يعتبر نجم موسيقى المالوف الفنان الشاب أمين بوناح، بأن التجديد في هذا الفن حتمية مطلقة يثبتها التطور التاريخي له منذ عهد الخلفاء وشعراء البلاط ، وصولا لمرحلة الاستعمار الفرنسي، لأن ذلك خاضع لمتغيرات اجتماعية تفرض نفسها على طبيعة القصائد الملحونة، وقال أمين، بأن التعصب لفكرة على حساب أخرى أمر مرفوض عندما يتعلق الأمر بالموسيقى، لأنها لغة لا تخاطب العقل بقدر ما تترجم العاطفة بكل تقلباتها، مشيرا إلى أن نظرة المجتمعات العربية لهذا المجال لا تزال حبيسة فكر ضيق يربط الغناء بالمعصية، وأن تقدم الفن و استمراره لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تحرر من الشعبوية و الرعاية الرسمية كذلك، لأن المرافقة الدائمة عودت الفنانين على الاتكالية و حالت دون التأسيس لصناعة موسيقية قوية.
حاورته: هدى طابي
الفن لا يحتمل التعصب
النصر: تعتبر من دعاة التجديد في المالوف رغم تصنيفك كوريث لمشايخه، كيف تنظر إلى الجدل القائم حول الموضوع وما حجتك في ذلك ؟
 أمين بوناح: لا بد أن ننظر للأمر من وجهتي نظر مختلفتين، فالموسيقى لغة تخاطب عواطف الناس وليس عقولهم، ولهذا تتضارب الآراء حول هذا الفن وذلك بالنظر إلى اختلاف طبيعة تلقي كل شخص للرسالة، وعليه نجد من يدعمون فكرة التجديد، مقابل فئة أخرى تعارضه تماما وفي اعتقادي لكل طرف منطقه ولا أحد بينهما مخطئ، مع ذلك أؤكد بأن الفن مفهوم لا يجب أن يخضع للتشدد وأن كل طرف يجب أن ينفتح على إمكانية التغيير.
 أكاديميا يصنف المالوف ضمن قالب الموسيقى الكلاسيكية الجزائريــــة التي تمثـــل الهويــــة و مــــوسيقانا ليســـت لحنا فقط، فالشعر حلقة أساسية في الخارطــــــة الموسيقية المحلية و الفهرس الموسيقي يتضمن أشعارا مختلفة بينها، ما يؤرخ لمراحل تطور هذا الفن، بداية من شعر البلاط  المرتبط بالنوبات  والحوزي والمحجوز ، و وصولا إلى بعض القصائد الشهيرة حديثة العهد مثل قصيدة «يا من يبات يراعي لحباب» لمصطفى لقباطي والتي نضمها حينما نفته فرنسا الاستعمارية إبان حرب التحرير، وهذا التتبع التاريخي لطبيعة القصائد يحيلنا إلى إدراك حتمية التطور الموسيقي.
يجب أن نعي أيضا، بأن التدوين الموسيقي للمالوف وأشعاره كان عبر بحور الشعر، و هو ما سمح بتطويره من شخص إلى آخر من خلال البصمات الخاصة لكل فنان، وعليه يمكن القول بأن هذا الفن لم يكن جامدا يوما بل دائم التجدد، ولذلك أرى بأن التجديد هو واقع تفرضه التطورات المجتمعية، و أنا كشاب جزائري مطالب اليوم، بأن أرفع التحدي لمواجهة تغير الذوق العام، معني بالتفكير في طريقة للحفاظ على هذا الموروث و تقديمه بصورة تجذب إليه الاهتمام، وهو مسعى لن يتحقق بعيدا عن العصرنة و تحديث الأساليب وتحيينها.
