيات، في حين روى لنا أنه رأى العلم الوطني لأول مرة في عام 1945، عندما استخرجه والده استعدادا لمسيرات الثامن من ماي، وأخبره أبوه “أنه علم الجزائر وأن فرنسا لا يمكنها أن تنتزعه من الجزائريين”.
ونبه محدثنا أن مشهد والده المصاب وهو عائد من مسيرات الثامن من ماي قد طبع ذاكرته إلى الأبد، وهو أول يوم سمع فيه مصطلح “الاستعمار” يتردد بين أفراد عائلته وجيرانه استنكارا لما وقع للمتظاهرين، فيما عاد إلى الحديث عن فرحات عباس، الذي كان يلتقي والده في أسواق الماشية أحيانا بحكم التجارة بينهما، وكان هو شاهدا على حديث أبيه وفرحات عباس عن الاستقلال. وذكر لنا المجاهد حادثة توقيف دراسته من طرف مدير المتوسطة بعبارات عنصرية، رغم أن المعني كان يردد للمدير أنه يريد أن يصبح رساما.
“وافقت على إعدام إمام استغل أرامل الشهداء”
وأوضح لنا محدثنا أن التحاقه بالثورة كان في سنة 1955، حيث قال إنه شهد أول عملية رفع للعلم عندما أمضى ثلاثة أيام في الجبل رفقة مجاهدين بمنطقة القرارم، لكنه كلف بعد ذلك بالنشاط في منطقة “فوبور لامي”، التي سيصبح مسؤولا عن النشاط فيها من خلال توفير المخابئ للمجاهدين والأدوية وإخفاء الأسلحة وغيرها من المهام التي كانت توكل إليه. وأضاف محدثنا أنه حوّل إسطبلا أسفل المنزل إلى مخبأ للأسلحة. وذكر لنا محدثنا بعضا من الوقائع التي صادفته خلال نشاطه، على غرار إصدار السلطات الاستعمارية تعليمة تمنع بيع الميكروكروم المستعمل لعلاج الجروح، بعد أن اقتنى عبد المجيد صانع كميات ضخمة منه من مختلف صيدليات المدينة.

وقال نفس المصدر أن عمله في مخبر المقاطعة بحي سان جون، قد ساعده على التنقل والحصول على الأدوية، فيما ذكر أن توفيق خزندار قد أعانه كثيرا بعد أن أوصى ابن أخيه، مسؤول عبد المجيد صانع المباشر في المخبر، أن يعتني به ويساعده. وذكر لنا عمي عبد المجيد أنه شارك في الاستشارة بشأن إصدار أحكام في حق عشرة أشخاص، ولم يوافق إلا على إعدام إمام مسجد بسيدي مبروك، أكد لنا أنه كان يستغل أرامل الشهداء “جنسيا” داخل المسجد ويأخذ أموالهن بحجة مساعدتهن، لينفذ الشهيد حملاوي عملية إعدامه بنفسه، بعد محاولتي إعدام فاشلتين. ونبه محدثنا أنه حرص خلال الثورة على إعادة التحقيق في جميع الحالات التي يصدر في حق أصحابها عقوبات، وكثير منهم كانوا أبرياء، مثلما أكد.
