اخترنا السلميـة في المظاهـرات و كنا قادرين على حمل السـلاح
يعود المجاهد بوحجيرة عبد الرحمان، بذاكرته إلى سنوات الكفاح المسلح، ليسرد علينا تفاصيل مثيرة عن أحداث 17 أكتوبر 1961، التي عايش كل حيثياتها، كواحد من المجاهدين الذين شكلوا جناح الثورة في المهجر، حيث أكد للنصر، بأن هذه المحطة التاريخية المهمة، كانت ستشكل فارقا كبيرا و تغير تاريخ الاستقلال لو أن من خططوا لها، سمحوا للمتظاهرين، أو على الأقل مناضلي المهجر، بحمل السلاح آنذاك، خصوصا وأن صفوفهم كانت منظمة، وجلهم كانوا يمتلكون أسلحة اضطروا للتخلي عنها، لأجل سلمية قوبلت بالقمع.

ضحايا قمع المظاهرات يتجاوزون 3 آلاف قتيل و 4 آلاف مفقود
 يستعد المجاهد، ابن ولاية جيجل، في الأيام القادمة للاحتفال بعيد ميلاده 88 ، مؤكدا بأنه قضى عمرا في خدمة الوطن و الدفاع عن الحرية التي تشبع بعقيدتها وهو في سن 16 ،  بعد هجرته إلى فرنسا و التحاقه بالنضال، كعضو في حزب الشعب، الذي غادره احتجاجا على سياسة مصالي الحاج، مشيرا إلى أن سنة1957 عرفت جدلا كبيرا بين جزائريي فرنسا و دفعت بمناضلين في الحزب إلى الانشقاق عن مصالي، و تجميد مبلغ معتبر من التبرعات التي كانت تجمع، دعما لحرب التحرير، و كانت مقيدة آنذاك في بنوك سويسرية، و يقدر المبلغ بـ80 مليون دولار.
محدثنا قال، بأن مصالي « خذل قضية التحرير بعد سنة 1954، أي مباشرة بعد ارتباطه بزوجته الفرنسية، و توطيد علاقته بموريس توريس، رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي، ، خصوصا بعدما أعاد هيكلة الحزب تحت مسمى « MNA «، مؤكدا، بأن صراعا حقيقيا كان قائما بين الرجل و المنشقين عنه، لصالح حزب جبهة التحرير الوطني، وأن ممارسات حزبه تجاه أبناء بلده من المجندين لخدمة الوطن، كانت سيئة.على حد تعبيره.
وعلى خلفية ذلك، ذكر المجاهد، بأن قيادة جبهة التحرير أمرت بإجراء جرد شامل للجزائريين المتواجدين في فرنسا و محاولة معرفة خلفياتهم وعلاقتهم بفرنسا و بالوطن، وما إذا كانوا يدفعون اشتراكات الحزب، و ذلك خوفا من أن يندس بينهم جاسوس،  إذ تم اختيار كلمة سر سارية لمدة شهر، تلتها كلمات أخرى،  لكل منها مدة صلاحية معينة تتراوح بين أسبوعين و يوم واحد، كما أصدرت الجبهة قرارا في 25 أوت 1958، بفك الحصار عن الجزائريين في فرنسا، و التحرك لأجل محاربة العدو على أرضه، تزامنا مع نشاطها في هيئة الأمم المتحدة، حيث برمجت عمليات مسلحة و هجمات استهدفت المنشآت الإستراتيجية للعدو، و اختيرت مصانع تصفية البترول و الغاز و تخزين المحروقات كهدف رئيسي، إضافة إلى استهداف شبكة القطارات والسكة الحديدية و مينائي مارساي و  تولون و مصانع الدخيرة الحربية، على امتداد التراب الفرنسي.
و تم تدريب مجموعة خاصة  للقيام بهذه العمليات، و تكللت الهجومات بـ 56 عملية، من أصل 242 تم تسطيرها مسبقا، تمت في مجملها بين منتصف الليل و إلى غاية الخامسة صباحا، و قتل عقب العمليات التي استمرت بشكل متقطع لقرابة شهرين كاملين 82 فرنسيا، بينهم محافظو شرطة، كما جرح 188فرنسيا.
