كشف الدكتور جيلالي المستاري مدير مركز البحث في الأنثروبولوجيا الإجتماعية والثقافية «كراسك» وهران، أنه سيتم خلال أيام   إطلاق مشروع بحث جديد يجمع عدة تخصصات، موسوم بـ «معيش الجزائريين في فترة جائحة كورونا وآثاره المستقبلية»  سيتوج بجمع الأوراق البحثية في مؤلف جديد  يصدر مستقبلا، كما تطرق الدكتور المستاري لعدة نقاط من نشاطات المركز في زمن «كوفيد 19»، وهذا في رده على أسئلة النصر بهذا الخصوص.
 lطبيعة كراسك أنثروبولوجيا إجتماعية، هل سبق وأن أنجز الباحثون أعمالا عن الأوبئة، وهل أخذت  السلطات المعنية النتائج بعين الإعتبار ؟ ومع «كوفيد 19»، هل ننتظر مشاريع بحث عن تأثيرات الوباء اجتماعيا ونفسيا وعلى كل المحيط؟ وماذا  عن الرؤى استشرافية للباحثين في هذا الإطار؟
في البداية أكشف لكم وهذا سبق لجريدة النصر  أننا سنعلن قريبا  عبر موقع  الكراسك، عن دعوة للاستكتاب موجهة للباحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية وعلوم الصحة والمختصّين في الأوبئة، من أجل تحضير أوراق بحثية يتمّ انتقاء أجودها تمهيدا لعقد ورشة وطنية خلال الأشهر القليلة القادمة، حول «معيش الجزائريين في فترة جائحة كورونا وآثاره المستقبلية»، تصاغ مخرجاتها في كتاب حول الموضوع وكذا تقرير توليفي يتضمّن حوصلة الدراسات المنجزة وتوصيات عملية توجّه للقطاعات المعنية من خلال المديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، أما عن سؤالكم عن مشاريعنا القادمة، فقد وضعنا بعد التشاور مع عدد من الباحثين الدائمين والمشاركين، ورقة طريق بحثية، من أجل إنجاز دراسات استطلاعية عن طريق المقابلات مع عيّنات قصدية أو الاستمارات الالكترونية التي تستهدف فئات مجتمعية مختلفة لمتابعة المعيش المجتمعي في زمن الكورونا، وأثر واقع التباعد الاجتماعي والسياسات العمومية المرافقة له على الفئات الاجتماعية المختلفة وخاصة الهشّة، منها ذات الدخل المحدود وأصحاب  المهن الحرّة الذين توقفت نشاطاتهم بسبب الوضع الوبائي، أو تلك التي يعاني أفراد من عائلاتها أعراض المرض ويخضعون للمتابعة الصحية، سنقف أيضا عند سياسات التضامن وأشكاله وفاعليه وطرائق تنظيمه، ناهيك عن معرفة موقف العائلات من توقّف المنظومة التكوينية خاصة المدرسة والجامعة وكيفية تعاملهم مع هذا الوضع الاستثنائي، وطرائق تجاوبهم مع إجراءات التعليم عن بعد من خلال المنصات الإلكترونية أو قنوات  يوتوب أو دروس الفضائيات والإذاعات المحلية، إضافة إلى معرفة مستويات «استهلاكهم» للمنتج الثقافي الذي تحتويه الشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الكتب الإلكترونية، كما لن نفوّت فرصة متابعة الخطابات الإعلامية والسياسية وكذا تحليل السجالات الدينية التي ترافق إجراءات الحجر والتباعد الاجتماعي وخاصة ما تعلق منها بغلق المساجد وغلق الحرم المكي والمواقف من رمضان والحج هذه السنة.