كيف يمكن تحقيق ذلك و ما هو الأسلوب الذي تقترحه من منظورك كفنان و كشاب ؟
 ـ التطوير في اعتقادي يمكن أن يكون بطرق عديدة كالمزاوجة بين المالـــــوف و الطبوع المعاصــــــرة، لمغازلـــــة  ذوق الشباب أولا و شد انتباههم إلى التراث بدرجة أهم، يمكن أن نحقق ذلك أيضا، من خلال إنتاج الأغاني على شكل كوميديا موسيقية مصورة، أو أعمال مسرح أو تصوير قصص القائد في شكل مسلسلات وأفلام كما هو رائج في السينما العالمية.
 لابد كذلك، من الاعتماد على المنصات التفاعلية و استخدام الصوت والصورة، للترويج لجمال هذا الموروث ماديا ومعنويا، بما في ذلك ربط صورة الفن باللباس التقليدي، هذا اللون نخبوي وله جمهوره وما علينا سوى استهدافه بشكل أكبر، عبر التركيز على  المشاركة في مهرجانات الموسيقى العالمية والموسيقى الكلاسيكية عموما داخل الوطن وخارجه.
السينما والمسرح قد يبعثان المالوف من جديد
كدارس للموسيقى هل  يوجد قالب علمي يمكن اعتماده في الجمع بين الأصالة و العصرنة خصوصا في ما يتعلق بالتوظيف الأمثل للآلات الموسيقية؟
ـ  يجب أولا أن نفهم بأن تطوير المالوف أمر مختلف عن عصرنته، فالتطوير يستوجب البحث في نفس السياق لكن بأساليب جديدة، لكن العصرنة تعني الانفتاح و المزج بين طبوع مختلفة تماما، عملية تطوير تشمل تصنيف الحقبة الموسيقية التي تؤرخ لميلاد  هذا الصنف، ومن ثم دراسة نوعية الآلات الموسيقية التي تماشى معه و التي يمكن أن تضاف إليه دون الإخلال بتناغم الأصوات و بالتالي تشويه اللحن، فمثلا لا يصح عزف المالوف باستخدام الآلات الكهربائية أو الآلات النحاسية، لكن يمكن الجمع بين الكمان و كل الآلات السماعية الأخرى.

أما  اختيار الإطار الأنسب فيرجع لطبيعة العازف و تمكنه، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعصرنة و المزج بين الطبوع الحديثة و المالوف التراثي وهي الحالة الوحيدة التي يمكن معها كسر القواعد و استخدام فيها العازف آلة كهربائية.
العصرنة تبيح كسر القواعد
يشمل الحديث عن تطوير الموسيقى التراثية تصحيح بعض أخطاء النطق في القصائد العربية حفاظا على بلاغتها، هل تنتبهون كشباب لهذا الجانب أم أن التصحيح قد يضر باللحن؟
ـ سبق وأن ذكرت بأن قصائد المالوف لم تدون بل حفظت من شخص إلى آخر، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى تغيير نطق الكلمة خصوصا وأن أغلب الشيوخ، عاشوا ويلات الاستعمار و حرموا من التعليم الجيد و عانوا من محاولات القضاء على الهوية، ولذلك لا يمكن لومهم على تكسير الضمة ما لم يخل ذلك بالمعنى، بالنسبة لنا كشباب قد نعيد نطق الكلمة أحيانا بشكل صحيح عند أداء القصيدة، لكننا لا نركز كثيرا على هذا الجانب، بالنسبة لي يبقى مسعى تصحيح الكلمات و ضبطها مهما وقد يحقق للفنان احترام و ثناء النخبة، لكنه ليس ضرورة مطلقة ومستعجلة، فالكثير من الكلمات تخدم معانيها و تصل إلى المتلقي صحيحة عن طريق الألفة و تكرار السماع، لهذا فإن لكل فنان حرية التصحيح من عدمها شرط أن لا ينسب لنفسه فضلا عن اللغة وعلى الفن عموما.
