بعد سلسلة من المواجع والأحزان كابدها رسول الله صلى الله عليه وسلم و تجرع مرارتها على مر سنوات ثمان كانت آخر حلقاتها فقدان الزوجة الوفية خديجة رضي الله عنها التي واست النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل وسائل و مقومات المواساة و الدعم  و وفرت له جميع أسباب الراحة و التمكين للدعوة الإسلامية حتى كان يقول صلى الله عليه وسلم عنها ما أبدلني الله خيرا منها قط لقد آمنت بي لما كفر بي الناس وصدقتني لما كذبني الناس رزقت منها الولد وأغناني الله بمالها كما فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب الذي و رغم عدم إسلامه إلا أنه كان ملاذا آمنا وحصنا حصينا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللدعوة الإسلامية ، حوصر مع من حوصر من المسلمين في شعب أبي طالب  رغم كونه زعيم مكة حتى سمي ذلك العام عام الحزن ، كانت آخر حلقات تلك السلسلة من المحن رحلة الطائف التي كابد فيها المصطفى ألوانا من العذاب والاستهزاء إذ سلط عليه زعماؤها صبيانهم و سفهاءهم فضربوه حتى أدمت قدماه الشريفتان لقد اهتز عرش الرحمن لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل له ملك الجبال ليطبق عليهم الأخشبين ألا أن حلمه غلب غضبه وعفوه سبق انتقامه فقال لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحده.
وفي ليلة غراء وبينما هو نائم في صحن الكعبة إذ جاءه جبريل و معه البراق وهي دابة من دواب الجنة و نكزه في رجله حتى استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم و إذا بالبراق مربوط عند الكعبة المشرفة فأردفه خلفه ويمم به نحو بيت المقدس و قد جمع الله له الأنبياء و الرسل فصلى بهم و آتاه جبريل عليه السلام بثلاثة آنية إناء فيه الماء والآخر فيه اللبن و الثالث فيه خمرا فاختار صلى الله عليه وسلم اللبن فقيل له لقد اخترت الفطرة، ثم عرج به إلى السموات السبع فرأى فيها من آيات ربه الكبرى ما لا يتسع المقام لذكره
يمكننا أن نستخلص بعض العبر من هذه المنحة المعجزة:
(1)الإسراء و المعراج واحدة من المعجزات الخالدات التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانت رحلة بالروح و الجسد خرقت فيها جميع القوانين الأرضية و هذا ما جعل كفار قريش و بعض ضعاف النفوس من المسلمين يكفروا بها ويكذبوه.
الإسراء والمعراج.. المنحة بعد المحنة  
 (2) عادة ما تنطوي المحن والابتلاءات على منح وعطاءات فكم من مقدمات سوداء أنتجت نتائج بيضاء فهذا نبي الله إبراهيم وبعد محن عديدة وابتلاءات شديدة يخرج من أرضه إلى مصر ليعطى امرأة يكون منها النسل والولد، حيث تزوج سيدنا إبراهيم بأمنا هاجر عليها السلام وأنجب منها إسماعيل وبعد الخروج من العراق و اكتمال الامتحان و الابتلاء جعل الله منه إماما للبشرية{وإذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين }َ.
وهذا نبي الله يوسف بعد محنة جعله في البئر، وبيعه وهو الحر النبي ابن النبي عبدا رقيقا في سوق النخاسة بمصر واتهامه في عرضه و ايداعه السجن و البريء العفيف، يجعل الله رؤيا الملك الهكسوسي بداية الفرج ومقدمة التمكين ليوسف في الأرض ليصبح عزيز مصر أي كبير وزرائها
وكذا محنة موسى عليه السلام الذي كان ينتظره القتل ففر هاربا إلى مدين ليجد نفسه راعي غنم وكانت تلك مقدمات لإرساله إلى فرعون و هامان و بعد سلسلة معاناة مع قوم لجوا في عنادهم و كفرهم و قوم حولت العبودية نفوسهم إلى كتل علل و أمراض و خنوع و ذل و هوان ثم تيه في صحراء سناء انتهى كل ذلك بتمكين قومه من دخول الأرض المقدسة و بناء مجتمع مسلم على يد يوشع بن نون عليه السلام
و هكذا كانت الإسراء و المعراج   بعد عديد محن كابدها رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءت هذه المنحة لتثبيت رسول الله ومكافأته نتيجة صبره وجلده
(3) اجتماع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنبياء و الرسل و في بيت المقدس تحديدا أرض النبوات و مهد الرسالات إشعار من الله تعالى بختم النبوات و الرسالات بنبوة و رسالة محمد صلى الله عليه و سلم، و إمامته للأنبياء إشعار بكون الصدارة و الريادة في أمته إلى قيام الساعة و لكن هذه الريادة و الصدارة لا تكون من فراغ بل مرتبطة ارتباطا بوثيقة بالسنن الكونية و شروط النهضة و عوامل الاستحلاف، فلا يمكن لأمتنا أن تنال هذه الريادة بين الأمم وهي بعيدة كل البعد عن أسباب التمكين و النهوض و الشهود الحضاري فالغائب لا يصلح أن يكون شاهدا و الأمة الإسلامية غابت أكثر من قرنين من الزمن عن صناعة الفعل الحضاري؛ {وكذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
 (5) إن اختيار بيت المقدس موضع لاجتماع الأنبياء و الصلاة بهم لدليل على انتقال قيادة البشرية من الفرع الإسحاقي من ذرية إبراهيم عليه السلام إلى الفرع الإسماعيلي ـ ذرية سيدنا إسماعيل عليه السلام ـ و ذلك بسبب انحراف  اليهود عن الفطرة و تبديلهم لدين الله تعالى و تحريفهم للكتب السماوية و قتلهم الأنبياء و الرسل و رافق ذلك الانحراف العقدي انحرافات سلوكية كثيرة تعاطيهم الربا والرشوة، و استحلالهم للحرام و غير ذلك من صور الفساد الذي إذا ابتليت به أمة من الأمم وتمكن من سويداء مجتمعاتها واستفحل وانتشر انتشار النار في الهشيم إلا وأذن عمرانها بالخراب و نجمها بالأفول وشمسها بالغروب، وهذا ما حل ببني إسرائيل فأنى لأمة هذا هو شأنها أن تقود البشرية و قد فسدت أصل فطرتها، و أما العرب فرغم كونهم أهل جاهلية لكن كانت فطرتهم أقرب للصواب و على أهبة الاستعداد لتلقى الأمر الإلهي و الانطلاق نحو الشهود الحضاري. و ثمة أمر آخر تنطوي عليه هذه الحادثة أن بيت المقدس و هو أولى القبلتين و ثاني الحرمين أمانة الله في أيد عباده الموحدين الصالحين هم الأحق بعمارته و الوقوف على شؤونه و تدبير أموره و لا يكون ذلك لشذاذ آفاق قتلة الأنبياء و الرسل أدعياء الاصطفاء الرباني و هم كاذبون.
و لقد خلّد القرآن الكريم هذه الرحلة المعجزة بقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.

