ضرورة حصر الأوقاف الجزائرية بالخارج واسترجاعها 
دعا باحثون وأخصائيون إلى التنقيب على الأوقاف الجزائرية بالخارج واسترجاعها؛ لأنها منتشرة في أقطار كثيرة من العالم الإسلامي وغيره؛ سواء منها الأوقاف القديمة على غرار ما هو موجود في القدس والحجاز والشام ومصر أو الأوقاف الحديثة خاصة تلك التي أوقفت لصالح الثورة الجزائرية والحركة الوطنية في مصر وفرنسا وسويسرا وتونس والمغرب وغيرها من الدول، كما دعوا إلى استثمار الوقف عقارا كان أو منقولا بما في ذلك وقف النقود واستثمارها التي تعد آلية حديثة ويسيرة لذلك، وفي هذا الملف الذي أجريناه على هامش ملتقى دولي عقد هذا الأسبوع بجامعة الأمير بقسنطينة رصد لهذه الدعوات التي تسعى لتفعيله وإحياء العمل به خدمة للمجتمع والدولة؛ لاسيما وأن الجزائر تحصي اليوم 9967 وقفا وهو ما يمثل جزءا ضئيلا من الأوقاف الحقيقية بالجزائر التي يجري التنقيب عنها وإحصاؤها.
إعداد: د .عبد الرحمان خلفة

للوقف أهمية استراتيجية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية
صارت هناك قناعة بضرورة الاهتمام بالأملاك الوقفية واستغلالها واستثمارها، وتفعيل دورها في المجتمع. فالوقف يشكل أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة، بما يمكن أن يحققه من أمن غذائي  ويسهم في التنمية الشاملة ، ويطور الاقتصاد الوطني ، كما يمكن أيضا أن يوفر الدخل بالعملة الصعبة من خلال تصدير المنتوج الفلاحي للعقارات الوقفية الزراعية.ففي تاريخ الأمة الإسلامية عموما والمجتمع الجزائر خصوصا كان للوقف أبعاد دينية وحضارية وإنسانية بما مارسه من دور تنموي في تدعيم مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والعلمية والصحية و الاقتصادية، وأصبح يشكل مصدر تمويل مستقل بعيدا عن الموازنة العامة. فالوقف من الصدقات الجارية وأعمال البر الدائمة ، التي يحصل نفعها في الدنيا ، وينال صاحبها أجرها وثوابها في الآخرة. وهو شامل لكل أنواع الأموال المختلفة من منقولات وعقارات  وأيضا تعدد مصارفه الخيرية العامة والخاصة الكفيلة بتحقيق حاجات الأمة. ذلك أن أحكام الوقف قابلة للاجتهاد والتكيف مع حاجات العصر ، وتطوير أساليبه وكيفياته بما يفعّل دوره الاجتماعي والاقتصادي ويحقق أهدافه ومقاصده الشرعية.ففي المجال الاجتماعي يمكن للوقف أن يضمن التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع وفئاته، فهو يسهم بدور فعال في تقديم خدمات ومنافع عامة للمحتاجين والمعوزين والمرضى وذوي الدخل الضعيف. كما يمكن له أن يعيد التوازن بين أفراد المجتمع وشرائحه وطبقاته المختلفة ، إلى جانب مؤسسة الزكاة. و في المجال العلمي يمكن أن يسهم في التنمية العلمية بإنشاء مراكز بحثية ومدارس ومؤسسات تعليمية مستقلة والإنفاق على البحث العلمي ، والإنفاق على طلبة العلم وتشجيع الباحثين. كما يمكن لقطاع الوقف أن يسهم في إنعاش الاقتصاد الوطني ، فهو يقوم بحماية المال ودوام استثماره والانتفاع به ، ويجلب للمجتمع موردا ماليا منتظما ، ويخفف الأعباء عن الموازنة العامة ، ويمول مؤسسات ومشروعات إنتاجية وخدمية واسعة ، ويوفر مناصب شغل ، ويقلل من البطالة. وعليه فإن الوقف بحاجة إلى تفعيل دوره ، عن طريق التوعية و التحسيس بأهميته، وتشكيل ثقافة وقفية لدى أفراد المجتمع الجزائري ، حتى يتنافسوا في هذا المجال الخيري العظيم والاستفادة من التجارب الرائدة في العالم الإسلامي والغربي حتى يصير الوقف مؤسسة مستقلة قائمة بذاتها تسهم في التنمية المستدامة.

