لقد شهد وطننا هذه الأيام هبات في ولايات عدة من قبل الأفراد والجمعيات لشراء أجهزة التنفس ومولدات الأوكسجين بسبب كثرة الوفيات للمصابين بكورونا في المستشفيات بسبب نقص ونفاد الأوكسجين.

وهذه الهبات تعبر عن العمق الاجتماعي والتضامني للجزائريين؛ إلا أن البعض أحيانا يعلق بتعليقات غريبة عن سياق هذه الحملات فمنها وقد يكون لبعضها وجهة نظر محترمة؛ لكن ليس هذا حينها ولا وقتها فيما يظهر لي :
(أولا): الادعاء بأن هؤلاء الأفراد والجمعيات يريدون الظهور وتسليط الأضواء الإعلامية وكان الأولى بهم التستر بذلك؛ هذا صحيح إذا كان على سبيل المن والأذى، وأما إذا كان على سبيل إظهار الصدقات والتبرعات ليقتدي به الناس ويحذوا حذوه فهذا لا بأس به؛ بل قد يؤجر عليه صاحبه ويكون له أجره وأجر من عمل بمثل عمله .وإن شاء الله يدخلون في قوله تعالى: ((أن تبدوا الصدقات فنعما هي وأن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ))، وفيما روي من قوله صلى الله عليه وسلم .: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة..)
وعليه فإظهار التبرعات سواء من الأفراد أو الجمعيات أو المؤسسات بالمال والأجهزة الطبية وغيرها خاصة هذه الأيام التي يشتد فيها الوباء يكون سببا في حث همم الأغنياء على البذل والعطاء والتنافس في الخير والتسابق في خدمة المجتمع. وأما النيات والسرائر فأمرها إلى الله هو أعلم بها.
(ثانيا:) التشكيك في هذه الأموال ومصادرها والادعاء بأن أصحابها لم يكتسبوها بطريق مشروع، فنلفت الانتباه إلى عدم الخوض في أصول هذه الأموال وهل هي أموال حلال أم حرام فليس هذه وظيفتنا، وعلى فرض أن بعض هذه الأموال فيه حرام أو شبهة؛ فقد اتفق العلماء على أن المال الحرام يخلص منه في المصالح العامة وهذه الأمور من أولى المصالح العامة.
(ثالثا): بعض الناس يثبطون المنفقين والمحسنين لجمع التبرعات لشراء أجهزة التنفس ومولدات الأوكسجين بحجة أن هذا واجب الدولة ومن المفترض أن تقوم به وحدها دون اللجوء إلى جمع التبرعات والهبات من الأفراد والجمعيات؛ فنقول نعم هذا واجب الدولة بلا شك. ولكن الكل يعلم ظروف المستشفيات وظروف تسارع الوباء. و هذا لا ينفي وجود تقصير بقصد أو بغير قصد، مما يجب أن يحاسب المتسبب فيه أيا كان مركزه.ولكن ظروف المرضى الآن لا تسمح بالتراخي وليس الوقت وقت اللوم والعتاب بل هو وقت البذل والتضحية .ولكل أجل كتاب.فإما أن نبادر جميعا إلى إنقاذ المرضى وإغاثتهم وأما أن نبكيهم ولا ينفع حينها البكاء . ((ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)).