مجند سابق بالهند الصينية اكتشف عملية “لابلويت” أثناء الثورة
وقادنا الحديث مع المجاهد عبد المجيد صانع إلى عملية “لابلويت” التي نفذتها المخابرات الفرنسية ضد الثورة التحريرية بقيادة النقيب بول آلان ليجي، وتتمثل في زرع الريبة في قادة الثورة تجاه المجندين الجدد في صفوف حرب التحرير، وخصوصا الطلبة، مثلما يؤكد محدثنا في الجزء الذي أفرده لهذه العملية في سيرته الذاتية “صرخات ألم من أعماق الرمال”. ويذكر المجاهد أن هذه العملية جرّت شبهة العمالة لصالح العدو ضد الآلاف من المجندين الجدد عبر مختلف الولايات الثورية.  وتسببت العملية في شل التجنيد والانخراط لفترة على مستوى منظمة قسنطينة بحسب ما ذكره محدثنا في كتابه، فيما أكد في حديثه إلينا أنهم تلقوا تعليمات بالحذر من عمليات اختراق من طرف عملاء فرنسا، مشيرا إلى أن التعليمات نصت على أن يكون لكل واحد من القادة الأساسيين في المدينة مخبآن آمنان بشكل مؤكد وطبيب تحت تصرفهم، خصوصا بعد حادثة اغتيال مصطفى بن بولعيد. وأكد عمي عبد المجيد أن أحد المجندين السابقين بالهند الصينية، وهو من ضواحي عنابة، قد اكتشف عملية “لابلويت” وقام بإعلام رفاقه في الثورة بأنها عملية منظمة من طرف المخابرات الفرنسية.
ويتقاطع تصريح عبد المجيد صانع مع ما أدلى به النقيب ليجي من شهادة بعد استقلال الجزائر بأنه نظم نفس العملية المخابراتية ضد الثورة في الهند الصينية، قبل أن يعيد نفس الأمر ضد الثورة التحريرية، فيما اعتبر محدثنا أن عملية “لابلويت” حربا ثانية على الثورة. ونبه محدثنا، في رد على سؤالنا له حول العمليات التي قامت بها منظمات صهيونية خلال الثورة مثلما صرح بذلك مؤرخون، إلى أن قسنطينة كانت مسرحا أيضا لنشاط منظمات متطرفة تنشط بطريقة سرية، حيث أوضح لنا أنه قد سُجّل خلال الثورة هجومان لم يكونا من تدبير جيش التحرير، لكنه اكتفى بالقول “لا يمكنني أن أقدم دلائل على هذا الأمر”.
وشاية تسببت في توقيف 3 آلاف شخص بقسنطينة

وظل عبد المجيد يناضل في قسنطينة إلى غاية سنة 1958، عندما وقعت وشاية من طرف شاب من حي المنظر الجميل ما أدى إلى تفكيك منظمة قسنطينة، في حين فر محدثنا من مخبأ تحت إشراف أحد رفاقه بالقرب من حي الفوبور، حيث استشهد فيه علي بسباس وتمكن هو وفضيلة سعدان ومجموعة من المجاهدين من الفرار من الجهة الخلفية. وذكر لنا محدثنا وهو يتذكر رفاقه بحزن أن العملية التي نفذتها السلطات الاستعمارية ضد الثورة بناء على وشاية الشاب المذكور تسببت في توقيف أكثر من ثلاثة آلاف شخص، بينما أكد لنا أنه علم بعد فترة قصيرة من فراره من منزله أن عدد الموقوفين يقارب الألفين.
وذكر عبد المجيد صانع الكثير من رفاق الثورة الذين سقطوا، ومن بينهم فضيلة سعدان التي قال إنها كانت تدعوه بكنية “أخي الكبير”، في حين أوضح لنا أن المجاهدين عانوا الكثير خلال الثورة، وروى لنا كيف استقبل فضيلة سعدان ومجاهدا معها بمخبأ بالسويقة، بعد أن أمضوا أربعة أيام من المشي هروبا من قبضة الاستعمار. وأضاف محدثنا أنه صدم يومها عندما رأى حذاء فضيلة سعدان تتقاطر منه الدماء بسبب طول المسافة التي قطعتها، وعندما نزعه، انتزع معه جلدة قدميها، ما أدى إلى بقائها لحوالي 12 يوما قعيدة الفراش.
