باحثون يدعون لأحياء فن العمارة الإسلامي والتقيد بفقه العمران
أوصى المشاركون في الملتقى الدولي حول المدينة والتطور العمراني في ضوء فقه العمران والاجتماع البشري بضرورة إحياء نمط الفن المعماري الإسلامي الذي يضفي على الحياة المدنية مسحة جمالية ويكفل حفظ مصالح الناس وخصوصياتهم الأسرية والاجتماعية من خلال الالتزام بضوابط البناء والتعمير التي وضعها الفقهاء المسلمون وشيّدت في ضوئها أشهر المدن الإسلامية العتيقة التي ما تزال تشكل أنموذجا راقيا في فن البناء و التعمير، مع الانفتاح على الخبرات البشرية الحديثة وتجارب الأمم في بناء المدن والمساكن بما لا يصادم خصوصيات الأمة وضوابط البناء الفقهية، وتوحيد النمط العمراني للمساجد والمدن مرافقها مع احتفاظ كل منطقة بخصوصياتها.
ففي ملتقى دولي بادر إلى تنظيمه قسم الفقه وأصوله بكلية الشريعة والاقتصاد بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة عقد نهاية الأسبوع بمشاركة أزيد من 50 باحثا من 16 جامعة جزائرية وعربية في مختلف الاختصاصات الشرعية والإنسانية والتاريخية والهندسية والاجتماعية أكد المشاركون في اختتام الأشغال على ضرورة إعادة الاعتبار للمدن الإسلامية العتيقة المتوارثة؛ بترمميها وإعادة تأهيلها وفق مخططها العمراني السابق، وتسويقها منتوجا تاريخيا وسياحيا وعلميا وفنيا، ويمكن هنا إحداث تعاون عربي وإسلامي بيني لتبادل خبرات الترميم والتأهيل والتسويق.
 ودعوا لحصر كل الآثار الإسلامية في الرقعة العربية والإسلامية والغربية ورصدها في بنك معلومات للتعريف بها ووضعها تحت تصرف الإعلاميين والباحثين والطلبة والسواح، مع تعزيز التشريعات القانونية لحماية الأثار.
كما دعا المشاركون الذين قدموا نماذج من المدن التاريخية في بلاد الجزائر وغيرها على غرار الجزائر في عهد الأتراك وتلمسان والقيروان ومستغانم بغداد وغيرها من المدن بالمغرب والمشرق الإسلاميين إلى إحياء فن العمارة الإسلامي وجمع التراث الفقهي المتعلق به وتدريسه على مستوى الجامعات، وإخضاع مخططات تشييد المدن مستقبلا له من خلال إنشاء هيئات فقهية استشارية في قطاع السكن والمدينة وقطاع السياحة والآثار، وألحوا على ضرورة إضفاء جماليات أكثر على المحيط العمراني ونظافة بيئته لتكون مدن المسلمين عاكسة فعلا لآداب وأحكام الإسلام ومرغبة فيه
ودعوا السطات في عالمنا العربي والإسلامي إلى جمع تشريعات العمران في مدونة واحدة ليسهل التعامل معها وإثرائها في ضوء  فقه العمران الإسلامي.                 ع/خ

مخططات المدينة الإسلامية  لها بعد بيئي
لقد شيّد المسلمون عددا من المدن بتشكيلات معمارية متفردة، كنموذج عمراني متكامل يعبر بصدق عن شخصية وهوية المجتمع الإسلامي وغايات ومقاصد عقيدته وشريعته وأخلاقه التي كانت وراء التجربة المادية والإبداعية الفريدة.
فالمرجعية العمرانية الإسلامية لا تنظر إلى المدينة على أنها تشكيل حضري (مادي) وحسب، بل تعدّها تشكيلاً روحياً كاستجابة حتمية لتلبية حاجة الإنسان للأمان والمأوى، وتحقيق الاستخلاف ثم العبادة، ومن هنا فالتشكيل الحضري في الإسلام كفلسفة مكانية- زمانية يستمد صيرورته من جوهر مبادئ الدين الإسلامي.
