استطاعت الدكتورة فاطمة الزهراء بن حميدة أن تكتسب سمعة دولية حسنة لدى هيئات دولية مرموقة مختصة في مجال التكنولوجيا، فتم اختيارها سفيرة الجزائر بالعديد من البرامج الموجهة للشباب والعائلات، وفي هذا الحوار الذي خصت به النصر، تروي لنا الباحثة الشابة بالمدرسة العليا للإعلام الآلي بالعاصمة، رحلة نجاحها التي بدأت من صحراء حاسي مسعود لتحط بها في كبرى شركات المعلوماتية بالعالم، كما تتطرق إلى مساعيها لكسر الصورة النمطية التي تشكلت عن المرأة بالجنوب خصوصا، وتشرح لنا جهودها لإقحامها في مجال التكنولوجيا.

* حاورتها: ياسمين بوالجدري


أنت ابنة الجنوب الجزائري التي تحدّت بيئتها لتصبح سفيرة لأكبر البرامج التكنولوجية في العالم، فهلاّ عرفت القراء من هي فاطمة الزهراء بن حميدة وكيف نشأت؟
أنا ابنة الصحراء، فأصلي من مدينة تقرت لكن عشت وترعرعت في حاسي مسعود إلى أن نجحت في امتحان شهادة البكالوريا. بعدها درست بالمدرسة العليا للإعلام الآلي بالعاصمة وحصلت على ديبلوم مهندسة دولة ثم على الماجستير والدكتواره، والآن أعمل كأستاذة وباحثة جامعية في المدرسة نفسها، أين أدرّس الطلبة وأجري أبحاثا في تخصص أنترنت الأشياء وكل ما يتعلق باستعمال التكنولوجيات الحديثة لحل المشاكل المسجلة بجميع الميادين، سواء في الطب أو المدن الذكية أو تحسين استهلاك الطاقة.
أنا أيضا ناشطة في عدة مجالات تطوعية وتم اختياري أول شيء كمستشارة في مجال التدريس الجامعي والعلمي من قبل هيئة التعليم الدولي والاستشارات الأكاديمية IEACON، وذلك لمساعدة الطلبة وحتى حديثي التخرج بجميع أنحاء العالم، بتقديم خدمات لهم عن طريق صفحة الويب للحصول على مناصب عمل وحتى منح دكتوراه وماستر وهي مبادرة بدأت من السويد ثم توسعت على نطاق عالمي أكبر.
لماذا اخترت تخصص الاعلام الآلي؟
بحكم الأعراف في مجتمعنا، يُنظر لأي شخص متفوق في دراسته على أنه مشروع طبيب القرية، لذلك فالجميع نصحوني وقتها بدراسة الطب لكنني لم أكن أحب هذا التخصص وكذلك الصيدلة اللذين كانا موضة في ذلك الوقت (سنة 2001)، في نفس الوقت كنت جد شغوفة بشعبة الرياضيات وأعشق كل مسائل الذكاء والتفكير النقدي وحل المشكلات. ورغم أنني كنت في شعبة علوم الطبيعة والحياة إلا أنني كنت أحضر دروس أقسام الرياضيات والتكنولوجيا.
في ذلك الوقت، سمعت عن المدرسة العليا للاعلام الآلي، وقررت الالتحاق بها بعد الاطلاع على برنامجها. كنت أيضا محظوظة بأن كان لدي كمبيوتر في البيت ما أكسبني فضولا لمعرفة كيف يعمل هذا الجهاز، وكل هذا جعلني أختار الاعلام الالي وهو اختيار لن أندم عليه أبدا.
في سنة 2017 تم اختيارك إلى جانب 100 امرأة في العالم للتدرب ضمن البرنامج الأمريكي «تيك وومن»، بمنطقة «سيليكون فالي» التي تضم أضخم شركات المعلوماتية. كيف بدأت هذه المغامرة؟
بدأت برسالة الكترونية حوّلها إلينا مسؤول ما بعد التخرج بالجامعة من سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بالجزائر ككل الرسائل التي تصله بخصوص المنح من مختلف السفارات والبلدان. لم أكن قد سمعت عن هذا البرنامج من قبل، لكن زوجي كان يعرفه فتحمس للأمر ورأى أنني جد مؤهلة للذهاب إليه.
