أوصى باحثون وأخصائيون بضرورة تبني مسلك الاجتهاد الجماعي ودعم الهيئات الفقهية الوطنية والدولية؛ في قضايا النوازل المعاصرة؛ لاسيما نازلة جائحة كورونا؛ داعين هذه الهيئات إلى الانفتاح على الجامعات والكليات الشرعية للاستفادة من خبرات وفقه أساتذتها وبحوث طلابها؛ مثمنين ما أفضت إليه من فتاوى وقرارات وبيانات خاصة ما صدر عن اللجنة الوزارية للفتوى بوزارة الشؤون الدينية.
وفي ملتقى وطني عقد حضوريا وبتقنية التحاضر عن بعد بادرت إلى تنظيمه كلية الشريعة والاقتصاد منتصف الأسبوع الماضي بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة حول أثر جائحة كورونا على المنظومة التشريعية الجزائرية والفقه الإسلامي، أوصى متدخلون من مختلف جامعات الوطن إلى فسح المجال لتعديلات قانونية تمس بما يستجيب لما أفرزته الجائحة من أثار وتداعيات وما كشفت عنه من نقائض؛ ومن ذلك تعديل قانون العمل بتقنين نمط العمل من البيت، وقانون العقوبات بما يفضي لمراجعة السياسة الجنائية للحد من الجرائم الناتجة عنها ومخالفة إجراءاتها، والقانون المدني والقانون التجاري بالتوازي مع تعميم الرقمنة ووسائل الدفع الإلكتروني، ونواصل سياسة التعليم عن بعد وتعزيزها بالإمكانات المادية واللوجيستية.
وفي السياق ذاته دعت إلى الاجتهاد الفقهي في إطار أصول الشريعة و قواعدها و مقاصدها للاستجابة لكل النوازل المستجدة، ودعم البرامج والمقررات الجامعية بموضوعات النوازل الفقهية تأصيلا وتخريجا وتنزيلا.   
اللجنة الوزارية للفتوى أصدرت 26 بيانا حول كورونا حدت من ظاهرة فوضى الإفتاء
تتجلّى أهمية الاجتهاد الجماعي القصوى عند الطوارئ والأزمات والظروف الاستثنائية التي تنزل بالأمة، كحالات الأوبئة الفتاكة التي تأتي على أرواح الناس و مهجِهِم، و أموالهم، و أعراضهم، ويقعون في الحرج والضيق الشديد، وهم وقتئذٍ أحوج ما يكونون لبيان حكم الله في تلك المستجدات غير المسبوقة.
وتعدّ جائحة كورونا أحد هذه الطوارئ التي أفرزت عدة تحديات خطيرة وإشكالات مستعصية؛ سواء كانت هذه الإشكالات دينية، أو طبية، أو اقتصادية، أو اجتماعية..                    
واستجابة لمسؤولية وجوب بيان الأحكام الشرعية عمِلت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف بالجزائر على بعث لجنة الفتوى وإعادة تشكيلها و تحيينها، لبحث التساؤلات الملحّة المستعجلة المتعلقة بهذه المعضلة.
وقد أصدرت اللجنة منذ ظهور الجائحة إلى هذه اللحظة 26 بيانا مؤصلا بالأدلة والقواعد التشريعية معتصرًا مختصرًا من بحوث قدّمت ومناقشات واستدراكات ونتائج استقرّ عليها أعضاء اللجنة.
أما أهداف عمل اللجنة فتتمثل في صناعة الفتوى العامة، ومرافقة الناس وتنظيم أحوالهم، والقضاء على ظاهرة فوضى الإفتاء، وتضييق فجوة الخلاف، وطمأنة جمهور المستفتين وإبعاد الشكوك والوساوس الناجمة عن تضارب الفتاوى، وإحياء روح الاجتهاد الجماعي ترسيخا لمبدأ الجماعية الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (يد الله مع الجماعة)، والذي هو أسلم من الزلل إذا ما قورن بالإفتاء الفردي؛ لأنه بتزاحم العقول يظهر الصواب.