المصاليون اختطفوا عبد المجيد صانع بفرنسا
وتمكن عبد المجيد صانع من الفرار من الجزائر نحو فرنسا، حيث ساعده بحّارة على التنقل إلى مارسيليا على متن باخرة، بعد أن نظم له رفاقه المجاهدون العملية، في حين أكد لنا أن القدر هو من تكفل بمصيره بعد مغادرة الجزائر، فالأمر الذي تلقاه من قيادته يتمثل في التوجه إلى تونس أو المغرب، ليجد نفسه بفرنسا، أين اشتبهت فيه الشرطة في مارسيليا ووضعته تحت الرقابة قبل أن يعيد ربط الاتصال بمناضلي جبهة التحرير ويتمكن من الفرار إلى مدينة ليون. وقد أكد لنا أن الشرطة الفرنسية كانت قد أوقفت مجموعة كبيرة من المجاهدين في مارسيليا خلال تلك الفترة، لكن تواجدهم كان قويا في ليون.
ووجد عمي عبد المجيد نفسه في مواجهة تحديات جديدة في مدينة ليون، فقد كان المصاليون يستهدفون مناضلي جبهة التحرير، حيث أمضى فترة مرض في البداية، قبل أن يعود إلى النشاط في صفوف الثورة. وأوضح محدثنا أنه حاول رفقة مجموعة من الثوار أن يربطوا الاتصال بالمصاليين لإقناعهم بالانضمام إلى الثورة، لكنه أكد لنا أن من اتصلوا بهم كانوا غير مُسيّسين ووضعوا شروطا تعجيزية، من بينها أن يتحول النضال تحت لواء المصاليين. وسرد علينا عمي عبد المجيد تفاصيل هروبه من قبضة المصاليين الذين اختطفوه من أمام المنزل الذي كان يقيم به، حيث احتجزوه في منزل بالريف واستجوبوه حول علاقته بجبهة التحرير قبل أن يتمكن من الفرار ويساعده مجموعة بنائين جزائريين على العودة إلى ليون بعد أن أوهمهم أنه مطارد من طرف مجموعة من العنصريين. وانتهى الأمر بعبد المجيد صانع موقوفا من طرف عناصر الشرطة التي عذبته فوق التراب الفرنسي، لتطلق سراحه بعد ذلك في حالة صحية سيئة.
قس و طالب طب فرنسي يهرّبان المجاهد المريض إلى سويسرا
وتبدأ رحلة عمي عبد المجيد مع النشاط الخارجي لدبلوماسية الثورة بعد أن وضعه رفاقه في الثورة بين أيدي شبكة جانسون، التي أسسها الفيلسوف الفرنسي فرانسيس جانسون، حيث يستعيد محدثنا تلك الرحلة بملامح حيرة، تعكس خوفه وتوجسه، وقال أن رفاقه أخبروه أن ينتظر قدوم سيارة إلى المنزل الذي يقبع فيه، وسيحمله على متنها شخصان، ويكون عليه ألا يسأل عن شيء، وفي حال استيقافهم في حاجز أمني عليه ألا يتفوه بشيء باستثناء أن الشخصين قد ساعداه بعد أن وجداه في الطريق فقط. وأكد لنا نفس المصدر أنه لم يكن على علم بوجهته، ليفاجأ بعد ساعات من سير السيارة رفقة قسّ وطالب طب، بأن أخبره القس أنه في سويسرا، قبل أن يودعاه بين يدي شابين ضخمي الجثة.

وأضاف محدثنا أنه ظل متوجسا من الأشخاص المحيطين به، رغم أن احتضن القس وطالب الطب في المقهى الذي توقفوا فيه بمشاعر مختلطة بين الفرح والخوف وبالدموع، حيث تخوف من أن يكون قد وقع بين أيدي عناصر شبكة “اليد الحمراء” المعادية للثورة، ولم يتأكد من وجوده في جنيف إلا بعد أن رأى نافورة المياه الموجودة في وسط مدينة جنيف آنذاك، وهي الصورة الوحيدة التي أكد لنا أنها بقيت في ذهنية من مشاهد سينمائية رأى فيها المدينة من قبل.