فالإسلام لم يأت بتعاليم وأنماط معمارية، وإنما أتى بتشريع ومنهاج تكونت وتأسست عليهما المدينة الإسلامية، فجاءت الأحكام الفقهية بحق الرفق، والشفقة، وإماطة الأذى عن الطريق، وحق الجار، ولا ضرر ولا ضرار، وإحياء الأرض الميتة وما شابهها من أحكام، وهي القواعد التي ساعدت على إثراء الحضارات بكثير من الفنون والإبداعات العمرانية  ومن بين هذه المعايير التي استحدثها الإسلام في التخطيط العمراني، البعد البيئي. فأهمية البيئية تبدأ من اعتناء الفقهاء بالحفاظ عليها انطلاقا من النصوص القرآنية والسنية الواردة ومن خلال الاجتهاد في استنباط أحكام تؤطر مجال العمران في ضوء الشروط البيئية السليمة، فبنوا مدنهم على قاعدة دفع الضرر، واعتبروا البيئة الحصن الواقي لاستمرار الحياة البشرية فيها.
فالمدن الإسلامية تمثلت بها العديد من الشروط البيئية، من حيث: اختيار المواقع الصحية، ونظام التخطيط العمراني، والعناصر المعمارية لمبانيها.. والتي كان لها الأثر الواضح على تخطيط العمراني والتصميم المعماري. فمثلا كان يشترط أن تكون المدن في أماكن مرتفعة وعلى نهر جار عذب لمدّ المدينة بالمياه اللازمة فضلا عن الحركة التجارية؛ مما يساعد على نموها وازدهارها، كما كانت ذات أسوار محصنة وبوابات، لمجابهة المناخ والظروف البيئية.
فضوابط مراعاة شروط البيئة في التخطيط للمدن الإسلامية كانت على ثلاثة مستويات؛ الأول: اختيار مواضع بناء المدن، والثاني: التخطيط العمراني لمواضع المدن وهو يمثل المرحلة الأساسية للتكيف مع البيئة. والثالث: التصميم البيئي للعمارة: فجاء أسلوب تصميمها متناغماً مع  تلك المعطيات المناخية ومستفيدة منها، ومن مظاهر ذلك أنهم قللوا من بناء الأسطح الظاهرة من المباني بمراصفة البناءات في مجموعات وكتل للتقليل من معدل الانتقال الحراري.، وبنوا حيطان سميكة من الطين والطوب مع تقليل عدد الفتحات، للحد من تبادل الطاقة مع الهواء الخارجي وتسرب الغبار، وعملوا صهاريج عميقة في الأرض لحفظ المياه، وبنوا أفنية عميقة تحيط بها الغرف ويتم تشجيرها، للاحتفاظ بهواء الصباح البارد، والتقليل من تأثير الرياح المحملة بالأتربة، وبنوا الأسوار العالية التي توفر قدراً من الظلال المرغوب بها، واستعملوا السراديب، التي ما أحوج العمارة إليها اليوم لتعدد وظائفها، واستعملوا السقوف المقببة من أجل الزيادة من معامل الانتقال الحراري، ومسطحة بما يحتم شفطاً للهواء الساخن في أعلى القبة.
وثالثا: تصميم المسكن الإسلامي وتنويع عناصره المعمارية ومنها: الفناء الداخلي كوسط مسطح المبنى يستخدم للإضاءة والتهوية، وملقف الهواء: وهو عبارة عن فتحات بالأسقف تمثل مداخل للهواء إلى داخل الغرف ليخرج من الفناء الداخلي لإتمام حركة الهواء، والمشربيات:كمعالجة معمارية تسمح بدخول الرياح الملطفة، ومرور الضوء والمحافظة على الحرمة.