هــــذه أخـــــــلاق المسلـــــــم في الأزمــــــــــــــات
ديننا دين شامل كامل، والمسلم متعبد لله في كل وقت، متخلق بأخلاق دينه، ممتثل لأوامر ربه في كل الأحوال، في الرخاء والشدة، وفي الأزمة والسعة، وفي الأزمات تظهر معادن الناس وتكشف أخلاقهم، فالناس معادن هكذا تركها من لا ينطق عن الهوى كلمة باقية وحكمة بالغة، وحكما عادلا؛ فقد أخرج البخاري ومسلم قوله صلى الله عليه وسلم: « ما يصيب المسلم من وصب ولانصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»
 وهذه الأزمة بينت وأظهرت عن القيم الأخلاقية الراقية لهذا الشعب؛ أظهرت لنا الخلق الحقيقي للمسلم في الأزمات والملمات، وكما وصف ابن خلدون بدقة بقوله: « الناس في السكينة سواء، فإذا جاءت المحن تباينوا» وما الأزمة إلا امتحانا قاسيا لأخلاق الإنسان وقيم المجتمع.
ومن الأخلاق التي يظهر بها في الأزمات: خلق التضامن والتكافل الاجتماعي والجود والإنفاق والتعاون على البر والتقوى، وهذا ما رأيناه عيانا وواقعا خلال هذه الجائحة، الذي يعكس مدى وعي هذا الشعب في التعاطي مع كورونا وإيجابيته وثباته وتعاونه وتكاثفه، وولائه وانتمائه، وهذا هو الأنموذج الأخلاقي الذي نريده من استنهاض لروح المبادرة وتأصيل لفقه التكامل والتعاون وحس المسؤولية.
رأينا قيم الأمانة والإخلاص وحب الخير والتطوع والالتزام والإيثار في التفوق على النكبات،
رأينا الأمة التي مازال الخير فيها، ومازال فيها من يسير على آثار عثمان بن عفان، وعبد الرحمان بن عوف، والصديق، رأينا شبابا وجمعيات ومؤسسات ورجال أعمال، باعوا وقتهم وجهدهم وصحتهم لله...فربح بيعكم يا شباب.
رأينا أطفالا صغارا قدموا حصالاتهم طيبة بها أنفسهم باعوا ما جمعوا لله....فربح بيعكم يا كبار
رأينا نساء لم يجدن ما يقدمن فعمدن إلا ما في أعناقهن ووضعن قلائدهن وأقراطهن وخواتمهن من الذهب، فباعوا لله...فربح بيعكن يا نساء.
رأينا أطباء وممرضين، وطواقم طبية وإدارية منهكة جسديا ولكنها أبت إلا أن تقدم كل ما تملك من جهد وعمل وسهر لله، باعت لله والله اشترى ...فربح بيعكم يا جيشنا الأبيض، هذه هي التجارة مع الله تجارة رابحة لا تبور.
هؤلاء الذين صنعوا من الأزمة منهجا يسيرون به في الناس، وسيرة طيبة تؤسس لمرحلة التحول القادمة في الخلاص من الوباء.
هذه القيم الأخلاقية التي كانت ومازالت وستظل في نفوس شعب جبل على إغاثة اللهفان وإكرام الضيف ونجدة المكروب وحماية الجار، والإيثار والتضحية في سبيل الغير، تلك النفوس التي قال فيها يوما الشاعر المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
هذا الذي لابد أن يكون عليه الفرد المسلم في مثل هكذا أزمات، وهذه هي أخلاقنا وقيمنا وتعاليم ديننا؛ فكلها تنبض وتشع بالأخلاق الفاضلة.

دعوة إلى رقمنة الفتوى والاجتهاد الجماعي
اختتم المؤتمر العالمي السادس للأمانةِ العامَّةِ لِدُورِ وهيئاتِ الإفتاءِ في العالمِ فعالياته تحتَ عُنوانِ: «مؤسسات الفتوى في العصر الرقمي. تحديات التطوير وآليات التعاون» المنعقد بالقاهرة يومي 2 و3 أوت فعالياته بمجموعةٍ توصياتِ؛ وحسب ما نشرته صحيفة المصري اليوم وغيرها فقد تضمنت التوصيات التأكيد على تدعيم إصدار وثيقة التعاون والتكامل الإفتائي، وإطلاق مركز سلام لدراسات التطرف وإطلاق التَّطْبِيقِ الإِلِكْتُرُونِـيِّ العَالَـمِيِّ لِلْفَتَاوَى FatwaPro.
والإشادة بالجهود المبذولة من قِبَل الدول والمؤسسات للتعاون والتكامل في مجال الإفتاء، وبكافة الجهود التي بُذِلَت على مستوى العالم الإسلامي لتطبيق الاجتهاد الجماعي. ودعا المؤتمر دور الإفتاء وهيئاته ومؤسساته إلى العناية بلجان الإفتاء الجماعي وإشراك المتخصصين في سائر العلوم كلٍّ في النازلة التي تتعلق بتخصصه، وتبادل الخبرات في مجال الفتوى والإفتاء. مؤكدًا على أهمية استخدام التقنية الرقمية في مؤسسات الفتوى لما يترتب عليه من تقليل الوقت وتقليل مساحات التخزين.
ودعا المؤتمر سائر المستفتين إلى الاستفادة بمنصات الإفتاء الإلكترونية في ظل هذه الجائحة.
ودعا المؤتمر «منظمة الأمم المتحدة» إلى اعتبار الخامس عشر من أكتوبر يومًا عالميًّا للإفتاء، كما دعت كافة الدول إلى وضع آليات لإدارة عالم ما بعد كورونا؛ وذلك بالاستفادة من التطور الرقمي، واستشراف المشكلات التي تهدد الإنسانية.