ويواصل محدثنا رواية تفاصيل أيامه الأولى في سويسرا، حيث دخل المستشفى بعد أن زادت حدة مرضه، قبل أن يزوره العديد من المناضلين ويخبروه أنه سيبقى معهم في سويسرا، ولن يتجه إلى تونس أو المغرب كما جاء في الأمر السّابق الموجه له. وذكر عمي عبد المجيد مجموعة من الأسماء التي زارته، من بينهم حفيظ كيرامان وموسى بوضياف شقيق الرئيس الأسبق محمد بوضياف، والطيب بولحروف ممثل جبهة التحرير بروما والدكتور جيلالي بن تامي، رئيس الوفد الدائم للهلال الأحمر الجزائري بسويسرا، بالإضافة إلى بعض من أعضاء الحكومة المؤقتة، على غرار محمد خميستي ومحمد بن يحيى.
الثورة أثرت في الرأي العام السويسري ضد فرنسا
وانتقل محدثنا إلى النشاط ضمن الهلال الأحمر الجزائري في سويسرا، حيث أكد لنا عمي عبد المجيد أن دوره لم يكن مقتصرا على المهام الإنسانية، بل كان بمثابة ذراعا دبلوماسية للثورة في الخارج، مشيرا إلى أن سويسرا منحت حق اللجوء للمناضلين الجزائريين بشرط التعهد بعدم القيام بأي أعمال عنف على ترابها، في حين أكد لنا أن التأثير في الرأي العام السويسري ضد التجنيد في اللفيف الأجنبي كان من أكبر العمليات التي قامت بها الثورة في الخارج. وأضاف محدثنا أن الثورة أطلقت حملة تأثير في الجرائد السويسرية من خلال إطلاق سراح الأسرى السويسريين الذين كانوا في قبضة جيش التحرير في الجزائر، وإعطاء الأمر صدى في الإعلام السويسري، فضلا عن خلق حملة بمساعدة سويسريين ضد التجنيد في اللفيف الأجنبي.
وأضاف محدثنا أن الأمر قد دفع إلى توتر العلاقات بين فرنسا وسويسرا، لكن جبهة التحرير اعتمدت على المتعاطفين معها من السياسيين في الكنفدرالية الهيلفيتية مستغلة عمل الديمقراطية المباشرة لدفع مواقف سويسرا لصالحها، كما ساعد المناضلون فارين من الخدمة الوطنية الفرنسية على الوصول إلى التراب السويسري، وكان الجزائريون يمنحونهم أموالا من أجل التوجه إلى إنجلترا أو بلدان أوروبية أخرى للنجاة، رغم الحذر الشديد في التعامل معهم مخافة تسرب مندسين من المخابرات الفرنسية بينهم.
ويحدثنا عمي عبد المجيد أيضا عن نشاطه في جنيف ضمن جمعية اللاجئين الجزائريين وخلال محادثات إيفيان، حيث اختزل عمله في اللوجيستيك، ورفض في البداية الخوض في تفاصيل ما قام به، لكنه استرسل قليلا بعد إلحاح منا في شرح مهامه، حيث أكد أنها كانت تشمل رصد العناصر المشبوهة التي تنشط لصالح المخابرات الفرنسية أو المصاليين، كما أن السلطات السويسرية قدمت توجيهات دقيقة لأفراد الجمعية المذكورة التي تأسست عام 1959 بالحذر والتبليغ عن أي من العناصر المشبوهة، في حين أشار في كتابه إلى أن “المالغ” قد نظم تكوين في الأمن وإجراءات التدخل الأولية في حال التعرض لهجوم.
والتقى عمي عبد المجيد عدة مرات بالدبلوماسي أوليفيي لونغ منسق اللقاءات الخاصة باتفاقيات “إيفيان” بين الطرفين الجزائري والسويسري، حيث قال إنه كُلّف بعدة مهام تضمنت الالتقاء به، في حين وطّأ سيرته الذاتية الناشرُ السويدي نيلس أندرسون الذي أخبرنا عبد المجيد صانع أنه أول من نشر وثائق جبهة التحرير المودعة لدى الأمم المتحدة ونفي من سويسرا بسبب ذلك، فضلا عن أن الكتاب يضم شهادة المناضل السويسري جان مايرا الذي تعرض للسجن سنة بسبب دعمه للثورة التحريرية. وساهمت زوجة عمي عبد المجيد السويسرية في الثورة الجزائرية أيضا كما كانت سندا له في مختلف مراحل حياته، مثلما روى لنا.  