كما قامت على ترسيخ مأسسة الفتوى بما يضفي على الفتوى طابع الرسمية، ويكسوها قوة اعتبارية وقانونية، كما أنها وسيلة للوصول إلى مصدر المعلومات الدقيقة اللازمة مما لا يمكن للفرد وحده الوصول إليها. وقد كانت تستعين بالخبراء من لجان طبية صحية ومختصين أكفاء، إيمانًا منها بأن أي تقصير في الجلوس إلى أهل الخبرة يؤثر على مُخرجات الفتوى، ولعل مخالفة البعض لمخرجات اللجنة ترجع إلى هذه النقطة المهمة. كما سعت لتعميم مُخرجاتها على الجهات الإدارية لتنفيذها، ونشرها عبر وسائل الإعلام وشرح مضامينها.
والمنهج العلمي الذي تبنته في صناعة الفتوى قائم على تصور النازلة وتشخيصها وجمعٍ للمعلومات حولها؛ بالاستعانة بالخبراء، ثم تكييفها بردها إلى أصلها العلمي، أو جملة أصول، أو اعتبارها مسألة لها حالة خاصة، وذلك بالبحث عن نظائرها في التراث الفقهي القديم عن طريق التخريج الفقهي أو بإعمال الأدوات التشريعية العامة من قواعد ونظريات فقهية وقواعد أصولية وكليات مقاصدية، وأخيرا تنزيلها وتطبيقها بمراعاة الظرف المكاني والزماني، والكشف عن ضرورات الناس بالمسالك المعتبرة؛ والموازنة بين المصالح والمفاسد في الحال والمآل، ومراعاة الأولويات، وتقدير حالات الاضطرار وعموم البلوى، واستشراف توقعات المستقبل.
ونظرا لحرص اللجنة الوزارية على الأسس التنظيمية المعاصرة التي تتبناها مؤسسات الإفتاء العالمية وانتهاجها لمعالم الاجتهاد الأصيل جعل قراراتها وفتاواها في مجملها لا تختلف عن مُخرجات بقية المجامع الفقهية الإسلامية الدولية وسائر الهيئات الإفتائية الرسمية التابعة لكل دولة. كما أسهمت في الحفاظ على أرواح الناس، وبها كانت الجزائر أقل خسائر بشرية.
ولكي ينجح بحث النوازل لا بد من توفر عنصرين مهمين: الاجتهاد الجماعي، والاستعانة بالخبراء. وهنا ندعو كليات الشريعة لتحفيز طلبتها لإنجاز بحوث حول فتاوى اللجنة الوزارية.
  لجان الإفتاء أظهرت قدرة على فهم الواقع و الاختلاف حولها ظاهرة صحية
لقد دلت حركة الاجتهاد والفتوى في مواجهة قضايا كورونا في الاجتهاد الفقهي على مرونة الإسلام واستيعابه لكل التغيرات الحياتية وعلى قدرته على مواكبة المستجدات والمتغيرات، وعلى صلاحية الأحكام الشرعية للتطبيق في كل الظروف والأحوال، وصالحا لكل الأسقف المعرفية، ومتسقا مع الحقائق العلمية.
بالرجوع إلى البيانات الصادرة عن المجامع الفقهية ودور الإفتاء ولجان الفتوى المحلية وفتاوى الفقهاء وأساتذة الشريعة، يمكننا أن نتبين اتجاه الفتوى في هذه المرحلة، حيث إن الإفتاء نظر إلى وباء كورونا على أنه جائحة عامة، وأعطاها أحكام الجوائح من الأخذ بالرخص ودرء المفاسد والأخذ بالمصلحة العامة والأخذ بالإجراءات الصحية التي أصدرتها الجهات المختصة، وهذا تحليل للفتاوى المتعلقة بوباء كورونا
ومن موضوعات فتاوى كورونا: فتاوى تعطيل المساجد ومنع الجمع والجماعات، وصلاة الجمعة في البيوت، وذهبت الفتاوى الرسمية وغير الرسمية إلى الإفتاء بتعطيل صلاة الجمعة والجماعة وأداء صلاة الجمعة في البيوت ظهرا، تقديما لحفظ النفس ودرءا لمفسدة انتشار الوباء ولم يخالف في ذلك إلا القليل كما سيأتي ذكره.
