عقليــــة - الرجلــة -  وراء تفشي الاستهتـــار بإجراءات الوقايــــة
• أستعد لإنجاز دراسة حول المجتمع الجزائري في زمن كورونا
يستعد الباحث و أستاذ علم النفس العيادي بمعهد علم النفس و العلوم التربوية بجامعة قسنطينة، الدكتور نور الدين مزهود، لانجاز دراسة معمقة حول المجتمع الجزائري يرصد من خلالها الآثار النفسية و الاجتماعية، و حتى الاقتصادية للجائحة، و قد أعد لهذا الغرض، استمارة تتكون من 30 سؤالا، تتضمن عدة محاور، تستهدف عينة تضم ألف إلى ألفي مواطن، و من المنتظر أن ينشرها، كما أكد للنصر، خلال الأيام القليلة القادمة، في الشبكة العنكبوتية، ليخضع الأجوبة لاحقا للمعالجة و التحليل، و يقدم النتائج التي توصل إليها للجهات الرسمية ، لتشكل أرضية لدراسات أخرى حول زمن كورونا.
حاورته إلهام طالب
المعالج النفساني الذي عمل طيلة 17عاما بمستشفى الأمراض العقلية بجبل الوحش في قسنطينة، تطرق أيضا في حواره مع النصر، إلى أسباب سلوكيات الاستهتار و الإنكار الصادرة عن شريحة واسعة في مجتمعنا، المرتبطة أساسا، حسبه، بعقلية «الرجلة» ، داعيا المواطنين إلى التحلي بالهدوء و الصبر و الانضباط ، إلى أن يرفع الله الوباء .
مواطنون متشبثون بنظرية المؤامرة
. النصر: لا يزال الكثير من الجزائريين ينكرون وجود فيروس كورونا، و يتصرفون على أساس أنه غير موجود، كيف تفسرون ذلك؟
ـ  مراد مزهود: هناك عدة قراءات لهذا السلوك، لكن المتفق عليه من قبل الجميع هو أنه سلوك سلبي و غير لائق و غير متكيف مع الواقع المعيش، فهذه الفئة من المجتمع تسمع يوميا، سواء في محيطها، أو عبر الفضاءات الافتراضية، أو شاشات التليفزيون، عن إصابة أعداد كبيرة من البشر ببلادنا و مختلف بلدان العالم بكوفيد19 ،  و العديد منهم فتك بهم، لكنهم يصرون على إنكار أن الفيروس موجود و قد يقتل ضحاياه. من الناحية الاجتماعية، نجد أن الكثير من هؤلاء يعتبرون الفيروس مؤامرة، و يتشبثون بنظرية المؤامرة، و يبين ذلك أن علاقتهم بمؤسسات الدولة المختلفة، ليست مبنية على الثقة، فيعتبرون كل ما هو رسمي، له أهداف خفية غير مصرح بها، لا تخدم أهداف المواطن، بل تلحق به الضرر، و يصنفونه كمصدر استغباء و احتقار للأجيال.
تمرّد و استهتار بتدابير الوقاية
. في المقابل نجد شريحة واسعة من الجزائريين تعترف بوجود الفيروس، لكنها تتصرف بلامبالاة و استهتار، و كأنها تتحداه بعدم الالتزام بالإجراءات الوقائية، هل ترون أنها تفعل ذلك من منطلق كل ممنوع مرغوب، أم بدافع التمرد و العصيان، أم تقودها نزعة انتحارية خفية؟
ـ  نعم.. تكفي جولة قصيرة عبر أحيائنا و شوارعنا، لنلتقي بنماذج كثيرة لا ترتدي القناع الواقي أو ترتديه بشكل خاطئ، و لا تحترم التباعد، و تقبل على التجمعات و تضرب عرض الحائط بكل الإجراءات الوقائية، و الملاحظ أن هذه السلوكيات التي تعكس تهور و استهتار الذين يقومون بها، لا نجدها في الغالب عند النساء، فهن أكثر التزاما بتعليمات السلامة، كما لاحظت، في حين تعكس عند الجنس الخشن، نوعا من النزعة الانتحارية و اللاوعي، و كذا النزعة الذكورية، أو ما يعرف بالعقلية الرجولية أو «الرجلة»  machotو المقصود ب «الرجلة» الشخص المتمرد الذي يعتبر كل القوانين تنتقص من رجولته، و لديه بنية نفسية عقلية، تحرك سلوكيات العصيان و الاستهتار و العدوانية و الفوضى، على أساس أن الرجل الحقيقي لا يخاف من أي شيء، حتى و إن تعلق الأمر بعدوى السيدا أو كوفيد 19، و لا يلتزم بأي شيء، حتى إجراءات الوقاية، و مثل هذه الشخصية موجودة بكثرة في البلدان المتوسطية و بلدان أمريكا اللاتينية.