مع دعم وإصرار زوجي شاركت في المسابقة، فكتبت عن مشروعي لتسهيل تعلم المرأة للتكنولوجيا سيما لنساء الجنوب أين يسود اعتقاد أن التكنولوجيا ليست للمرأة، كما بيّنت بعفوية لماذا اخترت التدريس الجامعي. بعدها تم اختاري مع 100 امرأة من ضمن 4 آلاف قدمن للبرنامج عبر العالم، ثم ذهبت لسيليكون فالي عقب اختبار شفوي، وحظيت هناك بورشات تدريبية حول ريادة الأعمال وصناعة مشروع علمي بأكبر الشركات المرجعية في التكنولوجيا بالعالم، مثل «لينكد إن»، «غوغل»، «تويتر» و»مايكروسوفت»، ما سمح لي بتطوير مهاراتي لتُضاف إلى تلك التي تعلمتها في الجزائر. «تيك وومن» كان أحسن فرصة وتجربة حيث فتح لي أبوابا كبيرة بعد ذلك، فزيارة سيليكون فالي كانت بالنسبة لي حلما يبدو بعيد المنال.
ذكرتِ أن زوجك دعمك لخوض التجربة، بالمقابل لم تستطع العديد من النساء بلوغ أحلامهن غالبا بسبب رفض الزوج لفكرة تفوق المرأة. هل تعتبرين نفسك محظوظة؟
زوجي من الأشخاص الذين يحاربون التفكير الثقافي المغلوط ويفكر بعقلانية، فهو يقدر طموحي ولم يفكر في مسألة أن المرأة يجب ألا تتفوق على زوجها، نحن نعيش بعفوية ونشجع بعضنا البعض. هذا لا يعني أن كلينا استثنائيان فما هذا إلا مجرد مسار ضمن مسارات أخرى علينا القيام بها لمحو الصورة النمطية في مجتمعنا، ولو أن الأمور بدأت تتغير وتحتاج فقط إلى دفعة أخرى، ففي السابق كان الرجل يرفض فكرة عمل المرأة وحتى خروجها من المنزل، غير أنه أصبح اليوم يعتز بالزوجة التي تملك شهادة وتعمل وتقود السيارة وتساعده في تكاليف المنزل.
أنت كذلك حكم ومؤطرة ببرنامج «تيكنوفايشن» منذ 3 سنوات. ما الذي يقدمه للشابات الجزائريات المهتمات بالمعلوماتية؟
«تيكنوفايشن» برنامج تدريبي بدأ في الطبعات الأولى بتقديم تحديات لمجموعة من الشابات من كل أنحاء العالم عبر تكوين فرق أعمار أفرادها بين 14 إلى 16 سنة وبإشراف مؤطرين متطوعين، وذلك للعمل على حل المشاكل المطروحة بالمجتمعات، والتحدي هو وضع تطبيق هاتفي يتعلمون من خلاله البرمجة وحل المشاكل من الصفر وأيضا تعلم كيفية الإقناع بأن المشروع سيعود بالفائدة لتحقيق ربح منه.
بعدها يتم الاختيار عن بعد ثم الذهاب للولايات المتحدة الأمريكية لعرض المشاريع والحصول على جوائز لـ 3 فائزين يُقدَّم لهم الدعم لإقامة مشاريع في بلدانهم. طيلة عملي ضمن هذا البرنامج مرت علي العديد من المشاريع من كل القارات والتي اختلفت المشاكل المطروحة بها.
أدعو الفتيات الجزائريات لمتابعة «تكنوفايشن غيرلز» للعام المقبل، بتكوين فرق للوصول إلى النهائيات ولما لا بلوغ المراتب الأولى.
وقع عليك الاختيار أيضا لتكوني حكما ضمن برنامج «فاميلي تشانلج» الموجه للعائلات. ما الذي تعلمته من هذه التجربة؟
«فاميلي تشانلج» هو أحد برامج «تيكنوفايشن» وهو مخصص للعائلات لكي لا تكون التكنولوجيا منحصرة على الطلبة المتخصصين في هذا المجال، حيث يقدم معلومات خفيفة حول الذكاء الاصطناعي لإيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية عن طريق تطبيقات الهاتف، وقد أسعدتني رؤية أطفال وأولياء يريدون التعلم لتحسين معارفهم في مجال التكنولوجيا.