حسب المجاهد، فإن هذه الهجمات، تعد خلفية لقرار فرض حظر التجوال على العمال الجزائريين في فرنسا و تقييد تحركاتهم و التضييق عليهم بشكل كبير، كما خلفت رد فعل انتقامي كبير من قبل فرنسا بداية من تاريخ 5 أكتوبر، إذ قتل عدد كبير من الجزائريين و اقتيد المئات نحو السجون و عذب آخرون بقسوة، وهي ممارسات أكسبت القضية الجزائرية تعاطف عدد من الفرنسيين، و كانت وراء استحداث تكتل « حاملي الحقائب»،  المشكل من أشخاص مهمتهم شراء ونقل الأسلحة و نقل و تحويل الأموال، التي يتم جمعها كتبرعات للثورة، وهو تكتل كان ينشط على محاور الجزائر و فرنسا و سويسرا و روسياو ألمانيا و بلجيكا و إيطاليا، إذ كان العمال الجزائريين في تلك المرحلة يتبرعون شهريا بمبلغ 500 فرنك إلى ألف فرنك فرنسي  شهريا لصالح الثورة، وهي مساهمة كانت تزيد كلما نقص عدد العمال، حتى بلغت 3500 فرنك شهريا، حيث بلغت المساعدات الدورية التي كانت ترسل إلى فرحات عباس سنة1958، ما يعادل أو يزيد عن مليار فرنك، وذلك إلى جانب الأسلحة التي ترسل عبر سلسلتين، الأولى إيطاليا تونس و ليبيا و إسبانيا و المغرب.
  محدثنا قال، بأن تضييق السلطات الفرنسية زاد مع مرور الأيام، لدرجة أن تحركات العمال، أصبحت تقيد في سجلات خاصة تحدد مسارهم وتوقيت نشاطهم و تحدد ساعات خروجهم و دخولهم، الأمر الذي استدعى الدعوة إلى مظاهرات منددة بالحظر و بالقمع و الاعتقالات، و كان الموعد الأول هو تاريخ 10 أكتوبر، غير أن فيدرالية مناضلي المهجر أجلته إلى غاية 17 أكتوبر بسبب تأخر الاستعدادات وتعذر التواصل مع كل المناضلين داخل وخارج باريس.
 و في 17 أكتوبر، أخبرنا المجاهد الذي كان مسؤولا عن قسمة ليون، المتكونة من 35 مناضلا، بأن عملية الاتصال تمت، وأن العمال من مختلف المحافظات الفرنسية، أعلموا بمخطط التحرك، سواء القادمين برا عن طريق القطارات أو الداخلين إلى باريس عبر أبواب المدينة القريبة لمحطات الميترو، حيث اختار البعض بوابة « فانسان» و استخدم آخرون بوابة  «مونترون» و مر غيرهم عبر بوابات « دوري و بيرسي و ديفري و ايطالي وسان كلو وشان بيري وكيلشي و سانت أنطوان» وغيرها.
وتم الاتفاق على أن تتفرع المظاهرة عبر حوالي 20 مسارا، من بينها ثلاث مسارات رئيسية، شكلت ذروة الحضور، ضمت الجادة 20 و الدائرة 18 و الجادة 19 و الدائرة 17، كما تم التركيز على الشوارع الكبرى التي تتواجد فيها السفارات الأجنبية، لتصب الحشود مجتمعة في «ساحة الجمهورية» و تتجه نحو قصر الجمهورية كنقطة أخيرة.