كوفيد 19 نجح في تعرية الشخصية الجزائرية!
 . ألا ترى أن جوانب من تراثنا و ثقافتنا الشعبية، بما تضمه من أمثال و مقولات و معتقدات، تعزز المغالاة في التعصب للجنس، و بالتالي تمجد، بشكل ما، النزعة الذكورية «الرجلة»؟
ـ إذا اعتمدنا على التحليلات النفسية و الاجتماعية، سنجد أن موروثات كامنة في اللاشعور و تركيبة الشخصية الجزائرية و الذاكرة الجماعية، تعزز هذه النزعة،
فالجزائري يسمع منذ صغره، في كنف أسرته و محيطه عموما، مقولات و أمثال تمجد «الرجلة»، مثل  «الراجل ما يخافش»، « الحبس للرجالة»، «الموت بالنهار»، «معزة و لو طارت»، و غيرها، و يؤدي تكرارها، استنادا إلى نظرية بافلوف، إلى ترسيخها في الذاكرة، من منطلق أن لكل مثير، ردة فعل أو استجابة أو سلوك يتم تعزيزها بالممارسة و التكرار، و المؤكد أن كورونا مثير قوي، كشف عن مكنونات لاشعورنا و قام بتعرية شخصيتنا بشكل كامل.
. و ماذا عن دور المدرسة في تصحيح بعض المفاهيم و الحث على الالتزام بالقيم و التكيف مع مختلف الوضعيات الطارئة؟
ـ ما نلاحظه يوميا من عدم التزام شريحة واسعة في المجتمع بأبسط إجراءات الوقاية التي تحث عليها جهات رسمية و غير رسمية ضمن حملات مكثفة، يعكس أيضا فشل المنظومة التربوية ببلادنا. سأشرح أكثر.. كل شخص لديه مجموعة من القيم و الأخلاق و القوالب السلوكية، يكتسبها منذ طفولته في وسطه الأسري و الاجتماعي عموما، و «يستعمل» بعضها يوميا، و البعض الآخر أحيانا، و أخرى نادرا. إذا كانت المنظومة التربوية قوية و ناجحة، لا تقدم للتلميذ المعارف و العلوم فقط، بل تعلمه أيضا متى و كيف يستخدم القيم التي اكتسبها ، ليواجه موقفا، أو ظرفا طارئا، أو صدمة، أو أزمة صحية، أو كارثة طبيعية، بشكل مناسب و يتكيف بسرعة مع الوضع، ففي اليابان مثلا، يتعلم الأطفال في المدارس سلوكات النجاة، في حال حدوث زلازل و هي كثيرة هناك، و يلتزمون بها حرفيا و يتكيفون بشكل إيجابي مع الوضع.  في حين أثبتت جائحة كوفيد 19، أن منظومتنا التربوية تحتاج إلى إصلاحات عميقة.
