نبه الباحث وأستاذ علم اجتماع الاتصال بجامعة سكيكدة الدكتور فوزي بومنجل، إلى ضرورة الاهتمام بتخصصات سوسيونفسية لادارة الاستراتيجيات والأزمات لخلق نوع من الاستعدادات النفسية للأفراد في حال ظهور بعض الظواهر الباثولوجية غير المتوقعة. مشيرا إلى أن ما يعيشه المجتمع من تأثيرات انتشار فيروس كورونا على الحياة تنجر عنه ظواهر جديدة، ومنها المضاربة التي اعتبرها استغلالا للأزمة واعتبر التكافل الاجتماعي نقطة قوة في المجتمع الجزائري خدمته في الأزمة متوقعا تغيرا في موازين القوى بعد هذه الأزمة الصحية العالمية.
ـ  النصر: أعادتنا جائحة كوفيد 19، للحديث عن علم الاجتماع الطبي لماذا تراجع الاهتمام بهذا التخصص من جامعاتنا و كيف يساهم علم الاجتماع في فهم قضايا الصحة و المرض ؟
 ـ فوزي بومنجل: أنا لا أتكلم عن تراجع علم الاجتماع الطبي، و لكن أقول غياب تام للتخصص، في اعتقادي اليوم لا يوجد هذا النوع من التخصص في المؤسسات الجامعية الجزائرية ، و لكن هذه الجائحة أعادتنا فعلا للتفكير في إعادة النظر في المنظومة الفكرية ككل، بما في ذلك طرح تخصصات ذات قيمة اجتماعية يمكن من خلالها فهم أسباب التحولات التي طالت المجتمع الجزائري سواء على مستوى البناء أو الممارسات، أو تبني نظرة استشرافية في اعتماد تخصصات سوسيو نفسية لإدارة الاستراتيجيات والأزمات، حتى نخلق نوعا من الاستعدادات النفسية للأفراد في حالة ظهور بعض الظواهر الباتولوجية غير المتوقعة.
و الحديث عن إمكانية إسهام علم الاجتماع في قضايا الصحة و المرض في مثل هذه الظروف أصبح يشكل أولوية، خاصة و أن كل المؤسسات الاستشفائية في الجزائر مثلا، لا تعتمد في سياساتها التوظيفية على تخصصين في علم الاجتماع و تركز فقط على علم النفس من أجل التكفل بالجانب النفسي للمرضى، في حين يمكن لعلماء الاجتماع إدارة و تسيير الكثير من المظاهر التي تدور في محيط المؤسسة أو القيام بتحقيقات ميدانية حول الظروف البيئية و الاجتماعية التي تساعد الأطباء على تشخيص عدة  حالات، خاصة و أن الكثير من الدراسات اليوم، تؤكد أن الحالات التي تتردد على المستشفيات أغلبها تعاني من ضغوط نفسية اجتماعية أكثر منها عضوية.
ـ سبق لعالم الاجتماع الألماني أورليخ بيك، أن تنبأ بمخاطر ستواجه البشرية منها الفيروسات، بسبب ممارسات العالم الصناعي و الاعتداء على الطبيعة، فهل هناك علاقة فعلية بين الأمرين؟
ـ أكيد أن العالم الصناعي أثر و بشكل قوي في التحولات البيئية التي يشهدها عالمنا اليوم، خاصة أن النفايات مهما تعددت طبيعتها تصب في البحار و المحيطات وتعمل على تلويث الأجواء و كانت سببا في هلاك الكثير من الحيوانات، أضف إلى ذلك أن التعدي على الطبيعة من خلال استغلال موادها الأولية في الكثير من المنتوجات أثر بدوره على التوازن الطبيعي. مما يؤكد طرح النظرية أورليخ بيك.   
و بالحديث عن الجائحة كوفيد19، فإنها لا تعد سابقة ففي الماضي القريب فقط واجهنا المالاريا و الإيبولا و السارس، و لكن سرعة انتشار هذا الفيروس الجديد و تبعاته تعتبر أخطر بكثير من الفيروسات السابقة.
لذلك في هذه الوضعية الراهنة لا نتكلم عن المخاطر و لكن عن كيفية تسييرها.


ـ  في الجزائر تجاوز الخوف من ندرة المواد الاستهلاكية الخوف من العدوى، فهل للأمر علاقة بخلفية تاريخية أو بسلوكيات استهلاكية معينة، وهل تصنف هكذا ظاهرة ضمن خانة الممارسات المرضية؟
ـ تخزين الغذاء و المواد الاستهلاكية خلال الأزمات و الكوارث هي ظاهرة صحية وليست مرضية، كما أنها عالمية و لا تقتصر على المجتمع الجزائري، لأن الأزمات تخلق نوعا من الذعر في نفسية المواطن و تطرح تساؤلا مشروعا عن كيفية تسيير الظرف الذي قد يطول أمده، بدليل أن الحجر المنزلي مثلا في كل مرة يتمدد.