وبعد فتح المساجد تناولت حكم التباعد بين الصفوف في صلاة الجماعة بعد السماح بفتح المساجد، وذهبت أغلب الفتاوى إلى الجواز في مثل هذه الظروف خاصة، وأن جمهور الفقهاء يرون أن تسوية الصفوف مستحبة وليست واجبة.
وذهبت كافة الفتاوى إلى وجوب الصيام على الأصحاء، ورخصت الإفطار لمرضى كورونا والطواقم الطبية في بعض الحالات، ودعت إلى ضرورة تعليق صلاة التراويح في المساجد وأدائها بالمنازل، كما أجازت تعجيل الزكاة وزكاة الفطر لمساعدة المحتاجين، لا سيما في ظل ما يعانيه الكثير من شرائح المجتمع بسبب إجراءات الحظر والعزل المنزلي.كما شملت الفتاوى جانب المعاملات: وكانت قليلة إذا ما قورنت بفتاوى العبادات مثل: حكم تخزين السلع ورفع الأسعار وقت كورونا، وحكم عقود الإجارة التي تأثرت بالوباء، وحكم القروض الربوية للشركات الاستثمارية المعرضة للإفلاس بسبب الجائحة، وحكم عقد النكاح عبر وسائل الاتصال المتعددة عند الحاجة، ومسؤولية المصاب بالفيروس على نقل العدوى لغيره.
ومن محاسن الفتوى في هذا الوباء الوعي بالقضايا الأخلاقية والاجتماعية والنفسية وبيان الأحكام المتعلقة بها، من هذه الفتاوى؛ حكم الخروج من البيت لغير حاجة في مناطق الحجر، وحكم الاستهزاء بالمرض والتنمر من المصابين بالوباء، وما يجب على المسلم فعله صحيًّا للتصدي لهذا الوباء، وحكم الإشاعة وقت الأزمة.
أما الفئات التي تعلقت بها فتاوى كورونا: فمنها ما هو مرتبط بمصابي كورونا، وجاءت هذه الفتاوى حول: حكم حامل الفيروس الذي يخالف إجراءات الحجر الصحي؟ ومَن يتعمد نقل الفيروس للآخرين؟ وكذلك حكم من علم بإصابته ثم أخفى ذلك على الجهات الصحية المختصة؟ وهل يجوز لمريض كورونا جمع الصلوات؟ وكيف يُغسّل ويكفّن من مات بالفيروس؟
ومن الفتاوى ما هو مرتبط بالأسلاك الطبية وأبرز هذه الفتاوى؛ حكم جمع وقصر الصلاة، والتيمم، وعدم استقبال القبلة، وحكم التزام الطبيب المسلم في علاج المصابين بالفيروس، وهل يُقدّم الطبيب المريض المسلم على غيره في الرعاية أو العلاج، وهل يمكن نزع آلة التنفس من عجوز لإعطائها لشاب مصاب بالفيروس؟ وحكم علاج مريضين بكورونا أحدهما صغير السن والآخر مُسن، أيهما يقدم على الآخر، وحكم رفض دفن الأطباء الذين أصيبوا بالفيروس جراء معالجة الآخرين.