لذلك فإن صناعة تراث المستقبل تبدأ بالعودة إلى إحياء روح عمراننا ومعمارنا الأصيل، وتجديده بطابع عصرنا ومتطلبات مجتمعاتنا الآنية.

فقه العمران يضع مجموعة ضوابط للبناء
لقد وضع الفقهاء المسلمون مجموعة من الضوابط في تشييد المسكن من شأنها أن تسهم في حفظ مصالح الإنسان في حفظ دينه ونفسه وعرضه وماله؛ وتحقق الأمن في المجتمع؛ ومنها:
ألا ينجر عن البناء ضرر لساكنه أو غيره حالا أو مآلا: فقد منع الإنسان من السكن في مسكن لا يحقق له السكن، فالمسكن الذي لا يؤسس على قواعد صلبة سيؤدي بحياة ساكنيه في أي لحظة، بل قد يتعدى ضرره إلى الجيران والمارة في الطريق وغيرهم، وأن يحافظ من خلال مخططه وتصميمه وبنائه على خصوصية البيت المسلم؛ لأن للبيوت خصوصية وحرمة راعاها الشرع وقصد إلى تحقيقها، فالمسكن هو أكثر مكان يتصرف فيه الإنسان بعفويته ومطلق راحته، وأن يكون واسعا موفرا لساكنيه السكينة والطمأنينة وأن لا يشابه شعارات أهل الكفر لاسيما الشكل الخارجي له لا بد وأن يتوافق مع النمط العام للعمارة الإسلامية، وليس هذا تقييدا لحريات الأفراد ولا حجرا على المهندسين وتعطيلا لإبداعهم، ولكنه من باب الحفاظ على هوية الأمة الإسلامية وتميزها، وأن لا يكون البناء في ملك عام أو أرض مغصوبة أو موقوفة.

للمالكية قصب السبق في تأسيس فقه العمران
يعتبر العمران الوجه المادي والمرآة العاكسة لأي حضارة، وهو يمثل تجسيدا للمنظومة الثقافية والحضارية التي أنتجته، كما يعتبر التراث العلمي والثقافي الإسلامي بدوره مفتاحا لفهم طبيعة هذا العمران وخصائصه وضوابطه، إذ هو الذي أسس له ونظّمه على مرّ الزمن، ومن ذلك التراث الفقهي الذي كان له الأثر الكبير في التنظير لفقه العمران وضبط أحكامه وفق تعاليم الإسلام، وتعتبر المصادر الفقهية الإسلامية من الروافد الأساسية في فهم تطور العمارة الإسلامية ولاسيما تلك المصادر التي تعالج بصورة مباشرة أحكام البنيان وما يتعلق به من مسائل ومشكلات تصدى لها الفقهاء المسلمين بالحل والتبيان، مما يؤكد على أن الفقه الإسلامي فقه حضري، والفقه المالكي من بين هذا التراث الفقهي هو أول المذاهب التي كان لها قصب السبق في التأسيس لفقه العمران و التنظير له بما ألفه علماؤه من مدونات ومصادر مستقلة في أحكام المرفق والبنيان أو ما حوته مصنفاتهم  في الفقه العام والنوازل من مسائل الارتفاق وأحكام الجدار أو الحيطان، وكتبهم في الحسبة التي كان لها الدور الفعال في التنظيم العمراني للمدينة من خلال الخطط والأسواق والمرافق وقد بين المالكية في هذه المصنفات كل ما يتعلق بعلم عقود الأبنية أو فقه العمران من تفاصيل، ومسائل مختلفة كأحكام المرفق ونفي الضرر الحاصل فيه، وأحكام الحيطان والجدران المشتركة وقسمتها، وأحكام الدور وما اتصل بها من مسائل السلالم والأسقف والرفوف أو العساكر المطلة على الطريق والمارة أو الجيران، وكنس الدور المشتركة وغلق أبوابها، والقضاء في مباني المساجد وصوامعها، والأفران