وزارة الخارجية
الجزائرية تأسست بأقل من خمسين شخصا
وتوطدت العلاقة بين المجاهد عبد المجيد صانع ومحمد خميستي خلال الفترة التي قضاها في سويسرا، حيث استدعي قبيل وقف إطلاق النار للقيام بمهام إلى جانب الحكومة المؤقتة بتونس، وكلف بعدة مهام نحو سويسرا وبلدان أخرى، قبل أن يشارك مع خميستي الذي عين أول وزير خارجية عند الاستقلال في مؤتمر طرابلس. وأوضح محدثنا في كتابه أن الوزارة بدأت العمل بأقل من مئة شخص، فيما أخبرنا في لقائنا به أنه تقرر في أول اجتماع تأسيسي شارك فيه الاعتماد على طاقم ممثلي جبهة التحرير في الخارج، قبل أن يكلف عمي عبد المجيد بالتوجه نحو سويسرا لفتح أول سفارة جزائرية في بيرن، فضلا عن قنصلية ومهمة دائمة لدى الأمم المتحدة بجنيف وخط نقل جوي بين الجزائر العاصمة وجنيف، وعبر عن الأمر بالقول “لقد صرت فاتح السفارات”.
وأضاف محدثنا أن العمل قام على وضع قائمة بالبلدان الشقيقة التي التزمت بدعم الجزائر في نضالها، والبلدان الصديقة التي ساعدت الثورة، في حين أشار في كتابه إلى أن اغتيال محمد خميستي، حيث قال أنها أدخلت الحكومة الجزائرية في حالة تخبط آنذاك، كما اعتبر أنه فقد صديقا مقربا وسندا له بعد تلك الحادثة، وخصوصا وأن المعني اغتيل في زمن كانت فيه وزارة الخارجية في طور تنصيب هياكلها، كما يؤكد أنهما كانا متفقين على إنجاز العديد من المشاريع معا.
وحصل عمي عبد المجيد على أول مكتب في مبنى وزارة الخارجية في حمام، حيث روى الأمر وهو يبتسم، مشيرا إلى أنهم قاموا بإزالة حوض الاستحمام وسد ثقوب قنوات المياه باستعمال ورق الجرائد، قبل أن يأتيه موظف خدمة بالوزارة الجديدة بسجادة فاخرة ويفرشها على الأرض، ثم يحضر له مكتبا فخما.
خطأ دبلوماسي كاد يمنع عودة العلاقات مع الولايات المتحدة
وكشف لنا المجاهد عبد المجيد صانع في حديثنا معه أنه كلف بالعديد من المهمات خارج الجزائر بعد الاستقلال، حيث كانت مهمته الأولى إلى طوكيو رفقة عبد المالك بن حبيلس لفتح سفارة، لكنه لبث فيها فترة قبل أن يعود إلى الجزائر في سنة 1966، متأثرا بعدة أمراض أصيب بها خلال الثورة التحريرية. وكلف المعني في عام 1970 بالتوجه كملحق دبلوماسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة قطع العلاقات معها. واعتبر عبد المجيد صانع أن قطع العلاقات المذكور لا يعود فقط إلى مشاركة الجزائر في حرب 1967 على إسرائيل، ولكن بسبب تصريحات أيضا من الرئيس أحمد بن بلة، فضلا عن زيارته لكاسترو بعد لقاء الرئيس كينيدي مباشرة والتقارب مع الاتحاد السوفياتي ودعم الحركات التحررية والفهود السود وغيرها.