 حسب المجاهد، فإن حوالي 80 إلى 90 ألف جزائري اجتاحوا شوارع باريس في لذلك اليوم، و تم التشديد حينها على سلمية المظاهرة، إذ منعوا حتى من حمل ملاقط الأظافر، حتى لا يتركوا حجة لرجال الشرطة، غير أن الفرنسيين باغتوهم بالقمع والتقتيل والتنكيل و رموا الآلاف في الوديان، وقال محدثنا، بأن الأحداث كانت ستختلف كثيرا و تأخذ بعدا مغايرا وإيجابيا لصالح الثورة، لو أن المتظاهرين حملوا السلاح، خصوصا وأن جل المناضلين كانوا يملكون أسلحة أجبروا على التخلي عنها تجنبا لأية صدامات، ولو أنهم استخدموها فقط، للاحتفاظ ببعض الرهائن الفرنسيين أو الأوروبيين آنذاك، لكان تاريخ الاستقلال قد تغير وجاء في وقت أبكر بكثير، خصوصا وأن ثقل الأحداث غير لهجة المستعمر، و دفعه لفتح باب المساومة و التفاوض مع جبهة التحرير الوطني في الجزائر، بداية باقتراح الاستقلال المبتور، مع الاحتفاظ بالصحراء ووصولا إلى اتفاقيات إيفيان.    
يتذكر المجاهد ، بأن المجزرة بدأت يومها مع وصول أزيد من 36 ألف حافلة تضم قوات من الشرطة و الجيش، وكل أطياف العسكر الفرنسي، الذين استخدموا مختلف الأسلحة، لقتل وجرح الجزائريين وأطلقوا الرصاص بشكل عشوائي، كما نكلوا بكل من طالته أياديهم في مشاهد وحشية، أغرقت شوارع باريس في الدماء التي لم تغسلها سوى أمطار طوفانية هطلت، على مدار ثلاثة أيام متتالية، وكأن السماء كانت تبكي على أرواح من قتلوا و ألقي بهم في نهر         « السين» وفي الوديان البعيدة ، و من تم الزج بهم في السجون و رميهم في الإسطبلات وضاع أثرهم إلى غاية يومنا هذا.
5آلاف متظاهر رحلوا من فرنسا نحو سجون الجزائر عقب الأحداث
 حسب المتحدث، فإن الآلاف من الجرحى والمعتقلين و القتلى حشروا جميعهم في مقرات المحافظات، قبل أن تفتح السلطات 50 ألف مقر بلدية، لتجميعهم قبل قتلهم أو رميهم في الوديان البعيدة التي تصب في المانش، و ذلك بعد تكبيلهم، حيث قدر عدد القتلى ب3500 ضحية، مقابل 4آلاف مفقود، كما قال، و دفع امتلاء السجون و المحافظات بالفرنسيين، إلى ترحيل ما يزيد عن 5آلاف جزائري نحو سجون الجزائر.
ورغم القمع و التقتيل، إلا أن المظاهرات لم تتوقف، كما أخبرنا المجاهد بوحجيرة عبد الرحمان، بل استمرت على مدار اليومين المواليين، و توسعت رقعة تأثيرها لتشمل النساء والشيوخ، وحتى الأطفال، وهو ما زاد من همجية المستعمر لدرجة أن أماكن الاعتقال، لم تعد كافية و تطلبت توظيف فضاءات المعارض و فتح العديد من مراكز الاعتقال و التعذيب في « سان موريس لاردواز  وفي حدود إسبانيا و مركز في تول للقصر و آخر في بوك سان موريس وغير ذلك». مع ذلك يؤكد المتحدث بأن القمع لم يؤت بالنتائج المتوقعة من المستعمر، عكس المظاهرات التي كسرت الحصار و ساهمت  في رفع حظر التجوال، مباشرة بعدها.
جبهة التحرير تكفلت بمساجين المهجر وبمصاريفهم
أخبرنا المجاهد بأنه خرج من الأحداث سالما جسديا، لكن صور المجزرة  وأصوات الضحايا، لا تزال تعذب روحه، و أن الضرر المعنوي الذي أصابه يومها، أكبر و أكثر تأثيرا من الضرر الجسدي الذي تعرض له غداة اعتقاله وسجنه سنة 1959، على خلفية هجومات 25 أوت1958 التي استهل حديثه إلى النصر بالإشارة إليها، وهي أحداث كلفته المشاركة فيها قرابة سنة و نصف سجنا.