وقد وقع الاتفاق في أغلب الفتاوى على اختلاف مصدرها، ووقع الاختلاف في مسائل إغلاق المساجد وتعطيل صلاة الجمعة والجماعة، وصلاة الجمعة في البيوت، والتباعد بين المصلين في صلاة الجماعة.لكن ما يجب التنبيه إليه أنه مع قول هؤلاء الفقهاء بهذا الرأي، فقد دعوا إلى الالتزام بالفتاوى الرسمية وبالإجراءات الاحترازية التي اتخذتها السلطات حفاظا على الوحدة ودرءا للفتنة،
والمتتبع لهذه الفتاوى على اختلاف مصدرها يخلص إلى أن الفتاوى الرسمية الصادرة عن دور الإفتاء ولجان الفتوى المحلية كانت غالبة في مواجهة آثار كورونا، وأظهرت هذه اللجان سرعة في إخراج البيانات والفتاوى، وأظهرت قدرة معقولة في فهم الواقع والتعامل مع الظروف الطارئة، والاستجابة لمتطلبات المرحلة الخطرة، في غلق المساجد ودور العبادة (لغير المسلمين) وتعليق صلاة الجمعة والجماعة؛ وأرى أن وقوع الاختلاف في هذه الفتاوى ظاهرة صحية، فلا بد من فسح المجال له واستيعابه وعدم الضيق بالفتاوى المعارضة للفتاوى الرسمية؛ خاصة وأن هذه الفتاوى كانت في قضايا اجتهادية ولا تملك أي جهة غلق باب الاجتهاد.
العزل الصحي والحجر المنزلي إعمال للقاعدة الشرعية لا ضرر ولا ضرار
    إن العزل واجب يقوم المسلم به من تلقاء نفسه، وإلا تدخل ولي الأمر، حيث يمنع الدخول إلى هذه البلدة الموبوءة، يمنع من يريد الدخول من إلقاء نفسه في التهلكة، ويمنع من يريد الخروج منها لئلا يضر بالآخرين، وخوفا من انتشاره إذا سمح لهم بالخروج, وخوفا من إصابة الصحيح إذا دخل إليهم قبل زوال المرض حيث لا ضرر ولا ضرار في الإسلام .
وقاعدة لاضرر ولا ضرار من أركان الشريعة، وجوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم، تشهد لها نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، وهي أساس لمنع الفعل الضار، وترتب نتائجه في التعويض المالي والعقوبة، كما أنها سند لمبدأ الاستصلاح في جلب المنافع ودرء المفاسد، وهي عدة الفقهاء وعمدتهم وميزانهم في طريقة تقرير الأحكام الشرعية للحوادث،  
 وفروع هذه القاعدة مبثوثة في كتب جميع المذاهب وتشمل كافة أبواب الفقه وهي في فقه العقود  والمعاملات أكثر حضورا لأن من مقاصدها الاحتراز من كل ما فيه إلحاق ضرر بأحد الطرفين، ويدخل في ذلك الضرر الذي يلحق الغير عن طريق نقل العدوى زمن الجائحة إلى الغير والتي تلحق الأذى و قد تسبب الهلاك.
       فالضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلّها في وقائع جزئيات وقواعد كليات...ومنه التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم، وكل ما هو في المعنى إضرار أو ضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس أو العقل، أو النسل، فلا يحل لمسلم أن يضر أخاه المسلم بقول أو فعل أو سبب بغير حق، هذا وقد  بيّن الفقهاء شروط الضرر الواجب إزالته، كما نصوا على وجوب رفع الضرر قبل الوقوع عن طريق الوقاية الممكنة كفرض إجراءات الحجر المنزلي وإلزامية ارتداء الكمامة، وكذا وجوب رفعه بعد وقوعه باتخاذ التدابير اللازمة لإزالة آثاره ومنع تكراره مصداقا للحديث الشريف: (إذا سمعتم الطاعون في أرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها)، وحديث: (لا يوردن ممرّض على مصح)، فإذا انتشر مرض معد بين أهل مدينة عزل أهلها كلهم, فلا يسمح لأهلها بالخروج منها؛ ولا يسمح لغيرهم بالدخول إليها, حتى يزول الوباء عن المدينة.  
ع/خ

الرجوع إلى الأعلى