وأشار محدثنا إلى أن الأخطاء الدبلوماسية قد سجلت بالآلاف، لكنه نبه إلى أن الجزائر كانت ذات اعتبار كبير بالنسبة للولايات المتحدة رغم كل مواقفها، مؤكدا أنه لقي استقبالا بروتوكوليا وحفاوة كبيرة من طرف ممثل الخارجية الأمريكية بمجرد وصوله في عام 1970 قادما من دولة مدرجة على القائمة الأمريكية السوداء لأن الجزائر كانت تعتبر دولة “شيوعية” بالنسبة للولايات المتحدة. ونبه عمي عبد المجيد أن جهود الدبلوماسية مكنت الجزائر من اقتناء طائرات “بوينغ 737” واستيراد القمح وبيع الغاز الجزائري للولايات المتحدة. وعبّر عبد المجيد صانع عن الأمر بالقول “تخيّل الولايات المتحدة تصدّر القمح إلى دولة شيوعية”.
وواجه ترميم العلاقات الجزائرية الأمريكية بعض الصعوبات الناجمة عن خطأ دبلوماسي، حيث يذكر عمي عبد المجيد أنه عين أول مرة كملحق دبلوماسي ضمن سفارة غينيا التي كانت تمثل مصالح الجزائر في أمريكا، وبعد فترة من النشاط وتفعيل ما سماه في كتابه بـ”اللوبي الجزائري” المكون من مثقفين وسياسيين أمريكيين نافذين بفضل شبكة علاقات مسعود زغار والشريف قلال، الذي كان مقربا من محيط عائلة كينيدي، وعبد القادر شندرلي، يؤكد محدثنا أنه تم تعيين مكلف بالأعمال بواشنطن، حيث يشير إلى أنه من “جماعة وجدة” وتوترت العلاقات بينهما منذ وصوله لأنه حاول مراجعة جميع ما تم القيام به سابقا، قبل أن يتسبب أفراد من عائلة المعين الجديد في مشكلة، كادت أن تتناقلها وسائل الإعلام، كما اعتبر محدثنا أن العلاقة التي تحسنت بين البلدين كادت تتوتر مجددا، بعد أن أغضبت الواقعة الأمريكيين كثيرا.
بوتفليقة ألغى التحقيق في ماضي موظفي الخارجية خلال الثورة

وأسهب عمي عبد المجيد في كتابه وحواره معنا، في الإشارة إلى ممارسات بيروقراطية جديدة بوزارة الخارجية منذ أن صار عبد العزيز بوتفليقة، ثاني وزير خارجية على رأسها، حيث أرانا نسخة عن التحقيق الذي أجرته مصالح الاستعلامات العامة عن شخصه ومواقفه خلال الثورة التحريرية، مشيرا إلى أن الإجراء المذكور كان متخذا تجاه جميع الموظفين في هذا القطاع "الحساس"، مثلما قال، رغم تأكيده على أن الأمر لم يكن معمقا كثيرا، في حين نبه إلى أن عبد العزيز بوتفليقة قام بإلغائه بمجرد وصوله إلى رأس الوزارة، من منطلق أنه يعرف جميع الأشخاص الذين يقوم بتوظيفهم. وتحدث نفس المصدر عن الكثير من العراقيل التي صادفته من طرف من عمل معهم بالوزارة و"طريقة التسيير القائمة على الولاء"، خصوصا من طرف من سماهم "جماعة وجدة" المحيطين بعبد العزيز بوتفليقة.
ونبه محدثنا أيضا إلى ضرورة مراجعة أملاك وزارة الخارجية خارج الجزائر، التي يقطنها موظفون سابقون رفضوا مغادرتها بعد انتهاء عملهم، حيث شرح الأمر أن العديد من البلدان كانت تتعامل من منطلق تبادلي على وضع فيلات وإقامات تحت تصرف الخارجية الجزائرية، لتضع الجزائر ممتلكات مماثلة تحت تصرف طاقمها. وقد وجه عبد المجيد صانع من قبل رسالة إلى وزير الخارجية ونشرها في وسائل إعلام حول الأملاك التابعة للسفارات والعديد من الممارسات التي يرى أنها لم تعد تمثل روح ثورة التحرير.                              س.ح

الرجوع إلى الأعلى