 بالإضافة لهذا يهتم باحثون آخرون بوضع تقارير و خلاصات بحثية حول ذاكرة وتاريخ الأوبئة في الجزائر والعالم، وكذا سرديات الوباء في المتخيّل الشعبي و الحكي الروائي أو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية أنثروبولوجيا الوباء مقابل أنثروبولوجيا الشفاء، ولدينا في الحكايات والأمثال والأغاني الشعبية ونَظْمِ شعراء الملحون ومخطوطات المؤرخين والفقهاء والمتصوّفة، مادة دسمة لدراسة ذاكرة الأوبئة و سردياتها، حيث نجد في بعض الروايات الشهيرة مثل رواية «الطاعون» (1947) لألبير كامي، والتي تحكي قصة واقعية لانتشار هذا الوباء في وهران  وما خلّفه من ضحايا، وما رافق انتشاره من تدابير صحية احتياطية أهمها غلق أبواب المدينة، موضوعا لإثراء معرفتنا حول معيش أسلافنا ومعاناتهم مع الوباء في فترة استعمار وجوع وحرمان.
وأودّ أن أشير أيضا إلى لمعلومتين :
أولا، أنّ ثيمة « الصحة والمجتمع « من الثيمات التي يشتغل عليها المركز في قسم البحث حول المدينة، وتجمع فرق البحث باحثين في العلوم الاجتماعية والإنسانية وكذا أطباء ومستخدمي الصحة العمومية، ولدينا تجربة في دراسة أثر وباء محدود التأثير على المجتمع المحلي، وهي دراسة جزائرية – كندية، بإشراف من وزارة الصحة، حول الإجراءات الصحية والبيئية التي يتبعها المجتمع للتعامل مع مرض الليشمانيوز الذي هو مرض جلدي طفيلي معدي ينتقل عن طريق القوارض.
 وقد أنجزت الدراسة الإبيديمولوجية والسوسيولوجية في قريتي «عين السخونة» بسعيدة، و» فريحة» بتيزي وزو، وخلصت لنتائج وتوصيات عملية تمت مشاركتها مع ساكنة القريتين ومرافقتهم في تطبيقها من أجل اتخاذ الإجراءات السليمة والصحيحة  لحماية أنفسهم ومحيطهم من حولهم.
ثانيا، كانت سنة 2019، سنة لموضوع «الصحة في المجتمع» في الكراسك، حيث أنجز المركز عددا خاصا من مجلة « إنسانيات» حول «الصحة في الحياة اليومية في البلدان المغاربية « بتنسيق المختص في أنثروبولوجيا الصحة البروفيسور محمد مبتول، كما أشرف المركز بالشراكة مع الوكالة الوطنية للبحث في علوم الصحة، على تنظيم الدورة السابعة لجامعة الصحة العمومية في البلدان المغاربية في الفترة ما بين 29 سبتمبر و3 أكتوبر 2019، حيث كانت فرصة للقاء الباحثين من تخصصات مختلفة بممارسي الصحة لمناقشة إمكانات وحدود وفرص المنظومة الصحية في الجزائر وجيرانها في تونس والمغرب وموريتانيا، وخرجت بتقرير توليفي تضمن توصيات عملية ذات أهمية.
 lما هي قراءتكم لما جرى ويجري من تحولات مجتمعية منذ بداية الوباء، وما ذا تتوقعون بعد انجلائه؟
أودّ بداية التذكير أنّ ما سأقدّمه مجرّد آراء مواطن لا ترتقي إلى درجة الملاحظات والفرضيات التي يمكن أن يؤسّس عليها قول أكاديمي، ذلك أننا لم ننجز بعد الدراسات الميدانية الكافية ولا نملك التراكم المطلوب على مستوى القراءات والمقارنات، ويمكن أن أختصر ملاحظاتي الشخصية الأولية للمعيش اليومي في زمن كوفيد-19 في بعض النقاط أهمها :
     1 - الهامش أولوية البحث الآن: عندما نتابع جميعا آثار الإجراءات الوقائية من حجر صحي وتباعد اجتماعي وما نتج عنها من توقف لجلّ النشاطات الاقتصادية، نجد أن المستفيدين كانوا أولئك الذين يتمتعون بالحماية الاجتماعية وأكثرهم يشتغلون في القطاع العام، ورغم كل ما نلاحظه من إجراءات لتعزيز التضامن المجتمعي، إلا أن كثيرا من فئات المجتمع تعيش معاناة استثنائية لم تحسب لها حسابا، ويبدو أنّنا أمام عنصرين متلازمين في تحليل معيش الجزائريين في زمن الكورونا وهما: فعالية المنظومة الصحية ومسألة الإنصاف، وإذا ما كانت هناك أولوية ما للبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية في هذه الفترة الصعبة، فإنها الاشتغال على هذه الفئات التي تعيش ظرفا استثنائيا.