الصاحب بالجنب


من أعاجيب الوصايا القرآنية وجوب الإحسان إلى الصديق، وذلك بقوله تعالى: «و الصَّاحِبِ بالجَنْب» إذ من الطبيعي أن يوصي القرآن الكريم بالإحسان إلى الوالدين، و ذوي القربى، و اليتامى، و ما إلى ذلك .
لكن أن يوصي بالإحسان إلى أناس أحببناهم في سيرة حياتنا، مروا علينا مثل الطيف على مَرِّ هذه الحياة الطويلة! .. هذا هو العجب، الذي يجعل الإنسان ينبهر لعظمة القرآن الكريم و عظمة مُنزِلِهِ سبحانه وتعالى.
فقد أوصى القرآن الكريم بالإحسان إلى الصاحب بالجنب في قوله تعالى من سورة النساء: ‘’وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً و بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ بِذِي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَ الْجَارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً « [النساء36]
والصاحب بالجنب هو :زميل الدراسة ورفيق العمل و المصاحب بالسفر و من جالسك في مسجد أو مؤتمر أو غيره و كل من وقف بجانبك في موقف مهم لك في الحياة ..
كل هؤلاء أوجب القرآن الكريم الإحسان لهم بعد أن جمعهم بصفة واحدة هي «الصاحب بالجنب» فياله من كتاب عظيم، يوجب على الإنسان الوفاء لكل من أحسن لنا، مهما صغرت الفترة الزمنية التي التقيناه فيها ..فسبحان الله العظيم.

الدنيا دار منافسة بين الرجال والنساء


يسوق البعض العلاقة بين الرجل و المرأة و كأنها علاقة متوترة يسودها الصراع و الخلاف؛ و كأن بين الجنسين عداوة أو خصومة أبدية؛ مخالفين بذلك نداء الفطرة و مقتضيات الطبيعة التي جعلت من كل واحد منهما قطعة مكملة للآخر، لا غنى عنها في أي حال، أو زمان أو مكان، يؤدي دورها وفق ما أعطي له من قدرات و مواهب و استعدادات فطربة و بدنية و نفسية و فكرية، و قد جاء الإسلام ليؤكد على نداء الفطرة و يعيد العلاقة لطبيعتها السليمة في ظل التكامل والمودة والوئام.
 فخاطب الله تبارك و تعالى في كتابه العزيز خاطب المرأة بما خاطب به الرجل، و جعل الدنيا دار منافسة في الخير و العمل الصالح بين الرجال و النساء، فالعمل الصالح ليس حكرا على الرجال دون النساء، و الحياة الدنيا كلها ساحة للعمل لكل منهما، و العمل النافع هو معيار التفاضل بينهما
و علوّ الدرجة في الآخرة بمقدار الأثر الطيب الذي تركه كل منهما في الدنيا.
قال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ) آل عمران:195 وقال: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) النساء:124 و قال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً و َلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) النحل:97 و قال: (وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) غافر:40
ففي ضوء هذه الآيات و أنوارها ينبغي أن تصاغ العلاقة بين الرجل و المرأة في الحياة الإسلامية؛ بل في الحياة الإنسانية برمتها، حتى يتفرغ كل واحد لأدواره بمحبة و رضا واطمئنان.

الرجوع إلى الأعلى