يؤكد المختص في علم الأحياء الدقيقة والبيولوجيا النووية وعلم الجينوم، الدكتور محمد بلحسين، أن هناك نوعا من الفيروسات يدعى «الفيروس التنفسي المخلوي»، يشهد انتشارا في العديد من دول العالم ويهدد بشكل أكبر الرضع الخدّج وكبار السن، وفي حوار للنصر، أرجع الباحث عودة ظهور هذا المرض، إلى تبعات عمليات الإغلاق والحجر التي فرضتها جائحة كورونا، فيما يعمل العلماء على تطوير لقاحات ضد هذا الفيروس الذي تشبه أعراضه نزلات البرد، لكنه يؤدي كل عام إلى وفاة 100 ألف طفل تحت عمر 5 سنوات في العالم.

حاورته: ياسمين بوالجدري

تشهد العديد من دول العالم ارتفاعا في حالات الإصابة بالفيروس المخلوي التنفسي خصوصا وسط الأطفال، هلا شرحت ما هو هذا الفيروس؟

الفيروس المخلوي التنفسي «آر آس في» هو فيروس من الحمض النووي الريبوزي «آر آن آي» ويتكون من 11 بروتينًا، على غرار الأنفلونزا «أ»، وتقوم جيناته بترميز نفس العدد من البروتينات، حيث يصيب الأنف والحنجرة والرئتين وممرات التنفس في الجهاز التنفسي العلوي والسفلي، ولأن الجسم يرسل الخلايا المناعية إلى الخلايا المصابة لمحاربة المرض، فإنه يتسبب في حدوث التهاب في الشعب الهوائية.
هذا الفيروس موجود في كل مكان، وحتى الكبار يتعرضون له بشكل متكرر بمرور الوقت، لذلك نطور بعض المناعة ضده. هو منتشر حاليا في أوروبا وأمريكا وحتى في بلدان الخليج العربي أين الأعداد في تزايد مستمر، وقد أعلنت الكثير من المدارس أنه لوحظ عدد كبير من الغيابات للتلاميذ ودخول بعضهم للمستشفيات، وهو ما أتوقع أن يحدث في الجزائر كغيرها من دول العالم خاصة أن السنة الدراسية بدأت بحيث يختلط الأطفال، إلى جانب دخول فصل الشتاء الذي يعد الفترة الموسمية لهذه الفيروسات.
على الرغم من ذلك، يواصل الفيروس الظهور عند البالغين والأطفال الأصحاء على شكل نزلة برد عادية، مع أعراض مشابهة لتلك التي تسببها فيروسات نزلات البرد الأخرى، مثل فيروسات الأنف والفيروسات الغدية واثنين من فيروسات كورونا الشائعة، لكن هذا لا يعني أنه غير ضار، إذ أنه مكلف بسبب تكاليف الرعاية الصحية وفقدان الإنتاجية، ويمكن أن يكون خطيرًا بشكل خاص على الأطفال حديثي الولادة والبالغين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا، لأن نظام المناعة لدينا يشيخ معنا.
كيف يتنقل الفيروس المخلوي التنفسي وسط الأشخاص؟

ينتشر بشكل أساسي من خلال قطرات الجهاز التنفسي من السعال والعطس والتقبيل، فيما لم يتم بعد إثبات انتقال العدوى عن طريق الرذاذ المحمول بالهواء أو الهباء الجوي، لكن يمكن للفيروس أيضا البقاء على قيد الحياة لعدة ساعات على الأسطح الصلبة، بما في ذلك الطاولات والكراسي. هذه القطرات هي الطريقة أكثر شيوعًا لنقل «آر آس في» مما هي عليه في كوفيد، وعادةً ما يكون الأشخاص المصابون به تلقوا العدوى لمدة تتراوح من ثلاثة إلى ثمانية أيام، حتى لو لم تظهر عليهم أعراض كثيرة، والإصابة الواحدة به تؤدي في المتوسط، إلى ثلاث إصابات أخرى.
ما مدى خطورة عدوى هذا الفيروس؟