ضرورة وقف النقود واستثمارها
 نظرا لأهمية وقف النقود في عصرنا وفعاليته، ينبغي العمل على تشجيعه وتفعيله في الجزائر، واستثماره في المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية والاجتماعية، لما فيه من إسهام في بناء المجتمع وسد الحاجات، وفتح باب المبادرة أمام الناس لفعل الخير، لأنه يتيسر للجميع، وله فعاليته أكثر من غيره في إقامة المشاريع الاقتصادية، بخلاف وقف العقار لما لحقه من تهميش وإهمال وخراب. ويحقق وقف النقود غايته باستثمارها، وذلك بتوظيف النقود الموقوفة لدى المؤسسات الوقفية في مشاريع اقتصادية واجتماعية بطرق وآليات حديثة، تكون لها عوائد مربحة، وزيادة في رأس المال الموقوف، فردية أو مؤسساتية جماعية.
ومن الآليات الحديثة والفاعلة في استثمار الوقف النقدي، المضاربة، صكوك المقارضة، والأسهم، وغيرها من الآليات المحققة لهذا الغرض. (وتعد المضاربة من أنجع وأفضل الآليات لتلاؤمها مع استثمار النقود، خاصة عند كثرة الأموال النقدية الموقوفة، بحيث تعجز المؤسسة الوقفية من مباشرة استثمارها بنفسها لكثرتها، أو عجزها عن امتلاك الخبرة والمعرفة في كل مجالات الاستثمار، بينما تسهل المضاربة ذلك بتسليم الموقوف أو مبلغ مالي معين من هذا الوقف إلى شخص أو مؤسسة جماعية؛ تجمع ما بين المؤسسة الوقفية والشركة الاستثمارية التابعة لمؤسسة تجاريّة باعتبارها مضاربة بالمال، كما يتم استثمار الوقف النقدي بصيغة صكوك المقارضة، التي هي البديل الشرعي عن السندات التقليدية التي صدر بحرمتها قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة(قرار:6/11/62). فإدارة الوقف تستطيع أن تساهم في هذه السندات المشروعة، بالاكتتاب فيها، أو شرائها، أو أن تقوم هي بإصدارها، وفي هذه الحالة تكون إدارة الوقف هي المضارب، وحملة الصكوك هم أرباب المال، ويكون الربح بينهما بالنسبة حسب الاتفاق، وعليه فإن المؤسسة الوقفية تقوم بطرح تكلفة المشروع بصكوك يمول بها إنشاؤه، ثم تشترى هذه الصكوك من عائد الوقف شيئا فشيئا.
  واستثمار الوقف النقدي قد يحصل أيضا بصيغة الأسهم: وتتم هذه الآلية عن طريق قيام المؤسسة الوقفية بشراء أسهم زراعية أو صناعية... بهذه النقود الموقوفة على سبيل المشاركة أو المساقاة أو المزارعة أو المصانعة، على أن تكون عوائدها بنسب الأسهم، أو شراء أسهم للشركات التي تتداول أسهمها في البورصة من ذوات النشاط المشروع، كشركات الإسمنت والحديد والبناء والبترول والاتصالات ونحوها. وإذا استثمرت أموال الوقف في الأسهم والصكوك جاز تداولها بالبيع والشراء) على حسب ما تقتضيه مصلحة الوقف والموقوف عليهم، مع الالتزام بالضوابط الشرعية، ومنها: أنه على القائمين على إدارة وقف النقود وجمعها من الواقفين التأكد من سلامتها من الناحية التقنية بأن تكون غير مزورة، كما ينبغي التأكد من سلامة مصدر النقود بأن تكون من مال حلال، وكذا استثمارها بالطرق المشروعة، والتأكد من كون النقود قد دفعت للوقف لا للزكاة، لأن الزكاة لها مصاريفها الخاصة بها.كما يجب اتخاذ كافة الوسائل المشروعة للمحافظة على الوقف واستمرارية عطائه، باستثمار النقود في المجالات الأكثر أمانا، ويتوقف ذلك على أن يكون الاستثمار مبنيا عن دراسة متخصصة في مجال الاستثمار. ولا بد من توثيق العقود والاتفاقات الخاصة باستثمار النقود الوقفية .