يرتبط اسمك بحمل لواء المالوف و حمايته ألا تثقل كاهلك هذه المسؤولية خصوصا وأنه من الألوان التي تعرف تراجعا تجاريا كبيرا؟
ـ أنا تلميذ الشيخ رشيد بوخويط رحمه الله، وهو زميل للمرحوم الحاج محمد الطاهر الفرقاني و الشيخ ريمون ، الفن بالنسبة لي هواية و احترافه رحلة طويلة تتطلب التزاما، بما في ذلك الالتزام بحمايته و تطويره والحفاظ عليه، وهي مهمة أعتقد بأن تحقيقها بات تحديا في المرحلة الراهنة خصوصا في ظل تراجع الرعاية الرسمية، بالنسبة لي مسؤولية حماية المالوف تفرض على الفنان الارتجال و الاعتماد على نفسه والاستثمار الشخصي في هذا المسعى بعيدا عن الاعتماد المطلق على مرافقة الدولة، فالفن كالهوية يخضع للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
شخصيا لست من هواة الحفلات الرسمية التي تقيد الفن في خانة ضيقة و تعود الفنان على الاتكالية، في رأيي يتعين على الفنان أن  يستثمر لوحده في الصناعة الموسيقية وفق نظرته الخاصة، لأن من شأن ذلك أن يصنع الفرق.
عائلات قسنطينية احتكرت المالوف عند بداياته
هل فعلا يحتكر شباب العائلات القسنطينة العريقة « البلدية» هذه الموسيقى من باب الوراثة؟
ـ ليس بالضرورة، صحيح أن هناك عائلات تشتهر بكونها الحصن الحصين لهذا الفن على غرار عائلة رحماني و الفرقاني و خروطو، لكننا نتحدث هنا عن زمن مضى، وأعتقد اليوم، أن الفرقاني هي العائلة الوحيدة التي لا تزال تورث هذا الفن  لأجيالها، صحيح أن هناك عائلات لها فضل و أفضلية مقارنة بعامة الناس، لكنه واقع ينسحب على كل المجالات بما في ذلك الرياضة والطب و غيرها وهي ثقافة منتشرة في كل دول العالم.
 ربما كانت هناك عائلات قسنطينية، قيدت هذا الفن في بداياته أو احتكرته نسبيا إن صح  القول، لكن ذلك كان ماضيا مرتبطا بالجانب الربحي مهرجانات حفلات أعراس وغير ذلك.
هل يمكن أن نسمع لك عملا قريبا من كلمات والدتك الشاعرة كلثوم دفوس؟
ـ  أكيد لا شك في ذلك، أتشرف جدا بغناء أشعار الوالدة، وقد سبق لي أن قدمت معها عملا مشتركا خلال افتكاكها لجائزة شعرية في فرنسا عام 2018، كما أنوي مستقبلا ترجمة بعض قصائدها إلى العربية و تحويلها إلى أغان.
أنت ابن أسرة يعتبر الطب تخصصا شائعا فيها، كيف تقبل محيطك القريب قرار التحاقك بمعهد الفنون واختيارك للموسيقى كمهنة مستقبلية؟
ـ  وقع القرار كان قويا جدا على العائلة، خوصا وأنني كنت قد حصلت على بكالوريا علمية بمعدل 14.93 ، و التحقت بداية بمعهد الرياضيات والإعلام الآلي ، لكن انشغالي بالموسيقى طغى على تفكيري، لذلك تخليت عن الشعبة السابقة و اخترت معهد الفنون والثقافة، وقد خضت جراء ذلك صراعا حقيقيا مع أسرتي.
وضعي لا يختلف عن أي فنان آخر،  فنظرة المجتمعات العربية لهذا المجال لا تزال ضيقة، وذلك لارتباطها ببعض الخلفيات الدينية، فالمتلقي وإن أحب الفن و استمتع بالموسيقى يبقى مقتنعا بأن الفن مرفوض عقائديا و ممارسته تندرج في إطار الخطأ.   
هـ.ط

الرجوع إلى الأعلى