وحوانيت الحدادين والدباغين والحمامات، وقطع ما أضر منها، والقضاء في الأفنية والطرق والتوسع فيها وتحديد أنواعها ومقادير سعتها، وما يجوز من ذلك وما لا يجوز، وتنظيم السوق وضبط أحكامها، وغيرها من الأحكام التي مثلت منظومة قانونية رائدة أطرت لهذا العلم وأعطت للأمم الأخرى سواء في زمانها أو العصور التي تليها إلى يومنا هذا، مثلا للإبداع وتحكيم الشرع ومقاصده، وتجسيد أخلاق الإسلام وبيان قمّة تحضره وتمدّنه، في تخطيطهم لفن العمارة الإسلامية، وضبطهم لأحكامها، ومكنت من تحديد الأسس التي كانت تحكم تخطيطهم المادي للمدينة الإسلامية، بحيث جاءت أنماط البناء وما يحقق الارتفاق والتنظيم انعكاسا للعقيدة الإسلامية، وأحكام الستر، والحلال والحرام، وتحقيق سبل التعاون والتآلف، وتمتين أواصر صلة الرحم والأقارب، وحماية حقوق الطرقات والجوار، وعدم إلحاق أي ضرر بالجيران سواء في نظام البناء أو ما يرافقه من الارتفاق. وقد حظي فقه العمران باهتمام المالكية في وقت مبكر منذ زمن الإمام مالك وتلاميذه من بعده، ثم من جاء بعدهم من متقدمي المالكية ومتأخريهم في العصور اللاحقة. ومن فحول المالكيين الذين تألقوا في هذا المجال بإسهامهم المبدع في التنظير والتقنين لفقه العمران، نجد الإمام عيسى بن موسى التُّطيلي وكتابه «الجدار»

هذه شروط الفقهاء في تشييد المدن
إذ النسيج العمراني و تطوره انطلق من محاور أساسية في التّخطيط بلورها الفكر العمراني الإسلامي في التّخطيط المادي للمدينة، كما سارع الكثير من الفقهاء المسلمين إلى وضع مجموعة من الشروط التي ينبغي توفرها و حصرها ابن أبي الربيع في ثمانية شروط قُدّمت على شكل نصائح للحاكم يعتمدها كقوانين في بناء المدن وهذه الشروط هي: (1) أن يسوق إليها الماء العذب ليشرب، حتّى يسهل تناوله من غير عسف، (2) أن يقدر طرقها وشوارعها حتى تتناسب و لا تضيق، (3)أن يبني فيها جامعا للصلاة في وسطها، ليقرب على جميع أهلها، (4)أن يقدر أسواقها بحسب كفايتها، لينال سكانها حوائجهم من قرب، (5)أن يميز قبائل سكانها، بأن لا يجمع أضدادًا مختلفة متباينة، (6)إن أراد سكناها، أن يسكن أفسح أطرافها، و أن يجهل خواصه كنفا له من سائر جهاتها، (7)أن يحوطها بسور خوف اغتيال الأعداء، لأنها بِجُمْلَتِهَا دارا واحدة، (7) أن ينقل إليها من أهل العلم والصنائع قدر الحاجة لسكانها حتى يكتفوا بهم ويستغنوا عن الخروج إلى غيرها. ويؤكد عثمان عبد الستار أنّ المنهجية المنطقية في ترتيب هذه الشروط، فيحدد الهيكل العام والأساسي للمدينة الإسلامية، إضافة إلى النظرة العضوية لكيان المدينة وذلك بالاهتمام بالجوانب الطّبيعية والاقتصادية والعمرانية وقد أثبتت الدراسات العمرانية أنّ مدن المغرب الإسلامي توخّت في تأسيسها تلك الشروط والمحاور التي حَكَمَتْ تخطيط المدينة وهي المسجد ودار الإمارة والخطة، وهو ما يعكس الرؤية الإسلامية المميزة في تخطيط المدن.
أ.دلال لواتي/ جامعة الجزائر2

الرجوع إلى الأعلى