ما اكتشفته من هذه التجربة أن بلدانا متطورة ما تزال تبحث عن حلول لمشاكل اجتماعية كنا نعتقد أنها لم تعد موجودة كالتنمّر مثلا، كما تعلمت منها أن الشغف يسمح لشخص لم تكن له أدنى دراية بالمجال، أن يستطيع بطريقته البسيطة وضع الحلول والخطوة الأولى التي تأتي بالحل الفعال. أتعلم من كل تجربة كحكم أو خبيرة فهي تغير الأفكار المرسخة في أذهاننا من وسائل الاعلام.
هذه التجارب جعلتني أتعلم من مجتمعات مختلفة، وأنقل التكنولوجيا لبلادي. أشعر أنه من واجبي أن أكون سفيرة للجزائر بالخارج لتصحيح الأحكام المسبقة عنها. هناك كفاءات محلية بنسبة 100 بالمئة ويمكنها أن تؤدي هذا الدور، فأنا مثلا درست في المدرسة الجزائرية وبالصحراء أين لم تكن لدي فرص كبيرة، لكن الحمد لله أصبحت اليوم ألقي محاضرات في حدث عالمي بمشاركة 26 ألف شخص من بلدان متطورة، يأتون ليسمعوا لك وكلهم دهشة. هذا فخر كبير لي.
ماذا عن مشاريعك المستقبلية؟
أحاول توزيع المعرفة لتعود بالفائدة على الآخرين، لذلك سأعمل دائما على مشاركة كل الكفاءات والمساهمة لكل ما فيه صلاح للبلاد والعالم بالبحث العلمي والتدريس الجامعي وأيضا عن طريق الاستشارات، مثلما أفعل حاليا مع «إياكون».
المشروع الثاني هو مواصلة التطوع بريادة الأعمال الاجتماعية وأن أكون مصدر إلهام للشباب وأية فئة من المجتمع لم تستطع تحقيق حلمها بسبب الصورة النمطية وهي العائق الوحيد المقلق الذي يجعل المرأة تعتقد أنها لن تستطيع الوصول.
بمشاركة مسارنا المتواضع نفهم هؤلاء بأن لا شيء مستحيل وبأنه يجب الاصرار والمثابرة والتحدي لبلوغ الهدف، لكن كوني إنسانة طموحة قد تتغير إجابتي لاحقا فمشاريعي ليست لها حدود مادامت ستكون لها فائدة على نطاق واسع.
بالحديث عن الصورة النمطية برز في الدول الغربية ما يعرف بتمكين المرأة وبدأ الترويج لهذا المفهوم. ما هي قراءتك لهذا الواقع بالجزائر تحديدا؟
سؤال مهم، في الواقع المبادرات موجودة على المستوى العالمي وحتى بالجزائر لكن في اتجاه آخر، فنحن نشجع المرأة في الصناعة التقليدية و ولوج المقاولاتية، وهي مبادرات جيدة لكن الهدف الأساسي هو اجتثاث المشكلة من جذورها، والمشكلة تكمن في الأعراف وطريقة التنشئة بتربية الطفلة على ألا تفعل هذا وذاك لأنه وظيفة الرجل و لأنه عيب. تغيير الثقافة السائدة بالمجتمع يتطلب وقتا عبر تربية أجيال وأجيال.
لقد تعودنا على أخذ العبر من البلدان الأخرى، لكن الحل موجود عندنا قبل أن يكون عندهم، فلا يوجد كتاب دافع عن المرأة وأعطاها حقها مثل القرآن، لكن قلة تفهمه، وقلة أيضا تفهمه ولا تطبقه.
هل يمكن أن تكوني في المستقبل إحدى النساء الجزائريات الداعمات لهذا التوجه؟
أريد أن أكون فعالة لإحداث التغيير ولو بقدر قليل جدا، لقد شعرت أن هناك تفاعلا من المجتمع خاصة عندما أتلقى ردود أفعال من أصدقاء ومتتبعين على وسائل التواصل الاجتماعي والصفحات، هم يخبرونني أنني نموذج يحتذى به ما يجعلني أسأل نفسي «لماذا يقولون عني هذا؟»، رغم أنني لم أكن أقم إلا بما أحبه، بعدها اكتشفت أنهم يرون في شخصي المرأة الطموحة المؤمنة بحلمها والتي تحدت العراقيل الفكرية بالمجتمع وليس فقط العملية. هم يرونني مثالا وقدوة يستمدون منها الشجاعة لمواجهة هذه العراقيل، لذلك فأنا أعمل على القيام بأي شيء يساعد الفئة النسوية.