من جهة ثانية، لا يمكننا أن نغفل بأن لهذا السلوك في مجتمعنا رواسب تاريخية، تعود لسنوات 1986 حتى 1988، و التي عرف خلالها الجزائريون أزمة اقتصادية كانت لها آثار واضحة على المستوى الاستهلاكي مع تسجيل ندرة حادة في بعض المواد الأساسية، وهو أيضا ما شكل دافعا للتهافت على تخزين هذه المواد، كما أن الإشاعة عززت الخوف من تكرار نفس السيناريو و غذت هذا التهافت.
ـ لماذا تزدهر الإشاعة و تتحكم في سلوك المجتمعات كما هو حاصل حاليا، ولماذا تظهر النكتة بقوة في مثل هذه الظروف الصعبة؟
ـ عندما نتكلم عن الإشاعة لا بد أن نستحضر المقولة الشهيرة في الإعلام « إكذب إكذب حتى يتحول الكذب إلى حقيقة»، فرواج الاشاعات و تأثيرها على المنظومة الاستهلاكية داخل المجتمع الجزائري، مرتبط مباشرة بتأثير مواقع التواصل التي غذتها، فهذه المنصات تتوجه للجميع و لا تفرق بين مختلف فئات المجتمع، وهو ما ضاعف قدرتها على التأثير على الجميع، بدليل أن هناك مصادر رسمية تستند إليها في تقديم طرح معين أو تبرير أمور ما، خصوصا في ظل تراجع ثقافة التأكد من مصادر الخبر.
 إضافة إلى ذلك فإن الإشاعة كما هو معروف، تنتشر بقوة عبر المنصات التفاعلية بفضل سرعة و آنية و كثرة تدفق المعلومة من خلالها، خصوصا في ظل نقص المعلومة الصحيحة أو الرسمية.
 بالنسبة لقضية النكتة، فعادة ما نلاحظ بأن الناس في ظل الوضع الراهن باتوا يتعاملون بحذر مع كل شيء و يعيشون ضغطا مضاعفا، لذلك يميلون إلى للمزاح و التنكيت لتوفير بدائل ترفيهية تنسيهم خطورة الظرف و حساسيته، فهي في النهاية وسيلة للهروب من الخوف أو لإخفائه.
ـ هل هناك علاقة بين انتشار الأوبئة و سوسيولوجيا الأفراد، وهل هناك سلوكيات معينة تظهر مع كل جائحة مماثلة كالانتحار و الشعوذة مثلا؟
ـ  فعلا، بدليل ما شاهدنا مؤخرا، عندما حذر الرئيس الأمريكي من ظهور بعض السلوكيات و الظواهر السلبية في المجتمع بسبب الحجر المنزلي، على غرار الانتحار مثلا،  فالكوارث قد تنجر عنها ظواهر باثولوجية، يكون سببها الإحباط النفسي الناتج عن التهويل و التعاطي المكثف مع أعداد المصابين و الموتى و غير ذلك، وقد شاهدنا ممرضين انتحروا في إيطاليا.
لا يجب أيضا إغفال الحديث عن ظواهر أخرى كالعنف المنزلي الذي سيفرزه الحجر المنزلي و تواجد عدد كبير من الأفراد داخل مساحة ضيقة ، كما يمكن أن تزيد نسبة الجريمة قد تكون مشكلا سيطرح في مرحلة لاحقة.
 وفي الجزائر لاحظنا أن هناك من يستثمرون في الكوارث من خلال المضاربة في السلع.
ـ  الهستيريا التي  شهدها العالم ككل و التهافت السلع ورفض الالتزام بالحجر و غيرها من السلوكيات هل ألغت نظرية تفوق الفرد الغربي، وهل ستعيد هذه الجائحة ضبط مفهوم الحضارة؟
ـ إن الندرة في الوسائل الوقائية التي سجلتها كل دول العالم وما تبع ذلك من مصادرة بلدان لوسائل وأجهزة الحماية التي كانت موجهة لدول أخرى، تحيلنا مباشرة للحديث عن ميزانية تسيير الأزمات التي تعتبر جزءا من المنظومة المالية لكل الدول، وفي حالة كورونا، فإن العالم عاش ما يشبه الصدمة، فلا أحد كان يتصور بأن الوضع سيسوء بهذه السرعة و إلى هذا الحد، فمن خلال قراءة خلفية لما حدث، نلاحظ أن الجميع يعتمدون اليوم على الصين و يتطلعون لطريقتها في التعامل مع الوباء و ينتظرون تموينا منها بالوسائل الوقاية، حتى أن الرئيس الأمريكي قال في ندوة صحفية « بأنه اتصل بصديقه الرئيس الصيني وقد ناقشنا معا موضوع تقديم الصين لهبة من ألف جهاز تنفس إلى أمريكا»، و هي مفارقة غريبة بالنظر إلى طبيعة العلاقة التاريخية بين البلدين.