آليات تفعيل القطاع الوقفي في الجزائر
إن تفعيل الوقف وإحياء دوره في خدمة المجتمع وأداء وظيفته الحضارية في نهضة الأمة ، يكون عبر آليات ووسائل متعددة نذكر منها:
(أولا)- التوعية الفعالة بالوقف عبر المساجد ووسائل الإعلام وشبكة الانترنت : لأن من شأن ذلك إيجاد قاعدة واسعة من المسلمين للإقبال على المشاركة في الأوقاف القديمة أو في إنشاء أوقاف جديدة ومتنوعة. ويمكن عبر المساجد ووسائل الإعلام القيام بحملات توعوية ، تضمن إيصال رسالة الوقف وأهميته لعموم المسلمين ، ويكون لها تأثير فعال في إحياء الوقف و تفعيله . وتعد شبكة الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي من الوسائل المهمة لذلك.
(ثانيا)- تحقيق المصداقية والثقة بالأوقاف (الشفافية): فعلى الدولة تقديم تقارير سنوية مفصلة عن كل ما يتم بشأن الوقف من حيث التسيير الإداري والتسيير المالي وإعلان ذلك للمجتمع، وهو ما من شأنه أن يعيد الثقة في الأجهزة المسيرة للأوقاف ، ويكون حافزا لاستجابة المجتمع لإنشاء أوقاف جديدة ، والمساهمة في إحياء المهمل منها.ثالثا- تطوير المؤسسة المسيرة والمديرة للوقف : ففي الجزائر ، يتطلب إسناد إدارة الأوقاف إلى إدارة قائمة على أسس شرعية وقانونية حديثة ، وتتوفر لديها الكفاءة المقتدرة التي تستطيع أن تخطط تخطيطا سليما ، ويمكنها الدخول في كافة العمليات الاقتصادية والتجارية محليا ودوليا.
(رابعا) - تطوير المنظومة القانونية المتعلقة بالوقف وتعديلها بما يحقق أهدافه : مما يلاحظ أن البنية التشريعية القانونية التي وضعتها الدولة ، قد أسرت نظام الوقف داخلها ، وعزلته عن الحركة الحرة في مجمل مناحي الحياة ، وأسهمت ضمن عوامل متعددة في إضعاف الميل الاجتماعي نحو إنشاء أوقاف جديدة. وهو ما يؤكد مدى احتياج تلك البنية التشريعية القانونية إلى عملية نقد اجتماعي وتشريح شرعي وقانوني وإلى إعادة النظر ، فيسهل بناء على هذا النقد تعديلها ، حتى تتهيأ عوامل الثقة الاجتماعية –حرية الواقف- من جديد ليقوم بدوره التاريخي الأصيل في بناء مؤسسات مجتمعنا المدني وتمويلها وحمايتها.
