في ساعة مبكرة من صباح 12 ديسمبر 2019 غادر بوخامة لخميسي البالغ من العمر 89 سنة مشته العادر الواقعة غربي بلدية هواري بومدين بقالمة، متوجها إلى مركز الاقتراع بقرية عين خروبة للإدلاء بصوته كما تعود على ذلك منذ استقلال البلاد، فالانتخاب بالنسبة إليه واجب وطني مقدس لا يمكن التفريط فيه مهما كانت طبيعة الانتخاب، و النتيجة التي سيسفر عنها و المستفيدون من العملية، لا يهمه كل هذا، ما يهمه هو الإدلاء بصوته و تأدية الواجب الوطني بكل حرية و قناعة.
«جئت مشيا على الأقدام، ربما يكون النقل الخاص بيوم الانتخاب قد تأخر، أو ربما أكون أنا من توجه باكرا إلى مركز الانتخاب، لست أدري، كل هذا لا يهم، ما يهمني أنني وصلت راجلا و أدليت بصوتي، أنا عائد إلى منزلي بمشته العادر، أتمنى أن يرسلوا الحافلات لنقل النساء إلى مركز الاقتراع، لا يمكن للنساء قطع مسافة بعيدة مشيا على الأقدام».  
لخميسي بوخامة هو واحد من سكان الأقاليم الجبلية النائية بولاية قالمة حيث عمر الفقر و الحرمان سنوات طويلة، لكنهم ظلوا أوفياء للانتخابات و لم يتأخروا عنها، راجلين أو راكبين للبغال و الخيل، و الجرارات الزراعية، و سيارات الطيوطا اليابانية قاهرة الطبيعة الجبلية الصعبة.
في يوم ممطر شديد البرودة صنعت المناطق الريفية بقالمة الحدث، و كانت سباقة إلى مراكز الانتخاب لاختيار رئيس جديد للبلاد، ينهي الأزمة السياسية التي توشك على أن تبلغ عاما من الصراع و التجاذب، و المظاهرات السلمية المطالبة بإبعاد رموز نظام الرئيس القديم، و محاسبة المفسدين و التوجه الفعلي إلى جزائر جديدة.
من برج صباط و بوحمدان غربا، إلى وادي فراغة و عين بن بيضاء شرقا، و من تاملوكة و وادي الزناتي عاصمة سهل الجنوب الكبير إلى بوعاتي محمود و الركنية بأقصى الشمال كانت قوافل الناخبين تملأ الطرقات المعبدة و المسالك الترابية الموحلة، باتجاه مراكز الانتخاب التي فتحت أبوابها عبر كل البلديات مبددة المخاوف التي سادت على مدى أيام طويلة.
عين خروبة...موطن البؤس و الشقاء و الأمل المتجدد   
قبل أن نتوجه إلى قري عين خروبة الواقعة بمرتفاعت بلدية هواري بومدين غربي قالمة، دخلنا اكبر مركز اقتراع بالمدينة السياحية حمام دباغ، مركز متوسطة 18 فيفري للرجال حيث بدأت مكاتب التصويت في استقبال الناخبين على الساعة الثامنة صباحا وسط إجراءات أمنية عادية لا تثير الانتباه، و كان المكتب رقم واحد رجال الأكثر حيوية.  
كانت نسبة الإقبال تتزايد باستمرار بمركز الرجال وسط المدينة الحموية التي تطمح لأن تكون قطبا سياحيا وطنيا بعد انطلاق مشاريع كبرى لبناء الفنادق .
غادرنا مدينة الأحلام قاصدين مرتفعات هواري بومدين باتجاه قرية عين خروبة، التي ظلت تشكو حالها إلى كل زائر أو عابر سبيل، و عندما ساء حالها ثار سكانها ذات يوم و هددوا بمقاطعة إحدى المواعيد الانتخابية التي جرت منذ عدة سنوات، مطالبين بالتنمية و تحسين ظروف معيشة السكان.
 إلى عين خروبة كانت مشته عين الزيتونة في طريقنا، نهض سكانها باكرا للذهاب إلى مكاتب التصويت بمدينة هواري بومدين، رشيد، فهيم، و عادل و عجوز تقدم بها الزمن سنوات طويلة، لكنها مازالت تقاوم و تستند على عصا خشبية متينة لعبور الطريق و الوصول إلى منزل أبنائها الواقع عند طرف المشته الصغيرة التي بدأت تتوسع و تكبر، و قد تصبح قرية في غضون سنوات قليلة، في ظل حركة الإعمار المكثفة، حيث بدأ سكان هواري بومدين و عين خروبة يتوجهون إلى عين الزيتونة هربا من أزمة العقار الحادة التي أوقفت البناء الريفي و مرافق الخدمات.