أظهرت أزمة كورونا حاجتنا المتزايدة إلى المعلوماتية. ما مستقبل هذا المجال في عالم ما بعد الجائحة؟
قبل ظهور أزمة كورونا كنت أؤمن بأن الاعلام الآلي هو أول ميدان سيكون له مستقبل، فنحن اليوم في العالم 4.0 أين دخلت المعلوماتية كل الميادين وبمستوى عال جدا جعلنا غير قادرين على الاستغناء عنها، وقد عززت أزمة كورونا اعتقادي هذا.
أول ميدان احتجناه في هذه الأزمة هو الطب والبيولوجيا لإنقاذ الأرواح، لكن كان هناك تحدي الإسراع في إيجاد الحلول، والأمر الوحيد الذي سمح بهذه السرعة هي المعلوماتية لجمع المعطيات من كل مكان وتحليلها. وحتى من الناحية الاقتصادية نلاحظ أن الطلب الأكثر في التوظيف كان في مجال المعلوماتية وتحليل المعلومات، ما يبزر حاجتنا للمعلوماتية على نطاق عالمي وفردي.
ما الذي تعلمته طيلة فترة الحجر التي تدخل شهرها الثالث؟
استوعبت أنه يمكننا مشاركة الآخرين الكفاءات دون انتظار السيارة أو ركوب الطائرة، لقد كنا جميعا جالسين في غرف من أربعة جدران واستطعنا أن نتفاعل مع عديد كبير من الأشخاص الذين لا نعرفهم، ففي رمضان شاركت مع نوادي علمية وألقيت محاضرة عن بعد لمساعدة الطلبة حول البحث العلمي، وقد لقيت صدى كبيرا كما قمت ببث مباشر لتشجيع النساء على ولوج مجال التكنولوجيا بالتنسيق مع سفيرة نوادي «غوغل» في الجزائر وقد كان لهذه التجربة صدى رائع أيضا، حيث وصلتني بعد ذلك دعوات عديدة أخرى.
ما الدرس الذي علمته كورونا للبشرية؟
كان درسا كبيرا وصعبا، لقد أحسسنا كأننا كنا نعيش في عالم ثان كي لا أقول افتراضي. عندما جلسنا في المنزل اكتشفنا أننا أخطأنا في ترتيب الكثير من الأولويات، فالوقت كان بين أيدينا لكن نحن من كنا نضيعه. فهمنا أيضا أنه وحتى نحن جالسون في المنزل يمكننا أن نعمل ونؤثر ونكون أكثر إنتاجية.
تعلمنا أن الأولوية للانسان هي أن ينتبه لصحته ويستمتع بوقته مع عائلته والقريبين منه. كل الأولويات رُتبت من جديد وفهمنا أن العديد من النعم التي كنا نعيشها والفرص التي أعطاها لنا الله كانت تبدو لنا بديهية.. اكتشفنا أن القليل الذي أصبحنا نرضى به هو الأهم، بعدما كنا نركض وراء كماليات لوثت وقتنا وامتصت طاقتنا وجعلتنا ننسى شكر الله على نعمه.
ما هو مفهوم النجاح بالنسبة لك؟
النجاح عند أشخاص قد يكون مجرد عمل عند أناس آخرين لا يبحثون عن الشهرة بل عن الرضا الذاتي وإلهام الآخرين والتأثير عليهم إيجابيا على نطاق أوسع من النطاق الفردي، لذلك ما يراه البعض أمرا عظيما هو بالنسبة لي تحقيق ما أصبو إليه في حياتي، وغدا إذا قررت البقاء في البيت للتفرغ لتربية أبنائي سيكون هذا الأمر بالنسبة لي أكبر نجاح رغم أن أشخاصا آخرين قد يرونه فشلا.
                                                                              ي.ب

الرجوع إلى الأعلى