الضرورة تجيز صرف أموال الزكاة لاقتناء أجهزة التنفس والأوكسجين
تتبعت السجال الفقهي والجدل العلمي بين بعض السادة المشايخ والفقهاء في بلادنا حول نازلة جواز دفع الزكاة لاقتناء الأوكسجين وإنقاذ الأنفس البشرية جراء حصائد الجائحة التي حصدت نفوسا كثيرة وأرواحا عديدة وفرقت الأحبة، ويتمت الأطفال ورملت النساء وثكلت الأمهات وأدخلت الحزن إلى كل بيت، نتيجة انعدام أو نقص الأوكسجين؛ فاستغاث الأطباء والممرضون بل وبعض المسؤولين وهبّ الخيرون في مشارق الوطن ومغاربه وشماله وجنوبه يستغيثون لتوفير هذه المادة للأمة وإنقاذ الأنفس وإحياء الأرواح.
 واستجاب الناس جزاهم الله خيرا وهبت الأمة الخيرة؛ فمنها من تبرع وتصدق، ومنهم من قال لا أملك سوى زكاة مالي ولا أقدر على غير ذلك؛ فسأل الناس والجمعيات والمنظمات أهل الفقه والعلم حول جواز دفع الزكاة لشراء أجهزة التنفس والأوكسجين؛ ولقد تعددت وجهات النظر بين من يجيز وبين من يمنع، وإنه لأمر طبيعي أن تعدد الاجتهادات وتختلف الوجهات وكلا وعد الله الحسنى ولكل مجتهد نصيب من الأجر؛ ولكن الذي آلمني ذلك التلاسن بين أهل العلم، والعلم رحم بين أهله يعمل الناس فيما اتفقوا فيه ويعذر بعضهم البعض فيما اختلفوا فيه؛ ومن ثم أردت أن أعالج هذه المسألة أيها الأحبة من زاويتين
(الأولى): يجب أن نتقى الله في أنفسنا وفي إخواننا وطلابنا وعامة الناس الذين يقتدون بنا وألاّ نفتنهم بخلافنا في مسائل يسعنا الخلاف فيها ويسعنا ما وسع سلف هذه الأمة؛
لله دركم لا تجعلونا عرضة للسخرية والاستهزاء من قبل أعداء الأمة وأعداء الدين؛ ففي الوقت الذي تجتمع فيه كلمة أهل الباطل، نجد أهل الفضل والسبق والعلم والذين يفترض فيهم أنهم سفينة النجاة يتلاسنون ويحطون من أقدار بعضهم البعض؛ فمن كان يريد التصدق سيوقف صدقته ومن كان يريد الزكاة سيمسك، فالله الله في إخوانكم ودعوة ربكم وحاجة فقيركم وما يحتاجه المرضى والزمني، واعلموا أن ما توقف من خير بسبب تراشقكم الإعلامي من غير مبرر فسيكون لكم من الوزر بمقدار ما كان لمن فرط في المهج والأرواح والأنفس وهو قادر على إنقاذها .
(الثانية): يا أهل العلم أما علمتم ومنكم تعلمنا أن الفروع يتسع فيها الخلاف كما أن الفقه زمن الاستضعاف غير فقه زمن الاستخلاف والفقه زمن الدولة الحامية للدعوة غير الفقه زمن استنكاف الدولة عن الدعوة والعهد بها لعموم الأمة من أهل الخير والصلاح .
يا سادتي العلماء أخالكم قد أطلعكم على ما كتبه الإمام الجويني عن فتور الشريعة وعدم انتظام بيت المال وما يستتبع ذلك من أحكام، أجروا الأقوال والأحكام على الوقائع والواقع فستعلمون أن من رأى جواز دفع الزكاة عند الحاجة والضرورة من أجل إحياء الأرواح على نطاق واسع؛ بل بعد استنفاد جميع الطرق والوسائل ولم يبق لنا من وسيلة سوى ذاك تعين الأمر، واعتبرنا ذلك واقعة حال وحادثة عين لا يتوسع فيها ولا يطلق القول على عواهنه، ولا أخال القائلين بالجواز سوى من هذا الصنف وجزى الله خيرا الرافضين حرصا على بقاء مصارف الزكاة على أصله الشرعي؛ ولكن يا سادتي العلماء أليس مصرف في سبيل الله قد تعددت فيه الأقوال، ولو أخذنا بالرأي المرجوح في هذه المسألة إذا اقتضاها الحال ودعت إليها الضرورة، وأي ضرورة أكثـر من هذه التي نحن فيها لن يضيرنا ولا نكون مبتدعين، ألا  فكونوا رحماء بأنفسكم وما يدور بينكم من مساجلات علمية ومناقشات فقهية؛ لا تخرجوه عن إطار الذوق الرفيع والأدب الجم الذي يرفع من أقداركم عند غيركم ويسل سخائم أنفسكم ويذهب وحر صدوركم، فالأمة تحتاج منا حلولا وأفعالا مجسدة على أرض الواقع لا خصومات وخلافات.

وفاة عميد طلبة الأمير
توفي أمس الأول بسبب الوباء الشّيخ حسين بوباصير ابن مدينة العنصر بولاية جيجل وابن جامعة الأمير خريج بماستر تفسير، والذي دخل الجامعة في سن متقدمة حتى عد عميدا من عمداء طلبتها، ورغم تقدمه في السنة إلا أن زملاءه يشهدون له، أنه كان شعلة نشاط في العبادة، ذا خلق رفيع عال، مقداما على مجالس العلم وأهله،محبّا للكتاب في تلك الليالي التي قضاها معهم بالإقامة الجامعية زواغي سليمان، وقد غصت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات الترحم عليه لاسيما وأن شقيقه الحسن توفي قبله بيوم واحد.

الرجوع إلى الأعلى