انبعاث قيّم إنسانية عالمية أساسها الرحمة
قررت أن أكتب عن مولد سيد الخلق وحبيب الحق لا من باب الزاوية الفقهية، فهذا جدل لا ينتهي والخلاف فيه لن يرفع؛ بل من باب أن ميلاده كان إيذانا بميلاد حضارة أشرقت أنوارها على المعمورة فصيرت ظلامها نورا وجهلها علما وكفرها توحيدا، حضارة وازنت بين الروح والجسد فأعطت كل شيء حقه ومستحقه دون تغليب جانب على جانب.

فمولده صلى الله عليه وسلم هو ميلاد القيّم الإنسانية السامية التي لا يستوعبها مقال ولا يحويها كتاب،كقيمة الفضيلة والعدل والرحمة والمحبة والعفو، قيم تحرر الإنسان من شهوات النفس وعبادة الذات وتمجيد الخرافة، وطغيان الأنا؛ وأهمها: قيمة الرحمة.
 فقد جاء رسول الله رحمة للعالمين لقوله تعالى:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}. فهو رحمة للبشرية من خلال خلقه وصفاته وشمائله وخصائصه، رحمة للعالمين من خلال التشريع والأحكام المبنية على اليسر ورفع الحرج رحمة للمسلم وغير المسلم رحمة بالإنسان والحيوان والجماد رحمته بادية للعيان في حالتي السلم والحرب صلوات ربي وسلامه عليه.
أما رحمته بالمؤمنين فتتجلى في حرصه الشديد على إزالة كل ضرر عنها وإيصال كل نفع حتى أنه قال: (ربي أمتي أمتي وبكى)، وهو ما جعل المولى تبارك وتعالى يرسل إليه جبريل عليه السلام قائلا: (سنرضيك في أمتك ولا نسؤك)، وأما رحمته بغير المسلم فحرصه على إسلام أساطين الكفر من صناديد قريش، وكذا رحمته بجاره اليهودي وهو يعالج سكرات الموت فدعاه إلى الإسلام فاسلم وفاضت روحه فقال صلى الله عليه وسلم: {الحمد لله الذي أنقذه من النار}، وأما رحمته بالحيوان فظهر ذلك جليا في أمره لصحابه أن يردوا فراخ العصفورة لأمهم رحمة بها لما رآها ترفرف بجناحيها على رؤوس الصحابة فقال صلى الله عليه وسلم: {من فجع هذه بولدِها؟ رُدُّوا ولدَها إليها}، واستنكر على أصحابه إحراق وادي النمل بالنار.
وأما رحمته بالجماد فرجوعه لجذع لما حن إليه وسمع أنينه فرجع إليه وضمه إليه:{إِنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالتْ امرأةٌ مِنَ الأنصار أو رجل: يا رسولَ اللهِ ألا نجعل لك منبراً؟ قال: إِنْ شِئْتُمْ، فجعلوا له منبراً، فلمَّا كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلةُ صياح الصبيِّ، ثم نزل النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فضمَّها إليه تئن أنين الصبيِّ الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها}
وأما رحمته بالعدو في حالة الحرب فبين وواضح من خلال وصاياه لقادة الجيش حيث قال ابن عباس:{كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا بعَث سَريَّةً قال اغزُوا بِسمِ اللهِ وفي سبيلِ اللهِ فقاتِلوا مَن كفَر باللهِ لا تغُلُّوا ولا تغدِروا ولا تُمثِّلوا ولا تقتُلوا وليدًا ولا امرأةً ولا شيخًا} وفي رواية {ولا راهبا في صومعته}.
بل ولو عدنا لقصة فتح مكة حينما دخلها فاتحا بعد سلسلة من المعاناة والاضطهاد والإخراج من أحب البقاع إليه يعود بعد عشر سنوات وقد بيع بيته وصودرت أمواله فعفا عن أهل مكة وقال: {اذهبوا فانتم الطلقاء}، بل حتى أولائك الذين أهدر دماءهم لم يقتل الكثير منهم بل عفا عنهم وهو خلاف ما يفعله الملوك المنتصرين، حيث كانوا يستبيحون المدن للجنود فتكا وإزهاقا للأرواح وانتهاك للأعراض ومصادرة للأموال.

مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف
كلما قرب موعد المولد النبوي الشريف تبارت الأقلام في الكتابة بين الموافق للجواز والرافض له، وتقام الدنيا من أجل مسألة بسيطة في الفقه الإسلامي، يُشْغَلُ الناس بها أسابيعَ وشهورًا، ولو أن هذه الجهود انبرت للدفاع عن الإسلام، ولمحاربة المنكرات لاستفاد الناس ولنقصت المنكرات، فلماذا يحارَبُ الشيءُ الصغيرُ، ويُتْرَك الشيءُ العظيم؟ هذا خلل كبير في التفكر الديني، يجب على العلماء دراسته للتخلص منه؛ فلكل رأيه وعلى كل من اقتنع برأي الالتزام به دون أن ينكر على مخالفه؛ وهذه المسألة يتجاذبها وصفان هما:
(الأول): إنه احتفال عادي بحدث عظيم هو ميلاد أعظم الخلق على ظهر الأرض وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. والأصل في الاحتفالات الإباحة كعيد الاستقلال وغيره؛ وهي تدخل في باب العادات، فإذا اعتاد الناس مثلا التجمع لقراءة القرآن بعد صلاة العصر، فلا أحد يقول بحرمته ولو كان المفعول عبادة؛ لأنها من العبادات المطلقة غير المحددة. والتجمع لعيد المولد النبوي الشريف يشمل بعض العادات كإعداد الطعام وبعض الحلويات، وبعض العبادات كالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الأخيرة تدخل في باب العبادات المطلقة التي يجوز فعلها من غير تحديد لعدد معين، ولا صفة معينة، ولا وقت معين، والمركب من أفعال جائزة جائز؛ لأنها وسائل مشروعة في أصلها وأفضت إلى مباح مشروع في أصله، وهو الاحتفال.
وإنما خص هذا اليوم بالاحتفال لما فيه من أفضلية مولد خير البرية، فهو مفضل بلا خلاف على سائر الأيام العادية، وتخصيصه عادي وليس شرعيا. إلا إذا اعتقد الفاعل التعبد المحض الخالص الذي يتقرب به إلى الله كالصلاة والصيام، فهو مبتدع لا شك فيه.
وهذا الاحتفال لابد أن ينضبط بضوابط شرعية لا تخرجه عن دائرة المباحات إلى المحرمات أو المكروهات، فيكون التذكير بمناقبه العطرة، بحيث يُترجم الكلام والمحبة إلى عمل واقعى. ولذا ينبغي أن لا يكون ملتبسًا بنيّة السنّية، ولا بنيّة الوجوب، فإذا فُعِلَ بهذه الضوابط، ولم يُلَبَّسْ بشيء مناف للشرع كالبدع، والاختلاط بين النساء والرجال، والإسراف والبذخ في الطعام والشراب جاز فعله.
ففعل المولد بحب محض للنبي صلى الله عليه وسلم لا بأس به إن شاء اللهُ وهو مأجور باعتبار مشروعية الأجر على فعل المباحات إذا قصد بها الطاعة والتقرب، كمن يتقرب بالنوم أو الأكل للقدرة على فعل الطاعات. والأصل أن كل مظهر من مظاهر الابتهاج العادية المنضبطة بالضوابط الشرعية الخالية عما نهى الله تعالى عنه أمر مطلوب ومستحسن.
(الثاني): إن هذا الاحتفال بدعة لأنه عبادة، وهو أقوى ما قيل من الأدلة في هذه المسألة. والواقع يدل على خلاف هذا. فهذا الاحتفال يدل واقعه والظروف المحيطة به على أنه عادة وليس عبادة، إذ الأصل في العبادة ضبط صورتها، وشكلها، وحقيقتها، كما سبق. والأصل في العادات في الغالب الاختلاف، كما هو مشاهد في مظاهر الاحتفال بين دولة مسلمة وأخرى، ولما كان الأصل في العادات الإباحة دل ذلك على إباحته، ويحرم ما اقترن به من المحرمات كما سبق. ولو وجد من يعتقد أن الاحتفال بالمولد هو عبادة محضة مثل عبادة الصلاة والصيام وقراءة القرآن فهو مبتدع بلا خلاف.لذا وجب حمل الأشياء على حقيقتها فتعطى حكمها الشرعي المناسب لوجود المناط الشرعي المناسب، وهو عدم اعتقاد العبادة في هذا الفعل أصلا، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما.وحمل الشيء على غير حقيقته يترتب عليه حكم شرعي باطل؛ لأن الوصف الذي أعطي له وهو التعبد ليس مناطا شرعيا لهذا الفعل؛ ولا تندفع الإباحة بدعوى الاختلاف الحاصل في تاريخ مولده لأن التاريخ المعتمد هو ما غلب عليه الظن والعمل بغلبة الظن قاعدة شرعية معروفة، وفي المباحات من باب أولى، كما لا يندفع بدعوى أن الشيعة أول من أحدثه لأن هناك روايات أن أول من احتفل به هو حاكم أربيل الملك تـ630 هجري، والى القول بالإباحة ذهبت كبرى مؤسسات الإفتاء في العالم الإسلامي.