(خامسا) - توجيه الدراسات الخاصة بالوقف في الجزائر : تستدعي جهود إحياء الوقف نسج شبكة متكاملة من العلوم الوقفية لرصد القضايا والإشكاليات واقتراح آليات التطوير واستشراف آفاق المستقبل. و على المشرفين على الأوقاف أن تكون لديهم صلة وثيقة بالجامعات والمراكز البحثية للاستفادة من هذه الدراسات.(سادسا) الابتكار في مجالات الوقف: تقتضي عملية تفعيل الوقف تبني صيغ جديدة متوافقة مع الشريعة: ليتسع فيشمل الأموال الجديدة كالنقود والمنافع والحقوق ، ومختلف القطاعات الحيوية للمجتمع كالصحة والتعليم والثقافة والعمران والاقتصاد وغيرها ؛ واعتماد صيغ جديدة مشروعة كالمشاركة والمضاربة والإجارة المنتهية بالتمليك واستثمار النقود الموقوفة عن طريق الأسهم والسندات.  (سابعا)- الاستفادة من الأفكار والتجارب الجديدة في الوقف : ينبغي الاستفادة من تجارب الدول الإسلامية وتبادل الخبرات الفنية والدراسات والاستثمار والقوانين والتسيير والإداري والمالي والتقني.

الوقف الذري في الجزائر فرضته ظروف تاريخية وفيه ظلم اجتماعي
الوقف الذري أو الأهلي أي على الذرية وذريتهم، ويطلق في القانون الجزائري فيطلق على الوقف الذري الوقف الخاص، والوقف على الذكور دون الإناث في الجزائر برز بشكل كبير وواسع إبان فترة الاستعمار الفرنسي حيث شنّ هجمة شرسة على الأوقاف بغية مصادرة الأراضي فكان الوقف الذري ـ  الذي عادة ما تبرمه المحاكم الشرعية السبيل الوحيد لحماية الأراضي من المصادرة وخاصة في الأرياف والمناطق النائية.
أما المبرر الثاني فإن المجتمع الجزائري الذي كان في غالبه مجتمعا ريفيا منغلقا، حيث يسعى أبناؤه إلى المحافظة على تماسك القبيلة والعرش والجماعة الواحدة، وخوفا من تسلط الأزواج والذرية من غير هذه القبيلة على الأراضي والعقارات، يلجأ  الناس إلى الوقف على الذكور دون الإناث، ولكن وحتى لا تحرم المرأة من كل حقوقها يشترطون شرطا وهو أن المرأة لها مؤنة الشتاء والصيف من ريع الوقف، أما في حالة طلاقها ورجوعها إلى بيت أبيها فإنها تستفيد من غلات الوقف. لكن الوقف الذري يهدم كل هذه المقاصد الشرعية ، ويخلق العداواة والبغضاء بين أبناء الأسرة الواحدة، وهو ما يؤدي بالأسر إلى التفكك والتشاحن والتطاحن ومن المعلوم أن كل تصرف يهدم مقاصد الشريعة ويصادمها فهو باطل، فالوقف على الذكور دون الإناث ما هو إلا حيلة من أجل حرمان النساء من حقهن في الإرث. وفي من المتغيرات المعاصرة على الأسرة أن المرأة تعززت مكانتها القانونية، ووصلت لكل مستحقاتها شرعا وقانونا لم يعد هاجس السيطرة على ممتلكاتها مبررا لحرمانها من الوقف أو الإرث، كما أن التوسع الذي طرأ على نظام الأسرة وتفكك نظام القبيلة والعرش واستبداله بمبدأ المواطنة في ظل الدولة المدنية أصبح مبررا قويا لاستفادة المرأة من حقوقها المالية  فلا مقام لمصطلح دخول الأجنبي والغريب .
ومن آليات إلغاء الوقف الذري: الاجتهاد المقاصدي: وهو الاجتهاد الذي يحقق مقصد العدل والمساواة بين الرجل والمرأة، ويكفل الانسجام والتماسك بين أفراد الأسرة الواحدة. والاحتهاد القضائي: بالرجوع إلى قرار المحكمة العليا المؤرخ في 26/ 03/ 1969 فإننا نجدها قد أبطلت الوقف الخاص إذا كان وقفا على الذكور دون إناث،كما نصت المادة 16 من القانون نفسه أنه يجوز للقاضي أن يلغي أي شرط من الشروط التي يشترطها الواقف في وقفه إن كان منافيا لمقتضى حكم الوقف.

الرجوع إلى الأعلى