انتكاسات في أوساط المرضى
و إصابة آخرين بفوبيا كورونا
. ما هي الاضطرابات أو الأمراض النفسية و الآفات الاجتماعية التي تسببت فيها الجائحة؟
ـ لاحظت أن المصابين بأمراض نفسية أو عقلية مزمنة، أصيبوا خلال الجائحة بانتكاسات متكررة، تطلبت توجههم إلى المختصين، قبل انقضاء الفترة الاعتيادية، كل ثلاثة أشهر، بالمقابل ظهرت عند الفئات الأخرى عدة اضطرابات نفسية في مقدمتها الاكتئاب و وساوس المرض و فوبيا «خواف» المرض و الموت. كما تفشى الاحتراق المهني   burn out      بين الأطقم الطبية و شبه الطبية على وجه الخصوص، لأنهم في الصف الأمامي في مواجهة الفيروس الفتاك، و هم بحاجة ماسة إلى تكفل نفسي متواصل.  و بالمقابل تضاعفت الاعتداءات التي كانت موجودة أصلا قبل كورونا، ضد هذه الشريحة، في ظل اكتظاظ المرافق و زيادة الطلب و الضغوط المختلفة، كما نسمع من حين لآخر عن حالات انتحار أو محاولات انتحار، و كذا جرائم قتل متفرقة..
كما لاحظت أن حالات العنف الزوجي و الأسري، تفاقمت خلال الحجر المنزلي، كما برزت، بسبب توقف عدة نشاطات مهنية و حرمان أسر من مصدر رزقها، خاصة شريحة العمال اليوميين، إلى تفشي الفقر و انتشار ظاهرة التسول و عمالة الأطفال..
لا يمكن تطبيق بروتوكول موحّد للتكفل النفسي
. تم إنشاء خلايا للإصغاء و الدعم النفسي لفائدة المواطنين، هل تعتقد أنها تحتاج إلى بروتوكول تكفل موحد لتنجح في مهمتها؟
ـ كما قلت هي خلايا إصغاء، يصغي النفساني لمن يقصده أو يتصل به و فقط. لحد الآن لم نسمع عن إحصائيات أو دراسات أو تقارير أو نتائج توصل إليها النفسانيون العاملون في ذات الخلايا، أو عملية تقييم موضوعية لما قاموا به منذ بداية الجائحة. كم أتمنى أن ينخرطوا فعلا في العملية بدافع مهني و إنساني، بعيدا عن الاعتبارات السياسية أو الإدارية.
بالنسبة لبروتوكول التكفل النفسي، لا يمكن أن يكون موحدا، بل يضبط، حسب كل حالة، و يتم تغييره ، كلما تغيرت الحالة ..
الوقاية و الانضباط للتغلب
على الجائحة
. هل لديك مشروع دراسة أو بحث في هذا الإطار؟
ـ نعم .. أنا بصدد إعداد دراسة حول المجتمع الجزائري في زمن كورونا، تتضمن معالجة إحصائية و قراءة نفسية و اجتماعية للنتائج، بهدف رصد آثار و عواقب الجائحة، و بعد تحليلها سأقدمها إلى الجهات الرسمية، فقد تشكل أرضية لدراسات أخرى، خاصة و أنها تستهدف عينة تتكون من ألف إلى ألفين مواطن.
أعددت لذلك استمارة تضم 30 سؤالا، تشمل عدة محاور نفسية و اجتماعية و اقتصادية، و هناك محور خصصته لإبراز علاقة المواطن بالدولة، سأنشرها في الأيام القليلة القادمة عبر الشبكة العنكبوتية، من بين الأسئلة التي تضمها الاستمارة أقدم لكم بعض الأمثلة:
. هل ترى أن جائحة كورونا مؤامرة أم عقاب إلهي؟
.هل تصدق الحصيلة التي تقدمها الجهات الرسمية يوميا لضحايا كورونا؟
.هل لديك دخل ثابت؟
. هل أصبح أبناؤك لا يتناولون نفس المأكولات التي كانوا يأكلونها قبل الجائحة؟
. هل حدث و أن وجدت نفسك عاجزا عن توفير الأكل لأسرتك؟
. حدد نسبة انخفاض دخلك خلال الجائحة..إلخ.
.  ما هي النصائح التي تقدمها إلى المواطنين للتغلب على مخاوفهم من كورونا؟
ـ أنصحهم بالالتزام بتدابير الوقاية في كل الظروف، و الانضباط ثم الانضباط.

الرجوع إلى الأعلى