وقفات في ذكرى المولد النبوي
في هذه الأيام تبتهج القلوب، وتسر النفوس وهي تتذكر مولد خير الأنام، محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، الذي منَّ الله تعالى به على المؤمنين فقال: <<لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ>>، بل رحمة للعالمين قال تعالى: <<وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ>> وبهذه المناسبة الطيبة نقف وقفات مع هذه الذكرى؛
(الأولى) حول الغاية من الاحتفال بذكرى مولده؛ وهي تمجيد وتعظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورسالته الخالدة، تعبيرا لحبنا له وفرحتنا به وإكبارنا لهذا النبي.
(الثانية): محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم النعم علينا به أخرجنا الله من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية؛ فحري بنا أن نشكر الله على نعمة بعثة المصطفى، ونحتفي بميلاده ونتذكر أيامه ونتدارس سيرته ونتبع سنته، ونمتثل هديه، وإن كان الواجب فعل ذلك على مدار العام، ولكن في الذكرى منفعة للمؤمنين.
(الثالثة): الفرح به صلى الله عليه وسلم فإن لم نفرح برسول الله فبمن نفرح إذن، يقول الله تعالى: <<قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ>>، فيدخل في عموم هذا النص الفرح بمولده وبعثته ودينه وسنته.
(الرابعة): إن أعظم محبوب بعد الله هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعلت محبته فوق محبة النفس والمال والوالد والولد، وفي هذه المناسبة يتجدد الشوق والحنين، وتسمو مشاعر الإيمان واليقين بعظمة هذا النبي الكريم، فتنبض القلوب بحبه وتلهج الألسنة بذكره، وتتحرك الجوارح باتباعه، كيف لا؛ وحبه كمال للإنسان وعلامة من علامات الإيمان فعن أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم: <<لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين>> كيف لا نحبه وهو شفيعنا، وأحب إلينا من أنفسنا وأهلينا وأموالنا، وهو الحريص علينا الرؤوف الرحيم بنا.
(الخامسة) : اتباعه صلى الله عليه وسلم وتعلم سيرته؛ فالمحبة الصادقة تقتضي تحقيق المتابعة له صلى الله عليه وسلم وموافقته فيما يحب وفيما يكره، قال تعالى: <<قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ>>.
 علينا أن نستغل هذه المناسبة لنُعلم أبناءنا وناشئتنا في المدارس سيرته؛ حتى نذكرهم بهذه العطرة ونربطهم برسالته المتميزة وشريعته الغراء، فقد كان الصحابة يعلمون أبناءهم المغازي والسير كما يعلمونهم السورة من القرآن.
(السادسة): السير على سنته ومنهجه وتطبيقها في واقعنا وهذا هو  الهدف من وجودنا حتى نسلك ونسير وفق منهج الله وسنة رسوله؛ فلن يجدي نفعا مجرد مدحنا للنبي طول حياتنا ما لم نقتدِ بسنته في بيوتنا  في أعمالنا، في حركاتنا وسكناتنا، في أفراحنا؛ فما أحوج العالم اليوم إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعيده إلى الطريق القويم ويخرجه من أزماته ويحل له مشاكله.

قصيدة شعب الجزائر مسلم قيلت بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي
 لقد قيلت هذه القصيدة في حفل أقامته مدرسة التربية والتعليم في قسنطينة بمناسبة المولد النبوي سنة 1356 هـ/ 1937م، حسب صفحة عبد الحميد بن باديس وهذا ما تؤكده كلماتها وعنوانه الموسوم بـ" تحية المولد الكريم" وفيها:
حـيـيـت يـا جـمعَ الأدب *** ورقـيـت سـامـيـةَ الرتبْ..
أحـيـيـت مـولـد من بـه ** حـييَ الأنـام على الحِـقَـبْ
أحـيـيـت مـولـده بـما ** يُبرى النـفـوسَ مـن الوصبْ
بالـعـلـم والآداب و الـ ** أخـلاق في نـشءٍ عـجـبْ
نشء على الإسلام أسـ … ـس بنائه السامي انتصب
نشء بحب محمد غـ … ـذاه أشياخ نجب..
يا نشء يا ذخر الجزا … ئر في الشدائد والكرب
صدحت بلابلك الفصا … ح فعم مجمعنا الطرب..
وأريت للأبصار ما … قد قررته لك الكتب
شعب الجزائر مسلم … وإلى العروبة ينتسب

 

الرجوع إلى الأعلى