يقول سكان مشته عين الزيتونة متحدثين للنصر بتفاؤل و تطلع إلى مستقبل جديد قد يبدد ليلا طويلا من المعاناة.
«رغم الظروف الصعبة التي نعيشها هنا بهذه المشته الفقيرة، فإننا ذاهبون اليوم إلى انتخاب رئيس للبلاد، ربما قد يتغير الوضع، هذا واجبنا، علينا المشاركة و الإدلاء بصوتنا و على من يحكمون البلاد بعد ذلك أن يهتموا بالمناطق الفقيرة، السكان هناك يعانون من الفقر و نقص الخدمات و تدني ظروف المعيشة، نحن هنا في عين الزيتونة نعاني من نقص في مياه الشرب و الإنارة العمومية، شوارعنا مازالت من تراب و طين، كما ترون اليوم سقطت الأمطار و السيارات لا تصل إلى مساكن المواطنين، وعدونا بإصلاح الشوارع و تعبيدها بعد تمرير شبكة الغاز الطبيعي، أخيرا وصلنا الغاز الطبيعي، هذا أمر جيد، مازلنا ننتظر الماء و الإنارة الخارجية، و الشوارع النظيفة».
في الطريق إلى عين خروبة كانت المنازل الريفية و مداجن الدجاج و مستودعات تربية الأبقار و الأغنام على مد البصر، في مشهد يوحي بعودة الاستقرار و انتعاش حركة الإعمار بعد سنوات الأزمة الأمنية الطاحنة التي أفرغت الأقاليم الجبلية من سكانها و حولتها إلى مناطق تسكنها الأشباح و كائنات الليل.
بمدرسة الشهيد بوثلجة بوجمعة وسط عين خروبة كان الناخبون يدلون بأصواتهم لاختيار رئيس جديد للبلاد، و كلهم أمل في دعم الاستقرار بالمناطق الجبلية النائية، و مواصلة جهود الإعمار التي بدأت تأتي أكلها بعين خروبة، بعد تعبيد الطريق الرئيسي، و مد شبكة الغاز الطبيعي، في انتظار مشروع مياه الشرب الجديد، و إيجاد حل نهائي لازمة العقار التي تطوق القرية الصغيرة من كل الجهات، و تحول دون توسعها و استقطابها للمزيد من مشاريع السكن و مرافق الخدمات.
أدلى لخميسي بوخامة بصوته ثم توجه إلى ساحة المدرسة حيث تنتصب صخرة عملاقة مغطاة باللون الأخضر.
«هنا كان الجزائريون يعذبون في حرب التحرير، يفرضون عليهم أعمالا شاقة و يجبرهم جنود العدو على تكسير الصخرة العملاقة بكتل حديدية ثقيلة، يجب على الأسير أن لا يتوقف عن تكسير الصخرة حتى تنهار قواه و يسقط أرضا، لا يمكن أن ننسى هذا، ربما الجيل الجديد من الشباب لا يعرف الكثير عن جرائم الاستعمار هنا بمحتشد عين خروبة، و بغيره من مناطق الوطن الأخرى، لذا ترانا نحن جيل الثورة نلبي نداء الوطن بدون تردد، و المسؤولية بعد ذالك يتحملها من يحكمون البلاد».
عدد سكن قرية عن خروبة الجبلية يقترب من الألف نسمة، و تعداد الناخبين فيها يتجاوز 500 ناخب و ناخبة يصوتون كلهم بمركز واحد مختلط بمدرسة بوثلجة بوجمعة، و عندما وصلنا في حدود الحادية عشر صباحا كان 60 من الناخبين الرجال قد صوتوا بمكتب فيه 247 مسجلا.