ومن المهم، نظريا وعمليا، الاهتمام بدراسة اللامرئيين اجتماعيا أو فاقدي- الوجه Les sans-visges، بتعبير بيتلر (Judith Butler). وقد بادر أحد زملائنا الباحثين في علم الاجتماع بتونس «ماهر حنين» ، ولو بشكل مستعجل قليلا، بإنجاز دراسة ميدانية كيفية قدمت معطيات أولية وفرضيات ذات أهمية جمعها في كتاب نشره قبل أيام سماه: سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا.    
     2 -تغيّر «مخيف» لإيقاع الحياة اليومية : عندما نعود إلى دلالات الكلمات المستخدمة في الخطاب الطبي والإعلامي والسياسي من مثل: الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي، سنقف عند آثارها و تمثلاتها المخيفة عند الناس مما انعكس على الممارسات والعلاقات الاجتماعية،  رغم ما يبدو من اعتيادها عند بعضهم، لكن أصبحنا مع « الحجر « أمام قواعد جديدة للحياة اليومية فيها ما هو مصرح به وفيها ما هو مضمر، فلا خروج ولا مصافحة ولا زيارات عائلية  ولا حضور في الأفراح والأقراح، مع شكل جديد للأجساد ينقّب فيها الوجه وتخفى اليدان عند الرجال والنساء على حدّ سواء،  ناهيك عن رمزية وداع ضحايا الكورونا حيث لا جنازة معهودة ولا مواساة في أيام معدودة. وجديد الزمن الإعلامي المحلي على الأقل، هو رمزية وقداسة الساعة الخامسة مساء، من حيث كونها لحظة التقاط خبر «المرض، والموت ، والشفاء»، ومن أراد أن يحافظ على إيقاع حياته المعتاد، أصبح في زمن الكورونا «منفلتا»، «مختلفا»، وربما «مجرما لا يحترم العرف والقانون الجديد وحياة الآخرين «، « فالمنفلتون» الذين نلاحقهم اليوم هم  «العاديون» بالأمس.
      3 -مهنيو الصحة، أبطال ونجوم جدد : أفرزت جائحة كورونا فاعلين جدد ، كانت لهم مكانتهم في المخيال الاجتماعي و تمثلات الناس لمهنتهم، لكنها تجددت وتعالت مرتبتها في هرمية التمثلات الاجتماعية، لقد أصبحنا نقرأ ونسمع كلمات من مثل «الجيش الأبيض»، «المجاهدين»، «أصحاب الصفوف الأمامية» وغيرها، وأصبحت تقدم لهم التحايا، وترفع لهم القبعات، ويوعدون بالمنح والامتيازات المالية والاجتماعية الآنية منها والمستقبلية، وعلى الرغم من تعسّر إيجاد لقاح للوباء إلا أنه أصبحت للباحثين في علوم الصحة ومن حام حول حماهم من تقنيين ومهندسين، مكانة «النجوم»، لقد غزا مهنيو الصحة سوق التمثلات، وتجاوزوا أبطالا ونجوما سابقين سيطروا على السوق ردحا من الزمن (كالسوق الرياضية، والفنية والسياسية والإعلامية ، ...)، بل تماهوا مع أبطال الذاكرة الوطنية.