 بمعنى أن كورونا، ساوى بين البشر عبر العالم، فالتهافت على السلع و مصادرة التجهيزات الوقائية و الطبية الخاصة بالغير و غير ذلك من المظاهر كسر نظرية تفوق الغرب أو الفرد الغربي تحديدا، الجميع محجوزون اليوم في المنازل و تخزين الغذاء هاجس عالمي يشمل كل المجتمعات.
ـ يعتبر البعض بأن كورونا قد أثبت هشاشة الرأسمالية خصوصا بعد فضائح قطاعات الصحة في كبريات الدول، فهل نحن أمام احتمال ظهور نظام عالمي جديد؟
ـ المعروف أن بناء ميزانيات كل الدول تقريبا يعتمد على سوق البترول، و انهيار الأسعار حاليا بحسب المحللين و تصريحات المسؤولين، ينتهي بالعالم ككل إلى أزمة اقتصادية حادة، وهو واقع معيش، لأن «الركود  الكبير» يعتبر من بين الانعكاسات  المباشرة للأوبئة.
 و الملاحظ اليوم، أن بوادر نظام  عالمي مختلف، قد بدأت تبرز من خلال انكشاف هشاشة بعض المعسكرات كالاتحاد الأوروبي  واتضاح ضعف  دول كبرى كفرنسا و أمريكا التي باتت تعتبر الصين « صديقة لها»، بمعنى أن موازين القوى قد اختلت و أن المرحلة القادمة ستعرف ليونة أكثر في التعاطي السياسي مع العديد من القضايا، كما أن العلاقات لن تبنى فقط على أسس أيديولوجية و ثقافية غير ذلك.
ـ كيف امتحن كورونا الإنسانية، هل ثبتت القاعدة التي تقول بأن العدو المشترك يعزز ولاء المجموعة و يخلف وعيا جماعيا جديدا؟
ـ فعلا، ربما يعتبر الأمر في مجتمعنا بديهيا، لأن المنظومة القيمية كانت و لا تزال موجودة، أي أن فكرة التضامن و التكافل الاجتماعي لم تتراجع يوما، فالتضامن من سمات الفرد الجزائري عكس الفرد الغربي، أو على الأقل نسبة كبيرة من أفراد هذه المجتمعات، فالإنسان الغربي تبنى منذ عقود مبدأ الفردانية، كعس الإنسان الجزائري الذي لا يزال يعيش في وسط اجتماعي،  وقد لاحظنا منذ اجتياح كورونا لعالم، بأن بعض الظواهر التي تم تغييبها مسبقا كفكرة الأسرة النووية و الممتدة رجعت بفضل الحجر المنزلي، في الغرب مثلا، عاد الاهتمام بكبار السن و برزت عقليات و سلوكيات جديدة مبنية على الفكر الاجتماعي بعدما أصبح الخوف من فقدان الآخر واقعا معاشا، كما أن الجميع باتوا مجندين لخلق التوازن و تجاوز الجائحة بأخف الأضرار.
ـ كيف سيعيد العالم ضبط بوصلته بعد الفيروس، خصوصا في ظل تراجع صناعة الترفيه لصالح العلم وانحصار  الفردانية مقابل تزايد الحاجة إلى التكافل الاجتماعي؟
ـ الإنسان في مرحلة الأزمات يعيد ترتيب أولوياته، حاليا يعد انقاد البشرية أهم هدف و التعامل مع هذا الشبح يعتبر هاجس الجميع، لذلك نلاحظ أن كل الآمال معلقة بأداء الأطباء والباحثين و النفسانيين و غيرهم من الأفراد الذين يتواجدون في الصفوف الأمامية لمواجهة الخطر، المادية و الرفاهية تراجعت لصالح المبادئ الإنسانية، و أصبح الجميع يطالبون بعضهم بتحلي بالمسؤولية الأخلاقية و الالتزام التام من أجل المصلحة العامة.                        هـ/  ط

الرجوع إلى الأعلى