بالنسبة للشخص العادي، يعد «آر آس في» أكثر من مجرد مصدر إزعاج، فبالنسبة لمعظم الأشخاص خاصة الأطفال الذين تزيد أعمارهم عن عامين والبالغين الأصحاء، يشبه نزلات البرد تماما، وقد يسبب للمصاب القليل من السعال وسيلان الأنف، وربما حمى خفيفة، ولكن عادة ما نتغلب عليها بسرعة كبيرة.
لكن الأطفال الذين تقل أعمارهم عن ستة أشهر، وخاصة أولئك الذين تقل أعمارهم عن شهرين، يواجهون صعوبة أكبر، حيث تسجل هذه الفئة العمرية أعلى معدلات الاستشفاء وقد تصل إلى ثلاث أو أربع مرات مقارنة بالفئات العمرية الأخرى، والسبب هو حجم مجرى الهواء لدى الصغار حيث أنه ليس واسعا بما يكفي للسماح بتدفق الهواء مع كل الالتهابات التي تسببها استجابة الجهاز المناعي لهذا الفيروس الذي يقتل في بعض الأحيان الأطفال دون سن الخامسة، وكذلك الأطفال الخدج، وأولئك الذين يعانون من أمراض القلب والرئة الكامنة، يكونون عرضة أكثر للمضاعفات والاستشفاء. حسب منظمة الصحة العالمية، كان هذا الفيروس يقتل سنويا قرابة 100 ألف طفل تحت عمر 5 سنوات في العالم.
بالنسبة للبالغين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما، فهم أيضا معرضون لخطر الإصابة بفيروس «آر آس في» الشديد، ويموت حوالي 14000 مصاب، بينما تقتل الأنفلونزا من 21000 إلى أكثر من 44000 شخص من البالغين الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاما كل سنة.

ما هي الفئات الأكثـر عرضة لمضاعفاته؟

الأشخاص الذين يعانون من نقص المناعة، لأن لديهم حالة كامنة تضعف جهاز المناعة لديهم أو لأنهم يتناولون دواء يثبطه مثل أولئك الذين خضعوا لعمليات زرع الأعضاء، حيث يتناولون الأدوية التي تثبط الاستجابة المناعية للجسم لتجنب رفض العضو الجديد، كما أن العديد من الأدوية المستخدمة في علاج أمراض المناعة الذاتية تضعف المناعة.

كيف يتم التشخيص وما الذي يجب فعله في حال الإصابة؟

يتم التشخيص بأخذ مسحة من الفم والأنف والقيام بتحليل «بي سي آر»، تماما مثلما هو معمول به مع الأنفلونزا وكورونا. هناك احتمال كبير أن الشخص لن يعرف ما إذا كان مصابا، لأنه سيشعر بنزلة برد. يجب أن نفعل كل تلك الأشياء التي تعلمناها من وباء كورونا عندما يكون الشخص مريضا، بارتداء القناع والحرص على النظافة الجيدة لليدين، وتغطية الفم عند العطس أو السعال، والعمل من المنزل لمن يستطيع القيام بذلك.

لماذا ترتفع حالات الفيروس المخلوي التنفسي الآن وهل لذلك علاقة بتبعات جائحة كورونا؟
لم يكن هذا الفيروس مثيرا للقلق على مدى الأعوام الماضية، إلى درجة أن مستشفيات أطفال خططت لتوظيف موظفين مؤقتين من بداية شهر نوفمبر وحتى أفريل، لكن وباء كورونا غير كل شيء، فمع بقاء العديد من الأشخاص في المنازل والتباعد الاجتماعي، وغسل اليدين وارتداء الأقنعة عام 2020 وحتى 2021، لم يصل «آر آس في» مثل الأنفلونزا إلى موسميته المعتادة، لكن فجأة في الصيف الماضي، كان لدينا هذا الارتفاع الهائل في الإصابات بالفيروس المخلوي التنفسي، وقد حيّرت الجميع في البداية، قبل أن يتبين التفسير المنطقي من الناحية الوبائية.