     4   - تراتبية المعرفة في زمن الكورونا: قد يتبادر لدارس الأنثروبولوجيا الدينية وتاريخ الأديان أن زمن المرض والموت هو زمن « انبثاق المقدّس»، ولا خطاب يعلو فوق خطابه، لكنّ رغم ما نلاحظه من تزايد حضور الديني في خطابات الناس وبعض ممارساتهم، يبدو أن زمن «كوفيد- 19» يحيل إلى تراتبية مختلفة على مستوى المعرفة، فالمعرفة الطبية اليوم هي المحدّد للمعارف الأخرى سواء كانت تقنية أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية، فالطبيب هو الذي « يقول أولا» ثم تليه « الأقوال الأخرى».
      5 -سؤال التجربة:  هل نعيش تجربة إنسانية جماعية مختلفة ؟  يبدو لي أننا نعيش تجربة مختلفة ومشتركة في الآن نفسه، فنحن بواسطة «الحجر» نشعر أننا نحمي أنفسنا ونحمي الآخرين، وأننا «نسجن» أنفسنا طوعا أو كرها، على أمل أن نتحرر جميعا من سقم مخفي جاثم على رؤوسنا، بدا لي من خلال بعض الخطابات في وسائل التواصل الاجتماعي أن هناك إحساسا بدرجات متفاوتة، بالمشترك الإنساني، ولكن يبقى أن نتوجه ونتحسّس عن قرب صوت المجتمع وممارساته للإجابة على هذا السؤال.
lفي إطار التدابير الوقائية التي إلتزمتم بها بالتوازي مع إنتشار الوباء، هل توقف المركز عن العمل؟ وهل الباحثون واصلوا مشاريعهم؟ وبأي طريقة؟
أشكر بداية جريدة النصر على تفضلها ببرمجة هذه المقابلة لإلقاء الضوء حول يوميات باحثي مركز البحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية كراسك بوهران في ظل هذا الوباء  كوفيد 19، وردا على السؤال أود أن أشير أننا التزمنا كإدارة مسيرة للمركز بتعليمات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والمديرية العامة للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، بتسريح الفئات التي تمّ التنصيص عليها في المرسوم الحكومي، والإبقاء على الخدمة الدنيا من الناحية الإدارية، وكذا وضع مخطط عمل لكل الباحثين في أقسامهم ومستخدمي دعم البحث في مصالحهم بحيث يتواصل العمل عن بعد من خلال البريد الإلكتروني خاصة، ويتمّ تقييم سير تقدم العمل في كل قسم ومصلحة بشكل دوري كل نهاية أسبوع. ونحن بصدد مواصلة عملنا، عن بعد بشكل عادي جدا وبأكثر فاعلية في بعض الأقسام والمصالح، وأخصّ بالذكر على سبيل المثال لا الحصر، لجنة تحرير مجلة إنسانيات، وفريق المنصّة الإلكترونية التي هي قيد الإنجاز لتثمين مخرجات البحث في المركز، والتي تضم أهمّ نتائج ومحصّلات مشاريع البحث التي أنجزها باحثو المركز وتوصياتها العملية لتقييم ودعم وتوجيه السياسات العمومية، حسب مجالات التخصّص والقطاعات محلّ البحث، وكذا كل منشورات المركز، بداية بكل أعداد مجلة إنسانيات التي وصلت رقمنتها إلى العدد 84، وكل أعداد المجلة الإفريقية للكتب ARB (30عددا)، وكل كتب وكراسات المركز التي تجاوزت 400 منشور ، ناهيك عن مجموعة من تقارير الخبرة وتقييم السياسات المحلية والمركزية في قطاعات مختلفة. والهدف أن نضع كل المنتج البحثي المنجز في المركز في متناول كل الباحثين والأساتذة والطلبة وصنّاع القرار والمواطنين بشكل أعمّ وأوسع، وهي مساهمة في تقديم محتوى علمي وثقافي للعائلة الجزائرية في هذه الفترة الخاصة من التباعد الاجتماعي حسب لغة الخطاب الطبي المستخدمة حاليا، وأغتنم الفرصة لأعبر عن تمنياتي أن يكون وقع السقم ألطف وأن يكون الفجر أقرب، وأن تكون المحنة بابا لمنحة التضامن والأخوة والشعور المشترك بالإنسان.              خ ،ب

الرجوع إلى الأعلى