مجاز عمار...موعد مع الأمل و جزائر جديدة
غادرنا قرية عين خروبة و تركناها عرضة للأمطار و البرد الشديد، و كتل الضباب التي بدأت تطل عليها من مترفعات مرمورة و السطحة و حجر الثلج، و توجهنا إلى بلدية مجاز عمار، بوابة سهل سيبوس الكبير، حيث كانت مدرسة الشهيد صالح بورارة تستقبل الناخبين القادمين إليها من مختلف الأحياء السكنية المجاورة، هنا يوجد أكبر من 3300 مسجل من الرجال و النساء في واحد من أكبر مراكز التصويت بمجاز عمار، عندما وصلنا كانت النسبة تقترب من 15 بالمائة قبل منتصف النهار، و توقع رئيس المركز ارتفاع نسبة المشاركة قبل نهاية العملية ، مؤكدا للنصر بأن العملية تجري في هدوء تام، بهذا المركز الهام الذي ظل مصدر اهتمام الأحزاب السياسية و المرشحين في المواعيد الانتخابية السابقة.
  و تطمح مجاز عمار اليوم لان تكون بلدية نموذجية في الإنارة العمومية الاقتصادية، و الزراعات المسقية، لكنها تعاني من أزمة عقار حادة منعتها من استقطاب المزيد من مشاريع الإعمار و البنى التحتية المنشئة للثروة و مناصب العمل.
 مداومات مغلقة و سلطة تتابع عن كثب
عبر الوطني 20 أخذنا طريقنا إلى مدينة قالمة التاريخية، أين تتواجد اكبر كتلة من الناخبين، دخلنا إليها بعد منتصف النهار، و كانت وجهتنا ساحات و شوارع الحراك التي ظلت مسرحا للمظاهرات السلمية المتجددة كل جمعة و بعض من أيام ثلاثاء.
 هنا كان شباب الحراك يهتفون بسقوط نظام الحكم القديم، و التوجه إلى جزائر جديدة، لكنهم اليوم اختفوا من مواقعهم المعتادة التي وضعت تحت المراقبة الصارمة، تحسبا لأي طارئ قد يخل بالعملية الانتخابية، كان شارع سويداني بوجمعة، و ساحة نصب الرئيس الراحل هواري بومدين و الساحة الحمراء تحت أعين الشرطة، لكن الوضع ظل هادئا منذ الصباح و مع مرور القوت تبددت المخاوف و لم تبق إلا سيارة شرطة واحدة مغطاة بالشباك المعدني عندا نهاية شارع سويداني بوجمعة القلب النابض للحراك الشعبي السلمي.
و على غير العادة كان مقر حزب التجمع الوطني الديمقراطي، قرب شارع سويداني، و مقر حزب جبهة التحرير الوطني قرب المسرح الروماني، مغلقين لا حركة  فيهما على خلاف المواعيد السابقة، ربما يكون المناضلون قد تفرقوا عبر المكاتب و مراكز التصويت، و ربما اختاروا العمل بعيدا عن الأضواء  .
 و كانت اغلب مكاتب التصويت التي زرناها بحمام دباغ، هواري بومدين مجاز عمار و قالمة، خالية من المراقبين التابعين للمرشحين الخمسة للانتخابات الرئاسية، و لا أحد يعرف سبب الغياب، و قال ناشط يعمل لحساب المرشح عز الدين ميهوبي بمدينة قالمة للنصر بأن بعض مراقبيهم متواجدون بعدد محدود من المكاتب.
نهاية المهمة كانت بمقر السلطة المستقلة لمراقبة الانتخابات، حيث صرح لنا رئيسها حميد حملاوي بأنه لم يسجل أي حادث يذكر إلى غاية الثانية مساء، مضيفا بأن تعدد الناخبين بولاية قالمة يتجاوز 383 ألف ناخب و ناخبة، صوت منهم 8.5 بالمائة إلى غاية الحادية عشرة صباحا.
و قد واصلت هذه النسبة الارتفاع بعد ذلك لتتجاوز 23 بالمائة في حدود الثانية زوالا ثم، و كانت البلديات الريفية مثل بوحمدان و جبالة خميسي، و وادي فراغة و برج صباط تحرز تقدما مستمرا في تعداد الناخبين المشاركين في ساعات المساء التي عرفت انتعاشا كبيرا بدد مخاوف الصباح.      
  وأفادت وكالة الأنباء الجزائرية نقلا عن مصدر أمني، بأنه تم توقيف 6 أشخاص، بوسط مدينة قالمة، بعد محاولتهم عرقلة عملية الاقتراع الرئاسي، وأشار ذات المصدر، بأن الموقوفين، ومن بينهم امرأة، ما زالوا موقوفين لدى مصالح أمن الولاية لاستكمال التحقيق وعرضهم لاحقا أمام الجهات القضائية المختصة، مبرزا بأن من بينهم مسبوقين قضائيا.
  فريد.غ          

الرجوع إلى الأعلى