ويتذكر محدثنا هذه المحطة بكثير من الحزن، لأنه فقد خلالها عددا من أصدقائه ورفقاء النضال الذين ذكر منهم موسى لشتر و طافير وأحمد بوخالفة و فيلالي و بوشاقور الذين قال بأنهم حكم عليهم بالإعدام، ضمن قائمة ضمت 43 شخصا في فرنسا و 120 شخصا في الجزائر، أما هو و 10مناضلين آخرين، فقد اقتيدوا إلى مغارة خارج باريس تعرف باسم» سانت فوا لو ليو» يزيد طولها، كما قال، عن 15 كيلومترا، لا تتوفر على الإنارة و كانوا يفترشون داخلها التبن و يتحملون التعذيب في انتظار الموت، وهي معاناة دامت ستة أشهر كاملة، قبل أن يحولوا إلى سجن «  ليون سانت بوران»  بمدينة ليون، ومن بعدها إلى سجن جديد يعرف     بـ « لو كون دو لارزاك»، و هو سجن كان يفصل بين أتباع مصالي الحاج وأتباع  جبهة التحرير الوطني بشكل مريب و باعث على الشك، إذ كان مسيروه يحاولون التركيز على الاختلافات بين الطرفين، و يحذرون بأن التقارب سينتهي بالصدام، في محاولة لتأجيج الفتنة.
7مناضلين ماتوا جوعا في السجن تضامنا مع بن بلة
ظروف السجن كانت صعبة جدا، بسبب قلة النظافة  و انتشار الذباب و الحشرات، كما أخبرنا، وهو ما دفع بالمساجين للتهيكل لأجل الدفاع عن حقوقهم، خصوصا وأن جبهة التحرير كانت توفر الدعم لفئة كبيرة من مناضليها هناك، فالبعض كانوا يستفيدون من منحة رمزية قوامها 5 إلى10 آلاف فرنك، تخصص عادة لشراء السجائر و الطوابع البريدية و البرقيات و الأوراق، وغير ذلك، ولعل هذا التواصل مع الجبهة، هو ما دفع بالمساجين إلى الإضراب عن الطعام  لمدة 18 يوما، تضامنا مع بن بلة، وذلك للضغط على المستعمر، خصوصا بعدما قدمت الجبهة شكوى لجمعية الأمم المتحدة، رافقها رفض المساجين الخضوع للفحوصات الطبية وتناول الطعام، ما أودى بحياة 7 منهم، و مرض الكثيرين.
مع ذلك ورغم كل الظروف الصعبة و التعذيب، إلا أن النضال لم يتوقف، حسبه، فقد استطاع المساجين حفر نفق أسفل واحدة من المدافئ الضخمة المخصصة لتدفئة أجنحة السجن، و هرب 17 سجينا لم ينج منهم سوى سجينين اثنين، بسبب الموقع  المعزول للمعتقل، وهي عملية خلفت سخط الفرنسيين، وانتهت بتعذيب الكثير من المساجين.
المجاهد قال بأن ما قام به مناضلو المهجر عظيم جدا ، وأن فيدراليتهم تعتبر بمثابة الصنبور الذي شرب منه كل الجزائريين، مع ذلك فإن الاستقلال لم ينصفهم إلا متأخرا، و بعد سنوات من النضال المستمر لأجل افتكاك الحقوق، فالولاية السابعة، لم تعتمد رسميا إلا سنوات التسعينيات، عقب نقاشات ومؤتمرات عديدة، لإثبات دور المهاجرين في الثورة، على اعتبار أن أولوية التصنيف كمجاهدين، كانت مقتصرة على من حملوا السلاح في الداخل، وهو ما هضم حقوق الكثيرين ممن واجهوا الاستعمار في عقر داره، وكانوا صفا واحدا سياسيا وعسكريا، في وجه المخابرات الفرنسية و العسكر و الشرطة و الخونة و الجواسيس و الجندرمة.
 هدى طابي

الرجوع إلى الأعلى