كيف ذلك؟

يواجه معظم الأطفال فيروس «آر آس في» لبعض الوقت في عامهم الأول أو نصف عامهم الأول من الولادة ويطورون بعض المناعة أثناء تعافيهم، ورغم أنها لا تدوم لفترة طويلة، إلا أنها تتشكل بما يكفي حتى لا تكون الالتهابات شديدة في المستقبل، لكن بسبب التباعد الاجتماعي لم تتعرض مجموعة كاملة من الأطفال لهذا الفيروس من قبل، لذلك، عندما بدأ المجتمع في الانفتاح في صيف عام 2021، تم الكشف عن الحالات جميعًا مرة واحدة، كما لو كان فصل الشتاء في شهر جويلية.
من ناحية أخرى، فإن دخول الأطفال إلى المستشفيات ليس أعلى بكثير مما هو متوقع أن يكون عليه خلال ذروة الفيروس المخلوي التنفسي النموذجية في منتصف الشتاء، لكن المشكلة أنه لم يصل منتصف الشتاء بعد، ومع هذا نلاحظ ارتفاع حالات الأنفلونزا أيضا، رغم ذلك أرى أنه لا يجب أن نقلق كثيرا، فلا أعتقد أن الزيادة الثلاثية في الارتفاع ستؤدي بالضرورة إلى المزيد من الوفيات، ولكنها ستضع عبئا كبيرا على نظام الرعاية الصحية حيث أن العديد من الأماكن ليست مستعدة للتغلب عليها.

هل هناك علاج محدد للمرضى المصابين بهذا الفيروس؟

لا يوجد دواء لعلاج الفيروس المخلوي التنفسي، لذا فإن العلاج هو في المقام الأول رعاية داعمة لأعراض مثل الحمى والالتهاب، أما أولئك الذين يعانون من صعوبة في التنفس فقد يتلقون أنبوب تنفس أو أكسجين إضافي من خلال قناع أو أنبوب أنف.
هناك عدة أسباب لعدم وجود علاجات لفيروس «آر آس في»، أولها أنه من الصعب جدا تطوير عقاقير فعالة لعدوى فيروسات الجهاز التنفسي، في حين أن معظم مضادات الفيروسات الأربعة المتاحة للأنفلونزا، على سبيل المثال، جديدة إلى حد ما وذات فعالية محدودة ما لم يتم إعطاؤها مبكرا بعد الإصابة. ثانيا، هناك عدد قليل جدا من الأطفال يموتون بسبب الفيروس المخلوي التنفسي لدرجة أن العلاجات لم تكن ذات أولوية قصوى مثل تطوير الأدوية للحالات الأخرى.
الدواء الأنجع حاليا هو عقار «نيرسيفيماب» الذي كان فعالا بنسبة 75 بالمئة عند الرضع الأصحاء في تجربة المرحلة الثالثة، وقد ثبت أنه آمن عند الخدج أيضا. يمكن أن تأتي موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية عليه في وقت متأخر من هذا العام أو العام المقبل.

ماذا عن اللقاحات؟

لا يوجد لقاح معتمد مضاد لفيروس «آر آس في» حتى الآن، لكن من المحتمل أن يكون قريبا. لقد كان العلماء يعملون على مثل هذا اللقاح لمدة نصف قرن، لكن وقعت تجربة كارثية في الستينيات حيث أسفرت عن وفاة طفلين أصيبا بالفيروس بعد تلقي اللقاح، واتضح أن المرض كان أكثر حدة لدى تطعيمهما. لحسن الحظ، قام جيسون ماكليلان من جامعة تكساس، أحد العلماء الذين حدد فريقهم شفرة الحمض النووي الريبوزي المرسال للبروتين الشائك بلقاحات كورونا، بحل مشكلة لقاح الفيروس المخلوي التنفسي مع عالم الفيروسات بارني جراهام.
لقد بدأت العديد من شركات الأدوية تجارب اللقاح مع بروتين ماكليلان في عام 2017، وجاءت أول نتائج ناجحة للمرحلة الثالثة هذا العام. كان لقاح «فايزر» فعالا بنسبة 86 بالمئة، ولقاح «سي آس كاي» بـ 83 بالمئة عند البالغين 60 عاما أو أكثر، كما أعلنت شركة «فايزر» قبل أيام عن تطوير لقاح للأمهات تم إعطاؤه أثناء الحمل بحيث يتم نقل الأجسام المضادة عبر المشيمة إلى الجنين، وأوضحت النتائج أنه كان فعالًا بنسبة 82 بالمائة في منع فيروس «أر آس في» الحاد عند الأطفال حتى عمر ثلاثة أشهر، لكن قبل أن توافق إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على اللقاح، سيكون الفيروس أحد الفيروسات التي لا مفر منها هذا الشتاء. أتوقع أن يكون لقاح واحد على الأقل معتمدًا بحلول نهاية عام 2023، إن لم يكن قبل ذلك.
ي.ب

الرجوع إلى الأعلى